د. محمد سعيد شحاتة
(الجزء الثاني)
تحدثنا في الجزء الأول من الدراسة عن العنوان من حيث كونه مفتاحا تأويليا مهما، وعتبة الولوج الأولى إلى عالم النص، ودسائسه غير الممكنة وقلنا إن عنوان ديوان (ذاكرة منسية) للشاعر أحمد حسن عوض يتخذ منذ البداية الثنائية الضدية آلية اشتغال، وقد بدت تلك الثنائية واضحة على المستويين اللفظي والمعنوي، وهو ما يعني أن الثنائيات الضدية سوف تتغلغل في الديوان بصورة عميقة وتتحكم في دلالاته، وتحكم حركة المعنى فيه، وأشرنا إلى أن الديوان ينبئنا منذ البداية أنه سوف يتحرك في إطارين: الإطار الأول هو اسم الفاعل واسم المفعول، أي المؤثر والمتأثر، والإطار الثاني هو التذكر والنسيان، ومن الملاحظ أن كل إطار من هذين الإطارين ينتمي إلى دائرتين دلاليتين متضادتين سوف تتحكمان في تشكيله، ولكن الإطاربن يتعانقان في جديلة واحدة لتشكِّل الرسالة والرؤية الفكرية التي تتخفى خلف شبكتيْ العلاقات اللغوية والعلاقات البلاغية المنسوجتين بعناية كبيرة في الديوان، وفي هذا الجزء من الدراسة سوف نتحدث عن تجلي الأنا الشعرية في الديوان، ونرصد ملامحها، لعلنا نستطيع بذلك أن نكشف عن عالم النص الكامن خلف الأنسجة اللغوية المنتشرة في الديوان، ونكشف كذلك عن النفس الإنسانية وعالمها المتموَّج والمتخفي في اللاوعي لحظة صياغة النص الشعري.
ملامح الأنا الشعرية في الديوان:
تنشر الأنا أجنحتها بين فروع العلوم الإنسانية المختلفة؛ إذ يتوزع حضورها بين الفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، وغيرها من العلوم، مما يجعلها مستعصية على التحديد الاصطلاحي؛ فهي تتخذ في كل علم من العلوم الإنسانية معنى يتفق ومفهوم هذا العلم ومجالات بحثه، كما أنها ” تتسم في حقل العلوم الإنسانية – على وجه الخصوص – بالاتساع الذي يكفل لها المراوغة والدينامية، وإنشاء الدوائر المعرفية التي لا تخنق الأنا بقدر ما تساعدها على تحقيق حريتها، ونموها في ضوء تلك الفروع المعرفية من العلوم الإنسانية “.(تجليات الأنا في شعر ابن الفارض، ص 191) وإذا كانت بعض العلوم الإنسانية قد حاولت تحديد مفهوم الأنا فإن الأنا الشعرية مازالت تبحث عن تحديد؛ إذ يسيطر المفهوم الفلسفي على المصادر والمراجع النقدية التي تتخذ من نفسها مرجعية لتقديم تصور لحضور الأنا في النص الشعري، ولم يشف (معجم مصطلحات الأدب) غلة الباحثين في حديثه عن الأنا، فرغم ضآلة ما قدمه، جاء حديثه متعلقا بأثواب الفلسفة، سائرا على دربها.
على أن من الباحثين من حاول تقديم وصف للأنا الشعرية، إذ يقول: “يمكن لنا أن نصف الأنا الشعرية بأنها ذلك الضمير الذي يجول في النص الشعري؛ ليحقق الوعي الذاتي داخل النص، ويظهر بضمير المتكلم والمخاطب والغائب، إنه مجموعة من الضمائر التي تنشد الوحدة فيما بينها لتشكل في نهاية الأمر مفهوما كليا عاما للأنا الشعرية داخل النص، وعلى ذلك يصبح لكل نص أناه الشعرية التي تحدَّد من خلال تفاعل تلك الضمائر داخل النص”.( السابق ، ص 195) وبرغم ما يبدو على هذا الوصف من ملاحظات فإنه يبقى مقتربا من طبيعة الدراسات الأدبية والنقدية أكثر من تعلقه بأثواب الدراسات الفلسفية والنفسية، والعلوم الإنسانية الأخرى.
وسوف نحاول رصد ملامح الأنا الشعرية في ديوان (ذاكرة منسية) لعلنا نستطيع إضاءة النص الشعري، واكتشاف بعض ملامح تلك الروح الشاعرة التي تنساب كالنهر الرقراق فيَّاضة بما تحمل من مشاعر، وما تعبِّر عن رؤية أراها جديرة بالكشف والمناقشة.
الأنا في مرآة المتلقي:
أولا: الوعي: تبدو الأنا في النص الشعري واعية تماما، ويأخذ هذا الوعي مستويات متعددة، يعبر كل مستوى من هذه المستويات عن ملمح من ملامح الأنا الشعرية:
أ – الوعي بالتناقض الفكري والمغالطات المنطقية، أما بالنسبة لوعي الأنا الشعرية بالتناقض الفكري فقد بدا ذلك في أكثر من موضع في الديوان، ففي قصيدة عصفور البنادق على سبيل المثال يبدأ الشاعر بمقدمة تتوافق مع رؤيته الفكرية التي ينبغي أن تكون رؤية كل إنسان عربي حيال قضاياه المركزية الكبرى، فيقول:
القدس دعوة عاشق قبل الرحيل
إلى مدائن الحزن النبيل
هي ما تبقَّى من حطامٍ فوق أفئدة السنين
هي زفرة الروح الأخيرة فوق صخر الراحلين
هي آخر الأوراق تسقط فوق مائدة التفاوض
والتقامر والهروب إلى الهروب
هي لعبة العصر الكذوب
وما تهدَّم من جدار للبكاء على الذنوب
إذا كانت قضية القدس بهذه المكانة فإن الاهتمام بها يجب أن يكون على قدر مكانتها، وبخاصة إذا كان ذلك ممن هي قضيتهم المركزية، ونلاحظ في وصف الشاعر أنه قد حرص على تضمين مجموعة من الألفاظ الدالة على تلك المكانة (دعوة عاشق – ما تبقَّى – أفئدة السنين – زفرة الروح الأخيرة – آخر الأوراق) وكلها ألفاظ تعبر عن ضرورة التمسك بالقدس من حيث كونها ما تبقى من حطام، ومن ثم ينبغي الحفاظ عليها، كما أنها زفرة الروح الأخيرة ومن الضروري مراقبة تلك الزفرة الأخيرة والحفاظ عليها؛ لأن ما سيأتي بعدها سوف يكون الموت والنهاية، وفي هذا الإطار أيضا يأتي التركيب الإضافي (آخر الأوراق) إن الألفاظ كلها تحمل دلالة واضحة على مكانة القدس، ثم يأتي التحول الدال على التناقض الفكري، فيقول:
والناس تقرأ لا انفعال ولا أرقْ
هذي التلالُ من الورقْ
قد قوَّضت نور الأفقْ
ما عاد يزخر بالشموس وبالصهيل
ما عاد يعتنق النخيل
ما عاد فارسه النبيل
يتخاصر الفجر الجميل
وهنا يتبدّى التناقض الفكري؛ فالناس يحملون للقدس مكانة كبيرة في نفوسهم، ومع ذلك فإن ردة الفعل من الناس لم تكن بقدر هذه المكانة التي تتمتع بها القدس، والتي أوردها الشاعر في بداية النص (دعوة عاشق – ما تبقَّى – أفئدة السنين – زفرة الروح الأخيرة – آخر الأوراق) فهم يحبون القدس ويريدون لها أن تعود إلى سابق عهدها، ولكنهم (والناس تقرأ لا انفعال ولا أرقْ – هذي التلالُ من الورقْ – قد قوَّضت نور الأفقْ) وإذا كان الشاعر في هذا المقطع من القصيدة قد نفى وجود من يتعاطف مع القدس، أو يشعر بمكانتها ممن يجب عليهم الدفاع عنها فإنه لم يتوقف عند هذا الحد من الدلالة، ولكنه يزداد تعميقا للرؤية وكشفا عن التناقض الفكري الذي يعيشه المجتمع العربي بكل مكوناته، فيقول:
هذي النوافذ قابعات في السكون
تتفيَّأ النسمات في ضوء النيون
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، ولكنه يأخذ منحى أشد قسوة على النفس الإنسانية كاشفا عن التحولات الكبرى التي حدثت في الرؤية الفكرية للإنسان العربي ونظرته إلى قضية القدس، فيقول:
وتقوم إحدى السيدات لتفتح التلفاز
تنظر ما يقول
“لا ليس في الإمكان أبدع أو أجل من السلام
هل في الحياة أحن من صوت الحمام؟!
هل في الحياة أرقّ من عذب الكلام؟!
هل ذاك أجمل أم رصاصٌ أم بنادقْ؟!
هل ذاك أفضل أم مدافع أم زوارقْ؟!
أتحبُّ أن تمشي حزينا فوق ألغام الحقول
وبين أنَّات الثواكل؟
أتحبُّ أن تمضي تقاتلْ؟
وتشمّ رائحة الدخان وقد تقيَّد بالسلال
في الخنادقْ
أم أن تعانق نسمة وسط الحدائقْ؟
وتطير حرًّا مثل عصفور الحدائق؟”
إن التناقض الفكري هنا ناشئ من طبيعة الأسئلة المنبنية على مقدمة منطقية سليمة؛ لكي نستنتج منها نتائج خاطئة ولكنها متوافقة مع ما يريد السائل أن يصل إليه، وهذا ما يسمى بالمغالطة المنطقية؛ فالمغالطة المنطقية ترتبط ببناء الحجج المستخدمة لإقناع المتلقي بوجهة نظر مُعدَّة سلفا، ومن ثم فإن المغالطة المنطقية ما هي إلا نوع من أنواع التضليل، ولننظر إلى بناء الحجة هنا: “ليس في الإمكان أبدع أو أجلّ من السلام) هذه هي المقدمة التي أرادها المتكلم والتي سيبني عليها ما يأتي من قناعات يريد أن يغرسها في ذهن المتلقي (لا أحد يحب صوت الرصاص أو البنادق – لا أحد يفضِّل المدافع أو الزوارق – لا أحد يحب أن يمشي حزينا بين الألغام – لا أحد يحب أن يرى الثواكل – لا أحد يحب رائحة الدخان أو القيد في السلاسل) والعكس صحيح (كلنا نحب صوت الحمام – كلنا نحب عذب الكلام – كلنا نحب أن نعانق النسمات في الحدائق – كلنا نحب أن نكون أحرارا كالعصافير في الحدائق) أما المغالطة هنا فتأتي من النتيجة التي تنبني على ذلك كله، وهي ضرورة التخلي عن القدس؛ لأننا لا نحب صوت الرصاص، ولا نحب رائحة الدخان أو القيد في السلاسل، ونحب صوت الحمام كما نحب عذب الكلام … إلخ، وهنا يأتي المقطع الأخير من النص الذي يواجه الآخر/ صوت التلفاز/ الإعلام بحقيقة الواقع، فيقول:
يا سيدي هذي الحمائم قد تهاوت
فوق أسوار المدينة
متسربلات بالدماء وبالضغينة
ما عاد رجع غنائها يعطي رنينه
لم يبق غير صدى هديل للصلاة على الجنائز
غير أحزان اليتامى وانتحابات العجائز
والقدس تخرج للحصار بروحها العزلاء
تركض فوق أشلاء الضحايا
وتلمّ آخر ما تبقى من وميض في العيون
ومن رحيق في الحنايا
لقد استطاع النص أن يكشف بوضوح عن التناقض الفكري في الرؤية التي يستند عليها الإعلام في تسويق ما يريد، ويغلق النص ضفتيه على هذا الكشف؛ ليضعنا أمام وعي الأنا الشعرية بالتناقضات الفكرية المحيطة بها. ومن التناقض الفكري أيضا الذي يتجلى في الديوان، ما جاء متعلقا بحديث الأنا الشاعرة عن نفسها في بوح أشبه بالاعتراف، والشعور بالمرارة:
من أين يتبعك الخلود
وأنت سار في تفاصيل المدينة بين بين؟!
نهرٌ تفيض بك المتاهة
كلما شارفتَ بين الضفتين
تمضي إلى جسد الرحيل
وتنطفي بلحاظ عين
وتعيد ترتيل الغواية
تنتشي عند اشتجار حقيقتين!!
فالأنا الشاعرة هنا تقف أمام مرآة نفسها فترى أنها تسعى إلى الخلود، وهو الطموح الأول لديها، ولكنها تقف في منطقة وسطى (بين بين) أي أنها لا تستطيع أن تأخذ القرار الحاسم (نهر تفيض بك المتاهة كلما شارفتَ بين الضفتين) إن التناقض هنا ناشئ من رغبة الأنا الشاعرة في التقدم إلى الأمام والحصول على الخلود المنشود، ولكن ما تفعله على أرض الواقع شيء آخر؛ إذ إنها تقف في منطقة وسطى بين بين، فلا هي استطاعت أن تحقق الخلود الذي تريده، ولا استطاعت أن تحتفظ بملامحها النفسية الصافية.
ب – الوعي بملامح الأنا وما تعانيه، وهنا تبدو الأنا في مرآة المتلقي كاشفة عن ملامحها، وما تعاني منه، وطموحها وانتكاساتها، وأشواقها وضعفها، وهو ما عبَّر عنه الديوان صراحة في نص (مفتتح) الوارد في بداية الديوان:
تعبتُ
من انتظار الياسمين لشرفة الفرح المطلِّ
على فضاءٍ ليس لي
فأنا الرحيل!
وقوله (تعبتُ) يمثل الوعي التام بما تعانيه الأنا الشاعرة؛ حيث تعترف أنها تنتظر الفرح المطل على فضاء ليس لها، والقول (ليس لي) هو يقين مطلق لدى الأنا الشاعرة، ولكن في طيات هذا الاعتراف تكمن المأساة؛ فهي لا تستطيع المغادرة رغم أنها تعرف عبثية ما تفعل، إنها لا تملك سوى البوح والاعتراف:
كأصداء لأغنية بعيدة
كأحزان لصمت لا يبوح
ستمضي نحو غايتها القصيدة
وتستعلي على السأم الجموع
فهل مضت القصيدة/ الأنا الشاعرة نحو غايتها فعلا؟ وهل استعلت على السأم الجموع كما تعترف وتريد؟ نحن لا نظن أنها فعلت ذلك؛ لأنها تعود وتقول بعد ذلك:
ما عادت الكلمات تغري بالكلام
لكنه صوت قديم
ما زال يرفض أن يموت
وأنت تعتنق السكوت
والليل سردابٌ عميقٌ تنكفي فيه النجوم
ما زلت وحدك والصدى أنَّاتُ غربان وبوم
ما زلت تحلم أو تروم
أن تقتفي أثر الذين مضوا إلى صلوات مبدئك الوحيد
إن هذه السطور كاشفة بوضوح عن المعاناة التي تمر بها الأنا الشاعرة، وقد بدت متجلية في مرآة المتلقي، ففي الوقت الذي قالت فيه بصوت حاسم وقوي: (سأسري نحو همس النور/ لا ليلٌ سيؤنسني/ ولا الصمت الطويل)، وقالت أيضا في موضع آخر من الديوان:
أغادر والحروف على شفاهي
وأمسح صامتا دمع الحكايا
وليس هناك غير هديل نايٍ
وأصداءٍ لنافذة المرايا
وفي موضع آخر من الديوان تقول الأنا الشاعرة بصوت حاسم وقوي، كأنه صوت الجنود في طريقهم نحو معركة عسكرية حاسمة:
في العشب النابت حول القلب
توحَّدْ
في النهر الصاعد نحو النبض
تجدَّدْ
وتدفَّقْ مثل صهيل الروح
تمدَّدْ
حلِّقْ بأناك
سواك الآن تبدَّد
ومن الملاحظ كثرة أفعال الأمر، وهيمنتها على الدلالة، وقدرتها على إيجاد حالة من التحدي والصخب، ورسم صورة لمشهد عسكري يسير فيه الجنود وهم يرددون نشيد التحدي والحماس، ورفع الروح المعنوية، أقول في الوقت الذي نرى فيه هذا التحدي، وهذه الروح القادرة على الحسم نجد في خلفية المشهد الأنا الشاعرة تعاني، وكأن هذه المشاهد التي تسوقها لتعبر عن قدرتها على المواجهة والحسم ما هي إلا قناع لإخفاء المعاناة الحقيقية والعجز عن الخروج من الماضي وملامحه التي تطارد الأنا الشاعرة في كل لحظة:
ها أنت تفترش العراء
تئنُّ في المدن الخواء بلا ضجيج
تتعانق الأوهام فيك وتنتحي خلف الغروب
ما زلت تبحث عن دروب
وتغالب الشوق الغضوب
وتتكرر تلك المشاهد في الديوان بكثرة؛ لتعبر عن نفس مأزومة تحاول أن تجد مخرجا فإذا بها تدور في فراغ، فلا ترى أمامها إلا الخيال لتنسج منه مخرجا وهميا، ولكنها واعية تماما بأنها موهومة، وأن كل ما تفعل خيال في خيال، لتعترف في النهاية بالمأزق الأكبر الذي يحاصرها:
هل كنت تعرف ما تريد
أم كنت تمعن في الظنون
هل كنت تعرج للسماء
أم كنت تهبط للجنون
وتعود إلى الأسئلة نفسها التي لا إجابة عنها سوى مزيد من المعاناة والتأزُّم:
من لي ولك
من أمهلك
حتى تعيد كتابة التاريخ فوق خرائط الوطن القديم
هل تكتفي بخنادق الحزن المقيم
أم تنتشي فوق الغيوم
وتغادر الدفء القديم
لكنه قد غادرك
وكلها أسئلة مصيرية تعبر بوضوح عن الأنا الشاعرة المأزومة التي تعاني من كل شيء، وتحاصرها ملامح عجزها وأطياف الماضي الذي لم تستطع الهروب منه، على أننا نجد الأنا الشاعرة تعبر صراحة عن أزمتها التي تعاني منها في نص (موتٌ حي) فيقول:
صخبٌ
نايٌ مكسور
وأنا لا أقدر أن أوقظ ظلي المقهور
والحزن يدور
والناس سكارى في قفصٍ
لا يشدو فيه العصفور
الصوتُ/ الصمتُ
يراوغني
حلمي المغدور
ونوافذ تفتح لي أملا
وتعود قبور
ويعود الموتى في صمتٍ
لبقايا ليلٍ مهجور
ويموت رفيفٌ في قلبي
وتنام طيور
النص يحمل بنية سردية متكاملة، فهناك الأشخاص، والأحداث والعقدة، يبدأ الشاعر برسم صورة للمشهد (صخبٌ – نايٌ مكسور) وهما حالتان من حالات اليأس والمعاناة؛ فالصخب تعبير عن الضياع فلا أحد يعرف أحدا ولا أحد يستمع إلى أحد والصخب عادة يكون في مشاهد عدم الانضباط وعدم الاهتمام بشيء، فلا شيء له ملامح محددة، وفي ظل هذا الصخب يكون الناي المكسور، أي العجز عن التعبير والبوح بما في مكنون النفس، ومن الملاحظ استخدام اللفظين (صخب – ناي) نكرتين؛ للتعبير عن العموم والشمول، ولكن المعرفة الوحيدة وسط هذا الصخب هي الأنا الشاعرة (أنا) والظل المقهور (وأنا لا أقدر أن أوقظ ظلي المقهور) ونلاحظ إلحاق الظل المقهور بالأنا الشاعرة في تركيب إضافي (ظلي) ليكون في ذلك ارتباط بين الأنا الشاعرة وما تعانيه، ثم يكتمل المشهد، فالناس سكارى في قفص، وهو تأكيد لما جاء في البداية (صخب) واستخدام لفظ (سكارى) هنا يحيلنا إلى الآية القرآنية تعبيرا عن هول يوم القيامة (والناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) لقد استطاع الشاعر أن يوظف اللفظة القرآنية (والناس سكارى) توظيفا عميقا للدلالة عن الحالة التي تحيط به، وملامح المشهد كله ملامح سلبية؛ فالناي مكسور، وهو عاجز عن إيقاظ ظله المقهور، والحزن يملأ المكان، والناس سكارى، وهم محبوسون في قفص لا يستطيعون الخلاص، والعصفور محبوس، والحلم مغدور، ونوافذ الأمل تستحيل قبورا، ويموت الرفيف في القلب، وتنام الطيور تعبيرا عن نهاية مأساوية، إنها حالة من اليأس والمعاناة التي نكاد نشعر ألا خلاص منها، وقد استطاع الشاعر التعبير عن عالمه المأزوم، ومعاناته التي لا حدود لها ببراعة من خلال اختيار الألفاظ الدالة بعمق عن تلك الحالة.
ج – اليأس من الآخرين، فمن المعروف أن الأنا الشاعرة قد وصلت في الديوان إلى مرحلة عميقة من التأزُّم، وعدم القدرة على الفعل الحاسم الذي يخرجها من هذه الحالة، وهي تدرك تماما معاناتها، وتصف ملامحها بوضوح ووعي، ومن ثم لا يوجد أمل لها في مساعدة خارجية للخروج من هذه الحالة المأزومة، ومواصلة الحياة والتخلص من الماضي الذي يحاصرها، أو إيجاد حالة من التعايش معه، ولكننا نجدها يائسة من تلك المساعدة؛ فلا أحد يمد لها يد العون للخروج من هذا التأزم:
ما من هلال كي يمدّ إليك حبلا من ضياء
تبتغي فيه الصعود إلى مدارات الوجود
وهل تعود؟
يا لانشطارك وسط أزمنة التشظي والدمار
يا لاشتعال النار في جوف الوريد
يا لانطفاء الروح في جسد الغياب
ما من ذهابٍ أو إياب
ما من مسير غير أحزان تسافر
عبر أودية الضباب
من الصقيع إلى السراب
حيث البدايات اغتراب
حيث النهايات اغتراب
في البداية تكشف السطور في وضوح تام عن انتفاء وجود أي هلال يمكن أن يمدّ الأنا الشاعرة بحبل من ضياء، والتعبير بلفظ هلال دال جدا في موضعه؛ فقد ورد لفظ هلال في المعاجم العربية بمعانٍ كثيرة (هِلالُ: غُرَّةُ القَمَرِ أو لِلَيْلَتَيْنِ أو إلى ثلاثٍ أو إلى سبعٍ، ولِلَيْلَتَيْنِ من آخِرِ الشهرِ، سِتٍّ وعشرينَ وسبعٍ وعشرينَ، وفي غيرِ ذلك قَمَرٌ، والماءُ القليلُ، والسِنانُ، والحَيَّةُ، أو الذَّكَرُ منها، وسِلْخُها، والجَمَلُ المَهْزولُ، وحديدَةٌ تَضُمُّ بين حِنْوَي الرحْلِ، وذُؤابَةُ النَّعْلِ، والغُبارُ، وشيءٌ يُعَرْقَبُ به الحَميرُ، وما اسْتَقْوَسَ من النُّؤْيِ، وسِمَةٌ للإِبِلِ، والغلامُ الجميلُ، وحَيٌّ من هَوازِنَ، وطَرَفُ الرَّحَى إذا انْكَسَرَ، والحِجارةُ المَرْصوفَةُ، والبياضُ يَظْهَرُ في أُصولِ الأَظْفارِ، والدُّفْعَةُ من المَطَرِ، ج: أهِلَّةٌ وأهالِيلُ) وهنا نلمح الدلالة فالشاعر لم يستخدم لفظ القمر، ولكنه استخدم لفظ الهلال؛ لأن الهلال غرَّة القمر، ومعنى ذلك أنه منذ البداية لا يوجد أي لمح لضياء من الممكن أن يهدي الأنا الشاعرة، أو يقودها إلى الخروج من هذا التأزُّم الذي تعيشه، ويحاصرها، واستخدام لفظ (من) لتأكيد هذا النفي، ثم يأتي التحسر من الأنا الشاعرة على هذه الحالة التي تعيشها، وهي حالة التمزق والانشطار بين الأزمنة (يا لانشطارك وسط أزمنة التشظي والدمار/ يا لاشتعال النار في جوف الوريد/ يا لانطفاء الروح في جسد الغياب) ومن الملاحظ تكرار التعبير عن التحسر بألفاظ مختلفة؛ لتنقل لنا حالات مختلفة للأنا الشاعرة ( يا لانشطارك – يا لاشتعال النار – يا لانطفاء الروح) وعلى الرغم من وجود تضاد بين (اشتعال – انطفاء) الذي قد يوحي بوهم الخروج من الأزمة إلا أن النص يسرع إلى نفي هذا الخروج بإلحاق ما يدل على ذلك من خلال إيراد قوله (الروح في جسد الغياب) ليعبر عن أن الانطفاء لم يكن للنار ولكن كان نوعا آخر من الضياع وهو انطفاء الروح؛ ليأخذنا إلى ملمح آخر من ملامح التأزم الذي تعيشه الأنا الشاعرة، ثم يعود مرة أخرى إلى ما بدأه من نفي فيقول (ما من ذهابٍ أو إياب/ ما من مسير غير أحزان تسافر عبر أودية الضباب/ من الصقيع إلى السراب) إنها حالة من الخمود والوقوف في المكان والزمان، حالة من عدم الفعل (ما من ذهاب أو إياب) ولكن هذه الحالة ليست خالية من السلبيات التي تعاني منها الأنا الشاعرة رغم خمودها؛ لأن النص يأخذنا إلى ملامح أخرى تحكم هذه المرحلة من مراحل الأنا الشاعرة، وهي الأحزان المسافرة عبر أودية الضباب، وقد يتوهم البعض أن السفر هذا هو نوع من الرحيل لهذه الأحزان ولكن النص يفاجئنا بأن السفر من الصقيع إلى السراب، وهما حالتان من حالات المعاناة للأنا الشاعرة، فلا مخرج لها؛ فالبدايات كانت اغترابا، والنهايات أيضا اغتراب، ومن ثم لا مخرج ولا مهرب مما هي فيه، ولا أحد يمكنه أن يأخذها إلى عالم النور.
ثانيا: الدأب ومحاولة تحقيق الذات، وهو ملمح واضح في حديث الأنا الشاعرة عن نفسها لا تخطئه العين الناقدة في الديوان، فعلى الرغم من أن الأنا الشاعرة بدت فيما سبق مأزومة وعاجزة عن الفعل وتعاني معاناة شديدة، ويائسة من مساعدة الآخرين إلا أنها في نصوص أخرى من الديوان تبدو مصرة على تحقيق ذاتها، وقادرة على الفعل والتأثير، ففي نص (لمن تقول) نجد حديثا عن النفس يعبر بوضوح عن الرغبة الأكيدة في تحقيق الذات والإصرار على ذلك:
ما زلت تبحث في وجوه العابرين عن الرؤى
تستنطق الليل الرماديّ الملول
لكي يقول
تستنبت الشجر الخريفي الحزين
وترتدي روح الفصول
تستنهض الشمس المراوغة التي تأوي إلى كهف الغروب
من الضحى
وتراود القمر الكسول
إنها حالة الإصرار على الهدف، وإن لم تكن الأنا الشاعرة متأكدة من تحقيق هذا الهدف، ولكن الإصرار والمحاولة تلو المحاولة هما الملمحان البارزان في هذه السطور الشعرية، واستخدام الألفاظ الدالة بوضوح وعمق على هذه الحالة (تبحث – تستنطق – تستنبت – ترتدي – تستنهض – تراود) ومن الملاحظ أن كلها أفعال مضارعة، ومن المعروف أن الفعل المضارع يدل على الحركة والتجدد والاستمرار، ومن ثم فإن هذه الحالة من البحث والاستنطاق والاستنبات والارتداء والاستنهاض هي حالة مستمرة ومتجددة نتيجة استخدام الفعل المضارع الدال على ذلك، كما أن الأفعال تدل على محاولة إيجاد نور من الظلام، والبحث فيما وراء الأشياء لعله يستطيع إيجاد مخرج (تستنطق الليل الرمادي الملول لكي يقول) وفي موضع آخر من الديوان يقول الشاعر:
أبحث عن لغة تشبهني
عن صوتٍ يحويه فضائي
عن ليل يصغي لنهاري
وهديلٍ يعلو لسمائي
هنا أيضا تتجلى حالة البحث (أبحث) في صورة الحركة والتجدد والاستمرار من خلال استخدام الفعل المضارع، وهو الفعل نفسه الذي استخدمه الشاعر في السطور السابقة (تبحث) مخاطبا نفسه، ولكنه هنا يعبر مباشرة (أبحث) ويكشف عن ملامح ما يريد (لغة تشبهني – صوت يحويه فضائي – ليل يصغي لنهاري – هديل يعلو لسمائي) ومن الملاحظ حضور الأنا حضورا بارزا على المستويين اللفظي والمعنوي، فعلى المستوى اللفظي حضرت الأنا مرتبطة بما تريد من خلال استخدام ضمير المتكلم وهو ضمير متصل يعبر عن ارتباط الأنا بهدفها ارتباط وجود؛ فمن المعروف أن الضمير المتصل (ياء المتكلم) لا يمكن أن يأتي منفردا، ولكنه يأتي دائما متصلا، وهو هنا متصل بأهداف الأنا الشاعرة، أو بما تصبو إليه (تشبهني – فضائي – نهاري – سمائي) ومن الملاحظ كذلك أن الأهداف هنا تحمل ملامح إيجابية (النهار – السماء) وعندما استخدم الشاعر لفظ الليل فإنه أخرجه من دلالته على الظلام إلى دلالة تحمل البشرى بالنهار (عن ليل يصغي لنهاري) أي أنه ليل طبيعي يؤدي إلى نهار، ولا يطول فلا يأتي نهار بعده، وهو تعبير مجازي عن أن معاناته وإن كانت مؤلمة فإنها تقوده إلى الخلاص وحصد نتائج التجربة وهو شيء إيجابي.
ثالثا: الحيرة، وهي تعبير عن حالة من العجز عن الإجابة على الأسئلة الحياتية والوجودية، وفقدان اليقين في كل شيء نتيجة أن الأمور والأحداث لا تسير وفق منطقية مقبولة، وهنا سوف نتوقف أمام نص (حوارية الكلمة والعالم) لأنه تعبير واضح عن الحيرة التي تهيمن على ذهن الأنا الشاعرة وتدفعها إلى تساؤلات قد تبدو منطقية، ولكن عبثية الواقع وأحداثه تحيل منطقية الأسئلة إلى حيرة جارفة، ففي البداية يقول:
في الليل تجتمع الرتابة خلف ذاكرة الأرقْ
تأوي إلى الشجن الشفيف
تقيم عالمك الورقْ
فيطلُّ همسك من بعيد خاطفا
كرفيف طير للسماوات انطلقْ
تتجلى في هذا المقطع من النص الرتابة على المستوى اللفظي في القافية، وهي القاف الساكنة (الأرقْ – الورقْ – انطلقْ) وهو ما يضفي على المقطع نفسا هادئا، وهو يتناسب مع استخدام التعبير بلفظ الليل الذي لا يحمل صخبا أو ضجيجا، أما الرتابة على المستوى المعنوي فتتجلى في الترتيب المنطقي للأحداث الواردة، فهو يأوي إلى الشجن الخفيف؛ ليقيم عالمه على الورق، وقد صرَّح المقطع بلفظ الرتابة، واجترار الذكريات، وهنا يأتي العالم الورق إشارة إلى الكتابة والبوح على الورق، وتدوين ما قد يتوافد إلى الذهن من أفكار وذكريات (فيطلُّ همسك من بعيد خاطفا كرفيف طير للسماوات انطلقْ) تتداعى الأفكار والذكريات لتسقط على الأوراق، ولكن هذه الحالة من الهدوء والاسترسال واستدعاء الأفكار لن تظل طويلا؛ فنجد في البداية تفكيك القافية، بمعنى أنه لم تعد هناك قافية متكررة بعد مجموعة محددة من التفعيلات، وإن كانت ستأتي قافية القاف الساكنة ولكنها متحررة من عدد التفعيلات التي كانت حاكمة للمقطع الأول، ومع هذا التحرر الذي يؤدي إلى تغيير رتابة النغمة الموسيقية سيتغير أيضا النفس الشعري على المستوى المعنوي، فيقول:
يا … هل يعود من ارتحال غامض
أم أنَّ لمحة عابر في لحظة
وَمَضَتْ
تجلَّتْ ثم غابت خلف ليلٍ
عن يقين المدركات قد افترقْ
يبدأ هذا المقطع بالتساؤل الذي سوف يتطور فيما يلي من مقاطع ليتطور معه السؤال من بسيط إلى معقد، وفي كل مرة يحمل لنا همًّا من هموم الإنسان، ومن الملاحظ هنا أن الشاعر قد استخدم ألفاظا تحتاج إلى الوقوف أمامها (خلف ليل – يقين المدركات – افترق) فإذا ربطناها بما ورد قبلها (ومضتْ … تجلَّت ثم غابت) استطعنا أن نكتشف أن النص سيقدم لنا حالة من التساؤلات التي تومض في الذهن وتتجلى ثم تغيب دون أن تجد إجابات لها، فيقول:
ما حكمة التاريخ لو لم يأت وقتٌ
لاستعادة ما تبعثر من نهارات الحقيقة
فوق أرصفة القلقْ؟
هل باستطاعة شاعر أن يصطفي أفقا بلا ظل
لأجساد الأباطرة الذين تجذروا
في عالم سقط اليقين بأرضه
فتهشَّمتْ فيه المرايا
أصبحتْ كحطام ليل
فوق أجنحة النهارات انطبقْ؟
هنا تبدأ الأسئلة، وهي أسئلة لا إجابة لها (ما حكمة التاريخ…….؟) وهل يستطيع أحد أن يقف على حقيقة حكمة التاريخ؟ أو هي مجرد تأويلات أو استنتاجات لحكمة التاريخ، ثم يأتي السؤال التالي، وهو سؤال يغوص في أعماق النفس الإنسانية المأزومة، ولا يغفل الإشارة إلى المجتمعات (هل باستطاعة شاعر أن يصطفي أفقا بلا ظل لأجساد الأباطرة الذين تجذروا في عالم سقط اليقين بأرضه…؟) وهو سؤال يضرب في اتجاهات شتى؛ ذلك أن لفظ (الأباطرة) يحمل دلالات سلبية كثيرة، ولكن الشاعر هنا يحرر هذا اللفظ من الدلالة الضيقة ليطلقه في سماء الدلالات المتعددة، بمعنى أنه يخرج من أفق الدلالة الضيق إلى أفق أوسع ليحمل كل قهر يمارسه الإنسان في أي مجال من المجالات التي تقضي على يقين الإنسان في الخلاص، فحين أشار الشاعر بقوله (تجذروا في عالم سقط اليقين بأرضه) فإنه يربط بين التسلط وتزعزع اليقين، فإذا ربطنا ذلك بما ورد في المقطع السابق (تجلَّتْ ثم غابت خلف ليلٍ عن يقين المدركات قد افترقْ) تجلى لنا أن سقوط اليقين ينشأ عن التسلط الذي يمارسه الأباطرة، واستخدام لفظ الأباطرة ذو دلالة فاعلة ومؤثرة في الذهنية الإنسانية؛ لتتهشم كل مرايا هذا العالم، وتهشيم المرايا إشارة إلى فقدان الرؤية، ليغيب ضوء النهار ويطبق الليل على هذه العوالم، وهنا نعود إلى بداية السؤال (هل باستطاعة شاعر أن يصطفي أفقا بلا ظل لأجساد الأباطرة الذين تجذروا في عالم سقط اليقين بأرضه…؟) الحقيقة أن الشاعر يعجز عن إيجاد هذا الأفق أو اصطفائه؛ لأنه يرسم عالما على الورق، وهو ما عبَّر عنه في المقطع الأول (تقيم عالمك الورقْ) ومن ثم فإن كل ما يفعله الشاعر هو مجرد أحلام على الورق لا يملك القدرة على تنفيذها على أرض الواقع، وقد صرَّح النص بذلك في المقطع التالي مباشرة؛ إذ يقول:
لكنها الكلماتُ
ما زالت تغازل لؤلؤ الأوقات
تهفو للبعيد
وترتوي برحيق روحٍ
ترتقي
تصغي إلى الهمس السماويِّ
الذي ما زال يرجوه الشفقْ
هو اعتراف بأن الكلمات لا تقيم عالما حقيقيا يخلو من الأباطرة الذين يحيلون الحياة إلى عالم مختلف، ويضغطون بقوة وبقسوة على منطقية الأشياء، فتنحرف عن مسارها الطبيعي، ومن ثم فإن الإبداع يقيم عالما من الورق خاليا من أولئك الذين تجذروا في عالم سقط اليقين بأرضه، وفي قصيدة (خلف الأحزان) تتجلى الحيرة كاشفة عن وجه آخر من أوجه الحزن الإنساني الشفيف الذي يعانق النفس الشاعرة التي كانت تطمح في عالم مختلف، ولكنها لا تجده، يقول:
ها أنت وحيدا تتراءى خلف الأحزان
تستجدي الحبَّ من الأعين
وتراوغ قدر الإمكان
كي تفتح نافذة عليا
لشعاع الضوء الوسنان
دنياك هوان
القمر الفضي تحطَّم في الأعين
صرنا عميان
يا من تتعانق والحزن
وتسافر خلف القضبان
كي تبحث عن دفء الحضن
في وهم يُدْعى الإنسان
لا شيء يعينك.. لا شيء
لا ضوء ينيرك.. لا ضوء
لا روح… ولكن أبدان
ومن الواضح في السطور السابقة هيمنة روح اليأس والحيرة على الأنا الشاعرة؛ إذ تبدأ تلك الروح الحائرة برصد مجموعة من الملامح تتجلى في ألفاظ دالة بعمق (وحيدا – تستجدي – تراوغ – هوان – تحطَّم – عميان – تبحث – وهم – يُدعى – لا شيء – لا ضوء – لا روح) وكلها ألفاظ تحمل دلالات سلبية دالة على تمزق وحيرة تعاني منها النفس في بحثها عن دفء الحضن، ومعنى الإنسانية، وهي تعبر عن ذلك بلفظ الوهم (وهم يدعى الإنسان) كأن الإنسانية في معانيها السامية قد أصبحت وهما فلا وجود لها في عالم سقط اليقين بأرضه كما عبَّر النص قبل ذلك.
لقد تجلت الأنا في مرآة المتلقي متقلبة بين مواقفها الحياتية المختلفة، ومتفاعلة مع واقعها الاجتماعي والنفسي والفكري، وفي بعض الأحيان نجد تلك الأنا قد خرجت من تشكُّلها الفيزيائي لتنساب في أنواتٍ متعددة ومتنوعة بحيث تشكِّل تصورا عاما للأنا من حيث كونها قيمة إنسانية عامة، وليست مجرد طبيعة فيزيائية خاصة، ومن ثم تعبِّر تلك الأنا عن مواقف أنواتٍ متعددة في انحيازاتها الفكرية والاجتماعية المختلفة، وقناعاتها تجاه قضاياها وقضايا مجتمعها. إن هذا الإدراك للأنا بذاتها وملامحها، ووعيها قد شكَّل ملمحا مهما من ملامح الديوان، على أن الجانب الآخر من هذه الزاوية التأويلية سوف يكون صورة الأنا في مرآة نفسها؛ لنكتشف بذلك كيف ترى الأنا نفسها بعد أن رأيناها في مرآة المتلقي؟ وهو ما سوف نتناوله في الجزء التالي من الدراسة.