أخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات

منال رضوان تكتب هيمنة السرديات الغربية في ضوء كتاب غاياتري سبيفاك “هل يستطيع التابع أن يتكلم؟”

إن السرديات الحضارية التي شكَّلت الهوية الثقافية للأمم عبر العصور، أصبحت اليوم في قلب النقاشات الفكرية المعاصرة، لا سيما في ظل التحديات التي يطرحها النقد ما بعد الحداثي ودراسات ما بعد الاستعمار، هذه السرديات التي تعمل كمرآة تعكس تطلعات الشعوب وآمالها وتصوراتها عن تاريخها وحاضرها.
في العصر الحالي، حيث أصبح العالم أكثر ارتباطًا وتنوعًا، تواجه هذه السرديات تهديدًا حقيقيًا من جديد، خاصة في ظل الجهود التي تبذل لتفكيك المركزية الثقافية الغربية التي كانت تسود معظم السرديات الكبرى.
أحد المفكرين الذين تناولوا هذا الموضوع بعمق هي غاياتري شاكرافورتي سبيفاك (١٩٤٢ -) ، التي قدَّمت إسهامًا مهمًا في فهم العلاقة بين القوى الثقافية المهيمنة والأصوات المهمشة، في دراستها الأهم “هل يستطيع التابع أن يتكلم؟”.
إذ تساءلت سبيفاك عن قدرة الشعوب المستعمَرة والمهمشة على الظهور في السرديات الكبرى التي تهيمن عليها القوى الاستعمارية، كما ترى سبيفاك أن التابع لا يمتلك الفرصة للتعبير عن نفسه ضمن السرديات التي يكتبها المنتصرون، مما يجعل الصوت الثقافي لهذه الشعوب غائبًا أو مُشوهًا.
وبناءً على هذا الطرح، تظهر الحاجة الملحة لإعادة التفكير في السرديات الحضارية التي تشكَّل من خلالها الوعي الثقافي للأمم، ففي ظل هيمنة السرديات الغربية الكبرى، خاصة تلك التي تروج لتفوق الغرب على بقية الأمم، أصبح من الضروري إعادة النظر في تمثيلات التاريخ والحضارة، وفتح المجال لسرديات أكثر شمولية ومرونة يمكنها أن تعكس تعددية الأصوات وتنوع الثقافات، لقد سادت خلال القرون الماضية تلك السرديات الثقافية التي تعتبر الغرب هو ذلك المركز الذي يُفترض أن تدور حوله الثقافات الأخرى كلها.
هذا التوجه لم يكن بناءً فكريًا فقط؛ بل كان أيضًا أداة فاعلة في فرض الهيمنة الثقافية والسياسية، ففي القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تم استخدام السرديات الغربية لتبرير الاستعمار والسيطرة على الشعوب المستعمَرة، كما روج لها العديد من المفكرين الأوروبيين الذين تبنوا فكرة “الرسالة الحضارية” التي تدَّعي تفوق الغرب على الشرق والشعوب الأخرى؛ لذا ربطوا هذه السرديات ببنية فكرية متكاملة تقوم على مفاهيم مثل التقدم والتحضر، ما جعل تلك الشعوب تظهر كـ “تُبَّع” في مسار الحضارة.
هنا، تبرز أهمية الفكر ما بعد الاستعماري في تفكيك هذه السرديات، كما قدَّم إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” نقدًا حادًا لهذه المركزية الغربية في السرديات؛ موضحًا كيف أن الغرب قام بتشكيل صورة مشوهة للشرق باستخدام خطاب أكاديمي وأدبي ساهم في تبرير الهيمنة الاستعمارية، ورغم أن هذه السرديات قد تمكنت من التأثير في الوعي الجماعي للعالم لعدة قرون، فإنها اليوم تواجه تحديات كبيرة في ظل نقد ما بعد الحداثة، والدراسات ما بعد الاستعمارية التي تسعى إلى توسيع هذا الأفق الثقافي لتشمل وجهات نظر أخرى.
بالعودة مرة أخرى إلى إحدى أهم القضايا التي تثيرها سبيفاك، ألا وهي مسألة “من يستطيع التحدث؟”، وهو السؤال الجوهري الذي يعود بنا إلى فكرة الهوية الثقافية.

إذا كانت السرديات الحضارية تشكل جزءًا أساسيًا من هوية الأمم، فإن السؤال يصبح: هل الهوية الثقافية تُبنى فقط من خلال سرديات معينة؟ أم أن بإمكاننا إعادة صياغة هذه الهوية بطريقة تعكس التنوع الثقافي داخل الأمة نفسها؟ على سبيل المثال، الهوية العربية الإسلامية، التي تستند إلى سرديات كبرى مثل: الرسالة المحمدية والفتوحات الإسلامية، هي هوية غنية ومعقدة بالفعل، لكنها في الوقت نفسه تضم أصواتًا متعددة قد تكون غائبة في السرديات الرسمية، مثل الفئات المهمشة، وأصوات النساء في غير وقائع الحرب أو الأحداث الكبرى، أو تلك التي تحمل موروثات ثقافية متنوعة من المناطق المختلفة داخل العالم العربي.
إن هذا التحدي في إعادة بناء الهوية الثقافية هو ما يطرح إمكانية لصياغة سرديات بديلة تدمج هذه الأصوات وتوفر مساحة أكبر للتنوع الثقافي، ومن خلال ذلك، يمكن إعادة النظر في تاريخ الأمم، وتقديم سرديات تأخذ في اعتبارها مكونات متعددة للهوية البشرية، بعيدًا عن الرؤية الأحادية التي تروج لها السرديات الكبرى.
وفي الختام، يمكن القول إن كتاب “هل يستطيع التابع أن يتكلم؟” للناقدة والمنظرة الثقافية غياتري سبيفاك هو عمل أكاديمي مؤثر؛ إذ يعالج قضايا السلطة والتمثيل والتهميش.
كما تتساءل سبيفاك: هل من الممكن أن يجد التابع صوتًا في سياقات ثقافية وسياسية تهيمن عليها القوى التقليدية؟ لتسلط الضوء على فكرة أن التابع لا يستطيع التحدث بوضوح في إطار هيمنة السلطة الغربية، حيث غالبًا ما يتم تصويره أو تمثيله بواسطة الآخرين، فتقدم سبيفاك من خلال كتابها نقدًا لاذعًا للخطاب الأكاديمي الغربي الذي يتجاهل أو يشوه تجارب المجتمعات المهمشة عن عمد.

منال رضوان
أديبة وناقدة مصرية
عضو لجنة الإعلام باتحاد كتاب مصر

هوامش:
ـ هل يستطيع التابع أن يتكلم غاياتري سبيفاك ترجمة خالد حافظي.
ـ الاستشراق إدوارد سعيد ترجمة محمد عناني.
ـ نظرية ما بعد الكولونيالية ليلا غاندي، ترجمة لحسن أحمامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى