دراسات ومقالات

ياسر عبدالرحمن يَكتُب : رؤية في رواية نشأت المصري الإزعاج فى (الكلاب لا تنبح عبثا)

إذا سلمنا بقول إليوت : إن الأديب الحقيقي هو من يملك المقدرة على إزعاج المتلقى . فإن رواية الكلاب لاتنبح عبثا الحائزة على جائزة إحسان عبد القدوس ـ المركز الأول ـ مؤخرا نموذج حى لهذا الإزعاج ، وبداية نذكر ونتذكر أن هذا الروائي الموسوعي صاحب المائة كتاب، وال 12 رواية يقول عنه الناقد أ.د عوض الغباري: إنه كاتب فذ، بارع في وصف الشخصيات . كما يشيرالراحل أ.د محمد علي سلامة إلى شيوع المشهدية في كتاباته، حيث تحويل الحوار إلى مشاهد قابلة للتصوير. وهو ما عبر عنه د. ياقوت الديب بتوفر الحس السينمائي العالي.
أيضا يوضح كل من أ.د وائل علي السيد ، ود. شعبان عبد الحكيم أن روايات المصري تمتاز بالتركيز على الجانب الإنساني. وفى حديث أديبنا عن فضاء الكتابة يقرر أن الإبداع لاحدود له ولاسقف ، إلا فيما يدمر الأخلاق والثوابت الروحية.
وكل اللمحات السابقة تتجلى في رواية المصرى الأخيرة، فهو يصحبنا مع السيرة المزعجة لسهام بطلة الرواية، وهى ليست أما عادية، فقد نبتت في بؤرة الفقر والمعاناة،وحددت لنفسها هدفا مبكرا هو التخلص من ميراث البؤس الاجتماعي،فتزوجت من الشاب الجميل الذي وعدها بالكثير،لكن الموت اختطفه في العام الأول لتصبح أرملة وأما لرضيع في عامه الأول، وعاشت حالة هروب دائم، جعلت الأمومة في الدرجة الثانية، فكان طفلها رزق هو الضحية الأولى، وأصبح صمته طفلا وشابا ثرثرة موجعة.
تزوجت سهام، وتركت رضيعها لعائشة، جدته لأبيه، وخاضت تجربة زواج عاصفة حيث أهلك فيروس سى زوجها الثاني، وتعرضت لإغراءات عاتية حاولت مقاومتها، وعبئت رياح قاسية بابنتها مديحة التي تشبهها في كل شىءبينما استطاعت ابنتها الثانية ألفت أن تصمد بمساعدة جارها عم ميخائيل، سعت سهام إلى الاقتراب منه في توجس مرات محدودة، وهو كذلك عندما كبر وأصبح تاجرا ناجحا عبثت به مشاعره، وتأرجحت، وطوال الرواية تسأل سهام نفسها: هل تستطيع أن تعوض رزق عما لحق به من حرمان في طفولته، وهل لها حق فيه وهى التي باعته مبكرا؟.
استمرت هواجس الأمس البعيد ، والأمل الخابي تلعب بها، وفي مرحلة وفاتها تحدث مفاجآت مذهلة، تكشف عن الجانب الروحي والإنساني المرتبط بثوابت الفطرة، وربما هى الفطرة التي دفعت سهام وابنتها مديحة إلى مغالبة أمواج الحياة وتجنب الوحل المتربص بهما، فهل افلحت سهام وشبيهتها في الإفلات من سعار الرغبات؟ وكيف تواصلت العلاقات الشائهة بين الأم وابنها رزق، وبين رزق وأختيه؟.

الروائي نشأت المصري
الروائي نشأت المصري

لقد برعت سهام في التخطيط وانتهاز الفرص المواتية، فماذا أعطتها الحياة؟ وكيف ظل ولدها رزق علامة استفهام سوداء لا تفارق آفاقها ، حتى الكائنات الأخرى صارت طرفا في المعادلة، فالكلاب الضالة تطارد سهام لأنها لصة سرقت الحنان الذي كان من حق طفلها رزق، وكلما زارت سهام ولدها لفحتها نيران الذكريات الصعبة،تحكى زوجة رزق لأمه (ص 131) : ما يحيرني يا أمي أن رزق تنتابه فواصل حزن، ينقبض وجهه، وينادينى بندائه المفضل، بكلمة أمي ، يقول ـ ضميني فإنني أرتجف، حتى يرحل الأسى عن وجهه الجميل .
إن رواية الكلاب لا تنبح عبثا، رواية واقعية تم معالجتها بأسلوب رومانسي يتلاءم مع ما يمور في وجدانات الشخصيات الرئيسة، وهم سهام ورزق وابنتاها، وزوجها الثانى فرج. وقد نجح المؤلف في توظيف الشخصيات الأخرى الثانوية توظيفا باهرا يؤثرفي القارىء، ويحمل إليه رسائل مهمة، ومن هؤلاء ، الجواهرجى العاشق، وبائع الفريسكا. فضلا عن الحوارات السريعة المركزة الشائقة، وفي ذلك يصف د.سلامة تعلب أسلوب المصري بشكل عام قائلا:إنه مهندس الرواية وفيلسوفها، وله قدرات عجيبة على رسم الشخصيات، كما تحضرني كلمة للروائية الفلسطينية بشرى أبو شرار:إن نشأت المصري كاتب بارع ومتمكن وحروفه تلامس القلب . ويذهب بنا د. صلاح شعير إلى غايات الكاتب فيرى أنه ينتصر للقيم الروحية الراقية.وهو ما بينه أ.د صابر عبد الدايم فى حديئه عن الجمع بين عنصرى الأصالة والمعاصرة.
وننتقل إلى التكنيك الروائي الذي تفردت به هذه الرواية ، إنه يقدم نمطا جديدا من السبك الروائي، حيث تسبق كل فصل من الفصول العشرة صفحة أو أقل تحت مسمى عتبة الفصل كذا بعنوان مستقل، ومحتوى تلك العتبة عبارة عن كلمات لإحدى شخوص الفصل تعبر عما يتمنى أن يقوله ولا يستطيع أن يقوله، ربما عجزا أو جهلا ، فيتولى السارد الإفصاح والإبانة، وقد أفاد ذلك في فهم هذه الشخصيات مهما كانت درجة عجزها، والغريب أن هذه الصفحة السابقة على الفصل إذا حذفت تستقيم الرواية دون احساس بالنقص ، لأن تلك العتبات مجرد إضاءات عامة وليست تمهيدا للفصول.بما يعني أنها تعد تنويعات على الفصل قبل أن يبدأ . ونأخذ مثلا من عتبة الفصل الثاني ، وعنوانها : من يملك قلبا: صمت عائشة ( الجدة ) يكاد ينطق : لم لم تختر أمك يا رزق؟/ النهر كذلك لا يبدى رأيا فيمن يشرب من مائه/ماذنبك أو ما ذنبى؟/ لما تسقط في بئر/ تدفع أنت الثمن ولا يدفعه البئر/ عجبا يحيينا بعض الماء وبعض يغرقنا . وقد لفتت هذه الصياغة الشعرية ال أ.د صبرى أبوحسين في دراسته عن روايات أخرى.
ومن الجميل حقا أن هذه الرواية صارت إحدى مواد الدراسة فى منهج طلبة الدكتوراه بكلية دار العلوم، حيث طالت المناقشة حول تلك العتبات.
ولأن الرواية حافلة بالتذكر والذكريات، أذكر أن الروائي الكبير ابراهيم عبد المجيد كتب اسم نشأت المصرى ضمن الذين يستحقون الترشيح لجائزة نوبل( مقال سؤال نوبل في القدس العربي في14/10/2022 .

 

 

 

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى