منال رضوان تكتب التشكيل السردي ودلالة زمن القص في بيت بلا جذور
الرواية الأولى لأندريه شديد
– بيت بلا جذور كان عنوان الرواية الأولى للكاتبة والشاعرة اللبنانية الفرنسية أندريه شديد، والتي تمت ترجمتها عن الفرنسية، وصدرت عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت في إطار دورية إبداعات عالمية،
تتناول الرواية أحداث الحرب الأهلية اللبنانية والصراع الطائفي الذي اندلع في العام ١٩٧٥ واستمر قرابة سبع عشرة سنة، ويقع المدى الزمني للقص فيما بين تاريخين محددين أولهما : يوليو – أغسطس ١٩٣٢، وثانيهما : يوليو – أغسطس ١٩٧٥.
وعليه سنقوم بتناول العلاقة بين التشكيل السردي للزمن في الرواية وبين فكرة الكاتبة ورؤيتها للحدث وذلك من خلال نقطتين:-
– زمكانية السرد، أو الفضاء الزمني المكاني الذي نظم علاقة الماضي بالحاضر، فضلا عن تأثير التاريخ والمكان على شخوص الرواية.
– إحالة ترتيب الأحداث إلى محورين و دلالة جريانها بين تاريخين، وذلك على الخط الزمني حسب استدعاء الحالة ولزوم ظهورها في الخط السردي.
زمكانية السرد، كما كتب الأستاذ الدكتور أحمد سيد محمد في إحدى دراساته قبل أربعة عقود من الآن، معتبرًا أن الزمن هو المحرك الأساسي ويلعب دورًا مهمًا في دراسة تاريخ الأدب.. فقد برزت أهمية الزمن في هذه الرواية؛ حتى بدت وكأنها الفكرة الأساسية الملحة على الكاتبة لا مجرد فكرة الصراع والتناحر الطائفي أو الحروب وأهوالها.
في فصول الرواية يتم الدمج حتى التماهي بين تاريخ ١٩٣٢ وكأنه التمهيد الحقيقي لما آل الأمر إليه فيما بعد، وهو العام الذي قام الانتداب الفرنسي فيه بإجراء أول إحصاء للشعب اللبناني، تم في أعقابه تحديد تولي المناصب على أساس الانتماء الطائفي، والذي كان الخنجر الأول في جسد الوحدة التي اختفت عقب ذلك الإجراء الفرزي، ومن ثم فقد استدعت شديد ذلك التاريخ إلى جانب زمن الرواية الأصلي والتي تبدأ أحداثها بعودة “كاليا” بصحبة حفيدتها “سيبيل” إلى لبنان ولقائهما عقب سنوات الاغتراب؛ حيث تعمل الجدة في دولة أوروبية وتعيش الفتاة بصحبة والديها في الولايات المتحدة، وقررتا قضاء إجازة على أرض الوطن..
كما ظهر التركيز في بداية الرواية على بدء مظاهرة سلمية مكونة من فتاتين هما “آمال” المسلمة دارسة الحقوق وصديقتها “ميريام” المسيحية طالبة الصيدلية، لكن الرصاص المجهول لم يدع الفرصة على أي حال لوأد الفتنة في مهدها: ( تجمد الوجهان المشرقان مثل شمسين صاعدتين من فجر وليد. أظلمت الصورة تمامًا…)
تحاول كاليا إنقاذهما وهى تعاين ذلك المشهد عبر نافذتها في دلالة موحية على كونها لم تكن قد انغمست في مأساة وطنها على العكس من استرداد المشهد في نهاية الرواية؛ حيث صورت كاليا فيه جاثية على الأرض:
(حاولت النزول إلى الفتاتين لإنقاذهما)، ومن ثم تتصاعد الأحداث في تمازج سردي يحمل تشظيًا زمكانيًا لإحكام الربط بين السبب والنتيجة في أحداث بدت متشابهة تم ذكرها عبر الاستذكار؛ جرت بين كاليا وحفيدتها أو بينها وبين جدتها “نوزة” المرأة الأرستقراطية حاملة أيقونة العذراء أينما ارتحلت.. لكنها تظل تردد أن الإيمان محله القلب رغم أنها لا تنكر غضبها من العذراء إن تأخرت عليها في قضاء حاجتها محاولة استمالتها عبر توضيح أنها في (أيقونتها الأرثوذكسية لا تشبه تماثيل الجص عند الكاثوليك)
هذه العبارة يتضح من خلالها هذا الفرز الذي أتى بثماره البغيضة كما باتت أكثر وضوحًا عند “أوديت” زوجة خال “كاليا” ومضيفتها، وهي امرأة مسالمة تصر على إخبار الجميع عن كونها (امرأة مؤمنة) ويتضح ذلك من خلال مناقشتها لكاليا هذه المرأة التقطت بعض الأنماط السلوكية نتيجة معاشرتها لفريد زوجها، وهو الشخص غير المكترث والذي أضاع معظم ميراثه، لكنه يحاول استرداد بعض إتزانه عقب وفاة والده، ثم شقيقه الذي مثل صوت العقل والقدرة على لم الشمل.
التباين بين الشخصيات وتعددها بدا صريحًا؛ للدلالة على مدى التنوع الذي يملأ هذا البلد.
كما ظهرت شخصية “ديمتري” ابن العم مختلفة ومناقضة تمامًا “لفريد” فهو يتمتع بالمعرفة، الذكاء، الطموح، الكتمان، ويعلم أن الأمور بعد تلك الطائفية لن تكون الأفضل بحال من الأحوال، ويخبر صغيرته كاليا بذلك ويصدق حدسه في تنبؤاته.
إجادة استخدام المكان :
الفندق (جراند اوتيل) واستخدامه كرابط بين الأحداث مَثَّل دلالة قوية على الاغتراب وعدم الانتماء؛ “فنوزة” دائمًا نزيلة في ذلك الفندق، تتمتع بالزرع الذي استبدلت به أرضية خشبية عندما عادت “كاليا” إليه، وصارت شرفاته أضيق، وازدادت صورته قتامة.. في إسقاط واضح على الحال التي تغيرت خلال الأعوام الماضية والتي تراكمت حد الانفجار.
استخدام الرمز بدا موفقًا في بعض الحالات، كما بدا مباشرًا وشديد التكلف في أحيان أخرى، كما في الحديث عن آمال وميريام، بينما يظل من أهم حالات إجادة استخدامه، ظهور عم عزيز صاحب البازار؛ الاسم لا يدل على هوية محددة، كما أن محله الذي يمتلكه يمتلىء بكل أشكال وأنواع البضائع في تجانس غريب يتقبله الدكان الصغير وسرعان ما يقتل الرجل وتتناثر الدماء على جدارن محله.
العبارات الرومانسية ورسم التصاوير الشاعرية عبر الكتابة لم تتخل عنه أندريه بوصفها شاعرة في المقام الأول حتى وإن استلهمت روايتها من أحداث حقيقية وأرادت لها نهاية مأساوية بمصرع الفتاة الصغيرة نتيجة رصاصة طائشة والتي مثلت الحلم والأمل في نبوءة من الكاتبة تحققت بالفعل؛ لتختتم الرواية بقولها:
( لم تعد تشاهد أمامها ذلك الفراغ في الصفحة البيضاء لقد اتسعت الصفحة وتلطخت واتسع مستنقع الدم).