دراسات ومقالات

فلسفة الحياة فى رسالة المعاش والمعاد

أو الأخلاق المحمودة والمذمومة للجاحظ

بقلم الدكتور / عوض الغباري

هذه الرسالة كاشفة عن الشخصية الأدبية الفذة للجاحظ من حيث الخصائص الفنية المميزة لكتاباته.

وأهمها – فى هذه الرسالة- احتواء مقدمتها على الغاية منها فى تدبر الحكماء لعواقب الأمور، حيث يقول بعد دعائه للقارئ سمة جليلة لأسلوبه الإنسانى: “حفظك الله وأمتع بك، أما بعد فإن جماعات أهل الحكمة قالوا: واجب على كل حكيم أن يحسن الارتياد لموضع البُغية، وأن يبِّين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها”([1]).

ففضل الحكماء كامن فى استشرافهم لمآل الأمور والاستعداد لها، مما  يعد من الأمور المحمودة التى تهدف إليها الرسالة. ويتبع ذلك صحة الفطرة، وكمال العقل، خاصة فى زمن الشباب، وما يستدعيه من جموح وجنوح عن جادة الصواب، وميل إلى الشهوات، والانقياد للهوى، مما يعد من الأخلاق المذمومة.

ويستدعي ذلك قول الشاعر:

إن الشباب والفراغ والجدة            مفسدة للمرء أى مفسدة([2])

والشهوات مؤدية إلى سوء الحال، والعقل المتزن عاصم من ذلك، مؤدٍّ إلى العاقبة المحمودة ،  وسوء المنقلب الناتج عن الأخلاق المذمومة آلت بأكثر أصحابها إلى “ذل العدم، وفقد عز الغنى فى العاجل، والندامة الطويلة والحسرة في الآجل”([3]).

وفي هذه العبارات استخدام لأسلوب التقسيم والازدواج مما يميز نثر الجاحظ، فضلا عن الإيقاع الموسيقى المتمثل فى السجع.

ولا يفقد الأسلوب رونقه الفكري مع الخصائص الفنية للبديع في أدب الجاحظ. والعقل يسلك بالإنسان طريق السلامة والسعادة، إذا أحسن استخدامه.

والأخلاق المحمودة داعية إلى ألفة الناس لصاحبها، لفضله وخيره، “ارتيادا .. لموضع الخيرة في الأخوة، والتماسا لإصابة الاصطفاء في المودة، وتخيُّرا لمستودع الرجاء في النائبة”([4]).

ويهب الله المحبة والقبول لصاحب الأخلاق الكريمة. والشكر واجب لذوى الإحسان لأن “الله تبارك وتعالى نظم الشكر له بالشكر لذي النعمة من خلقه”، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، “مَن لم يشكر للناس لم يشكر لله”([5]).

أما ما ورد في عنوان هذه الرسالة من المعاد والمعاش فهو ما ذكر الجاحظ أنه نتاج ما وجده في الكتب من حكمة العقل في كل زمان ومكان جامعا لعلم كثير من المعاد والمعاش، ووصف لعِلل الأشياء وأسبابها، وما اتفقت عليه محاسن الأمم([6]).

وعلى ذلك فتقصي الجاحظ لخبرات الحياة كان المرجع لما أدت إليه هذه الرسالة من تفرقة بين الأخلاق المحمودة والأخلاق المذمومة.

وهذه الرسالة – على ذلك- مجمع للحكمة من كاتب موسوعي عالم أديب بليغ.

مثال ذلك قول الجاحظ: “وقد أجمعت الحكماء أن العقل المطبوع والكرم الغريزى لا يبلغان غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب… وإنما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك”([7]).

وهذا معنى نادر لمفهوم العلم يزداد بالتلاقح العقلي، والثقافة الواسعة، وهو ما يميز شخصية الجاحظ.

ويدعو الجاحظ إلى استنباط الحكمة والفضيلة، أو عكسها من طبائع السابقين، وخبراتهم، وبيان أسبابها. ومن حكم الجاحظ قوله: “ومع كل خفي من الحق حجة ظاهرة، تستنبط لها غوامض البرهان، وتستبين بها دقائق الصواب”.

ذلك لأن إظهار الكامن من أسرار الحق ليس أمرا سهلا، فهو يحتاج إلى بصيرة، وسبر لأغوار النفس الإنسانية بحذق في ترتيب النتائج على المقدمات، وربط الظواهر الإنسانية بعللها، والبواعث التى تقوم عليها.

ومصادر المعرفة في كتابات الجاحظ – ممثلة في هذه الرسالة- مستمدة من علوم مختلفة مثل التاريخ والفلسفة والاجتماع، وغيرها.

إضافة إلى ما يتجلى فى تحليله للسلوك الإنسانى مما ينتمي إلى علم النفس.

كذلك فقد صحَّح الجاحظ، الموسوعب، الكثير من أخطاء القدماء في العلوم مثل علم الحيوان في كتابه : “الحيوان” وعلى ذلك تقوم كتابات الجاحظ على أسس منهجية عقلانية علمية.

يدل على ذلك قوله: “ثم لا أرسم لك … إلا الأمر المعقول في كل طبيعة”.([8]) وهذا الناموس العقلي في المعرفة شامل لأمور الدنيا والدين، ففى تفسير قوله تعالى: ” ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا”. (الإسراء: 72) :

” من كان ليس له من العقل ما يعرف به كيف دُبِّرت أمور الدنيا، فكذلك هو إذا انتقل إلى الدين”.([9])

والتقوى – كما يرى الجاحظ- جماع كل خير، وطاعة الله سبيل العزة.

والعقل ميزان عدل في المعاملة، واستقامة في السياسة.

والرسالة حافلة بالنصائح التى يوجهها الجاحظ من اتباع للحق، وبعد عن الباطل، والتزام الطاعة لله ، والنفع للناس، ودفع المضار عنهم، والتحلي بقيم الأخلاق الرفيعة، ونبذ الصفات الذميمة.

ويرى الجاحظ – محقا- أن الإنسان مفطور على حب الخير. ويفسر ذلك بأن للنفس غرائز شهوانية يتفاوت قدر الناس في كبح جماحها.

فإما أن ينساق الإنسان إلى لذات الدنيا، أو أن يأخذ منها باليسير الذى لا يخل بصلاحه. ولذلك كان الأمر والنهي من الله عز وجل تأديبا للإنسان بالترغيب والترهيب، والوعد بالجنة والوعيد بالنار.

يقول الجاحظ: “ولو تركهم جل ثناؤه والطباع الأول جروا على سنن الفطرة… ثم أقام الرغبة والرهبة على حدود العدل… ليعمل كل عامل على ثقة مما وعده… فتعلقت قلوب العباد بالرغبة والرهبة، فاطرد التدبير، واستقامت السياسة، لموافقتهما ما فى الفكرة، وأخذهما بمجامع المصلحة”.([10])

ويمضي الجاحظ بهذا التحليل الرائع إلى هدفه من الربط بين صلاح الدين وصلاح الدنيا في فهم عميق دقيق لحكمة الله في تدبير شئون خلقه، “ثم جعل أكثر طاعته فيما تستثقل النفوس، وأكثر معصيته فيما تلذ”. فمجاهدة النفس أساس الطاعة، وعلى ذلك يقول الجاحظ: “فالرغبة والرهبة أصلا كل تدبير، وعليهما مدار كل سياسة، عظمت أو صغرت”.([11])

وقد نفذ الجاحظ إلى فلسفة الثواب والعقاب بابا تربويا مهما في حياة المجتمع الإنساني قائما على العدل الإلهي وصلاح المجتمع العمراني.
وللعدل أثره البالغ فى صلاح أمور الحياة، يفسره الجاحظ بقوله: “واعلم أنَّ إجراءك الأمور مجاريها، واستعمالك الأشياء على وجوهها، يجمع لك ألفة القلوب، فيعاملك كل من عاملك بمودة، أو أخذ أو إعطاء، وهو على ثقة من بصرك بمواضع الإنصاف، وعلمك بموارد الأمور”.

وهذا ما ننشده من سلام اجتماعى يقوم على أثارة من العدل والإنصاف والثقة والأمانة التى تغرس الاطمئنان في النفوس. وكذلك فالمعاملة الحسنة توجب إنزال الناس منازلهم، والتواد والتراحم بينهم.

وسوء الرأى وبال على صاحبه، والنصيحة الخالصة لوجه الحق مبعث ثقة واطمئنان، يقول الجاحظ” “ولا تؤثر فى ذلك أحدا لهوى، فإن الأثرة على الهوى توجب السُّخطة… وتفسد عليها الطائفتان: من آثرت، ومن آثرت عليه”.([12])

ويؤكِّد ذلك بقوله: “فاجعل العدل والنَّصفة فى الثواب والعقاب حاكما بينك وبين إخوانك”.([13])

ويقدم “الجاحظ” تحليلا نقديا رائعا لذلك يمكن النظر إليه دستورا لأسس المعاملات الإنسانية، قائمة على الصدق والحق، فكل من “يعمل على غير ثقة عاد ما أراد به النفع ضررا، والإصلاح فيه فسادا” على حد تعبيره.

فمقياس الحكم على الأخلاق؛ محمودة أو مذمومة يجب أن يعتمد على التجربة ومعرفة طبائع النفوس، بصحة نية، وخلوص نصيحة، وصدق صداقة.

ويعرض “الجاحظ” كل قضية من وجوهها المختلفة.

حريصا على ربط أجزائها فى نسق مطرد، قائلا: “فاحفظ هذه الأبواب التى يوجب بعضها بعضا، وقد ضمنت لك أوائلها كون أواخرها، فاعرفها واقتبسها، واعلم أنه متى كان الأول منها وجب ما بعده لابد منه”.([14])

وتلك نظرية منهجية ثاقبة تصل النتائج بالمقدمات على نسق علمي أصيل مميز لشخصية الجاحظ فى كتاباته.

ويضرب “الجاحظ” المثل لذلك بقوله : “فمن الأمور التى يوجب بعضها بعضا: المنفعة توجب المحبة، والمضرة توجب البغضاء”.

وهذه مقولة مهمة جدا لأنها تعني أن النفع موجب للحب، وعكسه موجب لغير ذلك إذا تدبرنا عواقب الأمور منطقيا، من حيث ترتيب عواقبها على مقدماتها.

وتثري جماليات الأسلوب، وانثيالها في إبداع الجاحظ انثيالا، على حد استعارتها من كتاباته، في هذه المزاوجة وتقسيم العبارات في طلاقة وحيوية في قوله: “والصدق يوجب الثقة، والكذب يورث التهمة، والأمانة توجب الطمأنينة، والعدل يوجب اجتماع القلوب… وحسن الخلق يوجب المودَّة، وسوء الخلق يوجب المباعدة… والتكبر يوجب المقت، والتواضع يوجب المقة، والجود بالقصد يوجب الحمد، والبخل يوجب المذمة”.

ويعدد الجاحظ هذه المقابلات التى تأخذ طابع المثل والحكمة، وتنبنى على معيار العقل والتجربة، كما يقول: “ولكل شئ من هذا إفراط وتقصير، وإنما تصح نتائجها إذا أقيمت على حدودها”.([15])

وعلى ذلك “فالإفراط فى الجود يوجب التبذير، والإفراط فب التواضع يوجب المذلة، والإفراط في الكبر يدعو إلى مقت الخاصة، والإفراط فى المؤانسة يدعو خلطاء السوء”.([16])

وعلى ذلك فخير الأمور أوساطها.

وبناء على ذلك يحذر الجاحظ من التواني فى صورة التوكل “فإن الله إنما أمر بالتوكل عند انقطاع الحيل”،([17]) وقد قال الرسول – صلى الله عليه وسلم- : “اعقلها وتوكل”.

وينصح “الجاحظ” برياضة النفس على محامد الأخلاق، والموازنة بين عوامل الترغيب وعوامل الترهيب.

ويفصِّل وجوه الأحوال فى المال داعيا إلى الوسطية بين التبذير والتقتير، وكذلك فى الشجاعة وهى واجبة حفاظا للدين والأرض والعرض، ولكنها ليست كذلك فى تعريض صاحبها للهلاك من أجل منفعة فى الدنيا. أما معاملة العدو فإن لم تنفع فيها الحسنى، فالحذر مهم فى درء أخطارها.

وحذر “الجاحظ” من إفشاء الأسرار، ومراعاة أحوال الناس وفق اختلافاتهم من حيث التعامل معهم، كما أوصى بالعناية بالناس، وقدَّم تحليلا مفصلا لوجوه معاملتهم، والدَّين المعاملة، كما شاع فى الأثر.

ويجري أسلوب الجاحظ فى هذه الرسالة مجرى الحكمة كقوله : “فالصديق وجه معاملته المسالمة، والعدو وجه معاملته المداراة”.([18])

ويعوِّل “الجاحظ” على الفطنة والتبصر بمواطن الصدق والكذب على أسس من توثيق الأخبار، ومعرفة الطبائع الإنسانية والموازنة بين الثقة والحذر، وتحري طرق العلم، واجتناب طرق الباطل والجهل.

ويشيد الجاحظ بالصداقة الحقة التى تؤدي إلى الأنس، وبحسبك “أن يكون لك من أخيك أكثره، وقد قالت الحكماء: “من لك بأخيك كله”، و”أى الرجال المهذب”.([19])

كما يدعو إلى المنافسة فى الخير فى أوقات الشدة. ويشير إلى ذم الحكماء للكذب لأنه جماع كل شر، والغضب، فهو لؤم وسوء مقدرة.

وذموا الجزع عند المصيبة التى لا ارتجاع لها، وكذلك الحسد لأنه “خلق دنئ”([20]).

والصبر “صبران : فأعلاهما أن تصبر على ما ترجو فيه الغنم فى العاقبة، والحلم حلمان: فأشرفهما حلمك عمن هو دونك”. ([21])

وتشتمل المفاخرة بالأنساب على الفساد لقدحها “البغضاء في القلوب”.

ويذكر الجاحظ أن الأخلاق المحمودة والمذمومة سائرة بين الناس في كل زمان ومكان. وعلى العاقل أن يتحرى جادة الصواب في سلوكه فى اختيار طريق الصلاح، ومجانبة طريق الفساد.

وإذا لم يكن بد من مخالطة الناس، فالنصيحة إقلال المؤانسة إلا بأهل البراءة من كل دنس. والمرء بقدر ما يسبق إليه يُعرف، وبالمستفيض من أفعاله يوصف”.

ونمضي مع الجاحظ فى تكشف فلسفة الأخلاق إذ يشير إلى أن “كثرة العتاب سبب للقطيعة، واطراحه كله دليل على قلة الاكتراث لأمر الصديق”.([22]) ومن الفضائل الاقتصاد في المزاح، فإن الإفراط فيه “يذهب بالبهاء، ويجرئ عليك أهل الدناءة، وإن التقصير فيه يقبض عنك المؤانسين”([23]). وهنا تتجلى فلسفة “خير الأمور أوساطها”، وتبرز القدرات العقلية الفذة للجاحظ فيلسوفا معتزليا يفند القضايا، ويحلل أسبابها وغاياتها فى إطار ثقافة واسعة يحلق بها فى أجواء التراث العربى بفنونه المختلفة شعرا ونثرا.

ويدعو “الجاحظ” إلى التعطف على من حطَّت عليه الدنيا، وأن يعتد المرء بكرامته فلا يتذلل لمن رفعته الدنيا، وعدَّ ذلك من مراقي الفضل، الذى يورث الشرف وحميد الذكر. ([24])

ويصور الجاحظ ثمرة الخير بقوله: “فارتَدْ لنعمك مغرسا تنمو فيه فروعها، وتزكو ثمرتها، لا تذهبْ نفقتك ضياعا، إما لعاجل تقدِّمه، أو لآجل ثناء تنتفع به”.([25])

ومراعاة الحقوق فضيلة لذوي النفوس العظيمة، تؤديها ببشر ويسر وطلاقة وجه.

وقد قال بعض الحكماء “غاية الأحرار أن يلقوا ما يحبون ويُحرموا ، أحب إليهم من أن يلقوا ما يكرهون ويعطوا”.([26])

وهذا التقابل فى أحوال الناس وأخلاقياتهم كما يعرضه الجاحظ، فيه الكثير من التحسين والتقبيح العقلانى سمة من سمات فلسفته المعتزلية.

والأصيل من ذوي الفضل هو الذى لا يمنعه المنكرون لفضله عن مواصلة الإنعام.

ويضع الجاحظ موازين دقيقة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم يصلح بها حال البلاد والعباد. وتتصل هذه الموازين بما قدمناه من سبل الصلاح، التي حفلت بها هذه الرسالة العظيمة.

 

الهوامش:

([1]) رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجى، مصر، الجزء الأول، ص 91.

([2]) البيت لأبى العتاهية.

([3]) رسائل الجاحظ، السابق، ص 92.

([4]) السابق، ص 93.

([5]) السابق، ص 94.

([6]) السابق، ص 95.

([7]) السابق، ص 96.

([8]) السابق، ص 98.

([9]) السابق، ص 99.

([10]) السابق، ص 104، 105.

([11]) السابق، ص 105.

([12]) السابق، ص 106.

([13]) السابق، ص 107.

([14]) السابق، ص 109.

([15]) السابق، ص 110.

([16]) السابق، ص 111.

([17]) السابق، ص 112.

([18]) السابق، ص 118.

([19]) السابق، ص 122.

([20]) السابق، ص 124.

([21]) السابق، ص 125.

([22]) السابق، ص 127.

([23]) السابق ، ص 128

([24]) السابق، ص 128.

([25]) السابق، ص 129.

([26]) السابق، ص 130.

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى