Uncategorizedدراسات ومقالات

دكتور نادر عبد الخالق يكتب إيقاع التجربـة فى رواية مكاشفات البحر الميت للروائي أحمد عبده

أسند الكاتب أحمد عبده النص فى روايته ” مكاشفات البحر الميت”، إلى تجربة ذات دلالة تراثية دينية، تفتح أمام القارئ آفاقا عديدة من الحكي ومن التأويل، ومن التأمل والبحث عن حقيقة هذا الإسناد وأبعاده الموضوعية والفنية، وهي هنا محاولة لبناء إيقاع خاص، نابع من معطيات النص الديني التراثي، ونابع من وجدانيات الموروث التاريخي، ونابع من محاولة بناء صورة ذات علاقة ودلالة تشير إلي أهمية النص التراثي، وإلى التأويل الذي يمكن أن يعتمد عليه النص الروائي المعاصر، خاصة إذا علمنا أن النص الروائي يبحث في أصل العلاقات الإنسانية المتشابكة، ويقف علي حقيقة تلك المركبات وما يترتب عليها من تنمية ووعي، لأصل الحركة الاجتماعية المعاصرة.
والكاتب يستوحي النص التراثي، ليس لفقر الحاضر ومنتجاته الدلالية، وإنما لمحاولة بعث الحاضر من منظور تراثي خالص، حيث تتم المواجهة بين الحالين، ويكون هناك تفسير لكثير من حالات الماضي، وتأويل وتحليل لمشكلات الحاضر، ورغم كل المحاولات التي استلهمت التجارب التراثية شكلا ومضمونا، إلا أن عملية التمثيل الحقيقية مازالت تقف عند حدود الاقتباس والتأويل النصي فقط وذلك راجع لاختلاف التجارب والمناسبات والظروف الاجتماعية والزمنية .

وقد قسم النقاد عملية الاستلهام التي تستوحي النص إلى أن النص التراثي ينقسم إلى قسمين (ساكن ومتحرك) ..النص الساكن: يعني به نص الكاتب، ويكون هذا النص محافظا علي قداسته وتركيبه ويفسر الواقع التراثي الذي يتناوله النص أكثر من تفسيره للواقع الحاضر، بل يكاد أن يكون قاصراً علي تفسيرالماضي فحسب دون مزجـه بالحاضر، واصطلحنا علي تسميته بالنص الساكن، لأنه يقف عند الماضي ويظل ساكنا عنده، كما أن السكونية ضد الحركية، وكل نظام ساكن يكون مغلقا علي نفسه ومن ثم يكون النص في مثل هذه الحالة نصا مغلقا لا ينفتح علي الأبعاد الإيحائية أو الرمزية المعاصرة (1) .

والنص المتحرك : يعني به النص الذي يصف عملية الانتقال من حالة إلي أخرى، أي يكون الوصف فيه متحركا، فيصف الأشياء في لحظة تحركها من حالة إلى أخرى وبذلك يعطي النص حركية تضاف إلى المعني المتعدد، كما أنه نص لا يحافظ علي قداسته وتركيبه، كما هو في كتب التراث، بل يستوحيه الكاتب، فيخرج بذلك من إطاره التراثي إلى دلالته المعاصرة، فيصبح النص متعدد الدلالة، ويتحقق ذلك من خلال مزج النصين التراثي والروائي معاً.”(2).

والمتأمل في عملية الاستلهام التي قام بها أحمد عبده، يجد أنها لم تخرج عن هذين النمطين أو الاتجاهين في عملية التمثيل الفعلية للنص التراثي، حيث نراه يعمد في الصورة العنوانية الي اتخاذ السكون والثبات حالة ايقاعية، ومركزا تصويريا، تنطلق منه الدلالات حيث تقوم بعملية تكثيف للعلاقات التي ستقوم فيما بعد بإنتاج الإيقاعات التصويرية التأويلية التحليلية عبر فضاء السرد .
والكاتب بذلك يحاول أن ينشأ حقولا من التعددية الايقاعية للنص، يمكنها أن تستوعب العديد من المشكلات والقضايا المعاصرة، التي يحاول الوقوف علي حقيقتها وليس علاجها كما سيتضح فيما بعد، كذلك حاول أن يقيم النص السردي معتمدا علي بنائية التصوير المتحرك تحركا اضطرابيا وليس تحركا نمطيا تقليديا، وهذا يجعل من النص المتن صورة مركزية انبعثت منها مجموعة من الصور والدلالات والعلاقات الإيقاعية الحركية .

ومن معالم ذلك أن النص برمته، قد نسب إلي دلالة الرمز الصوفي ” النفري” مباشرة شكلا ومضمونا، وفى أحيان كثيرة نقلا مباشرا دون وضع علامات تنصيص أو فواصل محددة، مما جعل هناك خلطا بين العلاقة والتأويل والإيحاء، كفضاءات ودلالات قامت عليها الصفة التصويرية فى النص، والتى أتاحت أمام الكاتب مجالات عديدة من السرد والتصوير، جعلته يفقد القدرة على المواجهة وموازاة النصين .
ومن هنا فإن الحيلة الرمزية الإيحائية، كانت وسيلته المباشرة فى الخروج من هذه الدائرة المغلقة والمضطربة، وهنا يحاول الكاتب خلق فضاء خاصا، وصورة مقصودة من الحكي، وهدفا روائيا ينم عن عقيدة راسخة، بحقيقة تلك المكاشفات والمنقلبات التي أفرزتها الدلالة المشتركة المتعدية إلى أصل النصين التراثي والمعاصر،مستفيدا الكاتب من ذلك الخلط والجمع المشترك بين الدلالتين، ومن يرجع الي قول” النفري ” المأثور في كتابه المواقف والمخاطبات :
(( كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة ))

وما يحمل من رؤية بلاغية ورمزية، يستطيع أن يستجلي عناصر التجربة عند أحمد عبده، إذ هي تجربة ذهنية في المقام الأول، حاول عن طريق الحكي الروائي أن يقدم رؤية عقلية وتفسيرية، لكثيرمن المعالم الفكرية والقضايا الاجتماعية، في حياتنا علي المستوى السياسي والاقتصادي والإنساني وذلك بواسطة الفضاء الصوفي المتمركز في النفري، والمتأمل في قول النفري علي المستوى البلاغي واللفظي، يجد أنه يقابل مقولة عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز: ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن “(3).

ولعل المواجهة بين النصين(عبد القاهر- والنفري) تؤكد أن الكاتب يحاول استلهام النص التراثي جملة وتفصيلا، وأبعادا حركية وتصويرية، حيث الرمزية الاستعارية البعيدة في النصين، وحيث المواجهة البيانية العميقة، كل ذلك يؤيد أن هناك فضاء آخر، حاول الكاتب أن يعتمد عليه، في رمزية النفري وهو دلالة مشتركة بين التراث وتمثيله وبين الواقع المعاصر، وتقبله للعنصر التراثي ويتجلى ذلك فيما ذهب إليه البعض من النقاد والمفكرين والمبدعين في حقبة الستينيات من القرن الماضي من أن” النفري” هو الرائد الأول لما يسمي بقصيدة النثر “وتلك حقيقة واقعية ولغوية تتضح من طريقة بناء الجملة،عند النفري، في كتابه المواقف والمخاطبات .

ملمحا آخر من ملامح التجربة عند أحمد عبده، وهو أن من يستجلي عناصر التجربة الموضوعية واللغوية، في نص المكاشفات، يقف علي كثير من الرؤى التأملية، لوقائع وحقائق، منها ما هو مدرك، ومنها ما هو أسطوري خارق ،قد يتناسب تماما، مع أفعال وإشارات وإيحاءات المتصوفة، فهناك ترحال وتطواف، وبحث وتنقل وسؤال، و صمت وحكي وحرية وإطلاق ومعني وفضاء، وتنوع في اللغة والتصوير، أعقبه تنوعا في الإيقاع والحركة والدلالة والعلاقة، ومن تشبع للحرية المطلقة، ونقلها إلى الحكي والنص، مما يوحي بأن الكاتب الروائي “أحمد عبده” استوعب تجربة النفري في بحثه عن الحقيقة المطلقة وعجزه عن الوصول والإدراك ، مما جعله يستوقف النفري ذاته، مستدعيا نصوصه وإحالاته، متضامنا معه في بحثه، لو استثنينا إهماله فى التوثيق ونسبة النصوص إلى صاحبها “النفري” .
وذلك أدى إلي تحقيق عملية التمثيل والاقتباس بطريقة مباشرة في النص وفتح مجالات عديدة أمام السرد القصصي، ليكون مركزا تنطلق منه الصورالمناهضة، والصورالمؤيدة، للكاتب – والفضاء الصوفي، كذلك أدى ذلك إلي وجود العديد من الدلالات والعلاقات ذات الإيقاع التراثي، والإيقاع المعاصر، الذي يجمع بين الاستفادة الرمزية الواقعية البيانية، وبين البحث في مشكلات وحقائق معاصرة .

ومن يتأمل نص” النفرى” “موقف البحر”يستطيع أن يدرك حقيقة العلاقة بين النص الروائي وأهدافه وأبعاده وبحوثه المستمرة في الوقوف علي حقيقة التركيبة الإنسانية، وبين حقيقة الفضاء الصوفي وإدراكاته ونفي الكثير من الاضطرابات التأملية، التي قد أصابت الأقوال التراثية التصوفية، ومن ثم النظر إليها برؤي مختلفة، وهنا قد جمع أحمد عبده بين حقيقتين: الأولـي الحقيقة الابداعية القائمة علي الاستلهام والتوظيف والبحث عن الحقيقة وتقديم مجموعة صور ذات إيقاع موضوعي وفني، تقف عند محيط السرد وفضاء النص الروائي، كحالة من الإيقاع المنظم والصور الاستكشافية الرمزية الحقيقية والأسطورية .

الحقيقـة الثانية : هي عملية البعث للنص التراثي وتمثيله، وتوظيفه توظيفا روائيا قصصيا، مع المحافظة عليه، وعدم استغلاله واستنزافه، أوالسقوط في عملية التحقيق والتوثيق، ومن ثم الخروج من حيزالإبداع إلى القراءة الظاهرية الأولي،يقـول النفرى في موقف البحــر :
أوقفني في البحرفرأيت المراكب تغرق، والألواح تسلم، ثم غرقت الألواح وقال لي: لا يسلم من ركب، وقال لي : خاطر من ألقي نفسه و لم يركب، وقال لي: هلك من ركبه وما خاطر .

وقال لي: في المخاطرة جزء من النجاة، وجاء الموج ورفع ما تحته وساح علي الساحل .
وقال لي : ساحل البحر ضوء لا يبلغ، وقعره ظلمة لا تمكن، وبينهما حيتان لا تستأمن .
وقال لي : في البحر حدود أيها يقلك، وقال لي : إذا ذهبت نفسك للبحر فغرقت فيه كنت كدابة من دوابه، وقال لي : غششتك أن دللتك علي سواي،وقال لي : إن هلكت في سواي كنت لما هلكت فيه، وقال لي : الدنيا لمن صرفته عنها، وصرفتها عنه،والآخرة لمن أقبلت بها إليه،وأقبلت به علي “(4) .

المتأمـل في هذا النص الموقف “موقف البحر “:يجد أن “النفرى”الصوفي، يحاول خلق فضاء وجدانيا متجردا من كل محسوس، ومن كل مادي، بقصد السيطرة والسطو علي كيان وعقل ولب المتلقي، وإفراغ ذاكرته، من المحاسبة المنطقية العقلية مع المحافظة علي طاقة اللغة وإجادتها، وابتكار صور جزئية، تشكل في النهاية إيقاعا حركيا، يؤدى إلى خلق صورة فضائية موحدة، تنسجم فيها كل هذه الصور .

وجاء هذا الموقف”موقف البحر” في صورة حوارية تأملية استنطاقية، مليئة بالرموزوالإحالات الاستعارية المباشرة ،والتي تذهب بالنص والصورة إلى عالم من الخيال والإدراكات النفسية، التي تعكس العملية السردية القصصية، في جوالموقف وقد أثبت فعل “القول “الحكائي أن الصورة الحوارية الحركية المتضمنة معني البحر، بصفته المحاور الأساسي، قد اختزلت في ثناياها،مجموعة تأملات سردية، ذات حضور حي مدرك تستطيع أن تقف أمام مردوداتها، مشاركا في الحوار وانبعاثاته، كل ذلك بفضل الاعتماد علي الصورة المشخصة، المنقولة من المعنوي البعيد إلى الحسي المدرك، وهذا يفسر العديد من تأملات الصورة المتصوفة– التصوفية– ويفك العديد من سبحاتها، ويفسر أيضا كثيرا من تجربة أحمد عبده، ويحلل العديد من الدوافع وراء سرده وانحيازه الصوفي .

وليس من شك في أن نص أحمد عبده قد استفاد من غرابة الفعل الصوفي، وحاول في كثيرمن المواقف التي استحالت إلى منقلبات، أن يتمثل الفضاء الصوفي، تمثيلا حركيا، بطريقة القياس والموائمة، ولولا التفسيرات المعاصرة، واستيعاب الحقائق الاجتماعية والسياسية النفسية والذهنية، لكان النص تكراراً لتجربة النفري، والمقابلة بين التجربتين تقف علي كثير من الحقائق والاقتباسات، وعملية التمثيل الإبداعية للتجربة والنص، يقول الباحث وليد عبد الله :
“النفري يحاول امتصاص الآخر داخل النص، وإفراغ ذاكرته وملأها،بمعان جديدة،دون أن تفقد اللغة وجدانيتها وإيقاعها،وأن النفرى يحدد خيال– النفرى- للقارئ،نقطة صغيرة من الضوء في فضاء شديد الظلمة، فيحركها بسرعة هائلة تداهمك بألوان شتي من الصور سرعان ما تتلاشي فلا يبقي منها سوى انعكاس الضوء علي العين، إنه يرسم في هذا الفراغ المظلم صورا من نور تبرق، ثم تتلاشي، مصورا لك الوجود مقلوبا،كما في بؤبؤ العين ليستخرج صورا تأخذ شكلها الطبيعي، وفجأة تراها تكبر وتتطاير بلمح البصر، إنها لعبة لعبة سينمائية معاصرة جداً، فهو أراد من كل هذا الخيال الغريب أن يؤسس ذاكرة جديدة، لرؤيا عوالم الغيب، ومعالم الاتصال مع الذات الإلهية فهو يظهر اللامرئي بصورة مرئية، ذلك أن الهوس الخيالي، ملاصق لصور الكمال والجمال الإلهي، وفي نهاية مطاف كل نص، ترى هذه الأنوار الصورية المشكلة من كلمات جامدة،توصل القارئ إلى عوالمه الذاتية،تومض وتبرق لتختفي دون أن تحمل حدودا واضحة المعالم، ولكنك لا تستطيع نكران مشاهدتك لها، فتخرج كأنك لم ترشيئا،ولن يتبقي معك سوى نشوة المشاهدة ،كما في المقطع السابق” (6) .

وتلك خاصية عامة يتسم بهاالنثر الصوفي– فغالبا ما يأتي تعبيرا عن المعارف الربانية، والعلوم الدينية، والأحوال القلبية، والمقامات الروحية من جهة، وتصويرالشدة والشوق، وفرط الوجد وعظم المحبة، ولوعة الهوى وحرالغرام من جهة أخرى، وكثيرا ما يجمع الشيخ الصوفي في المقالة الواحدة بين التعبيرعن المعاني الروحية، وتصوير الحالات العاطفية، والنبضات الشعورية، وما يعترى القلب والوجدان من جوى الهوى، وعصف النوى ولوعة الصبابة، ولهج الهيام” (7) .

ومن بين خصوصية النثر الصوفي وعملية التمثيل والقياس التي قام بها أحمد عبده في تجربته “مكاشفات البحر الميت” ومن بين خصوصية ” النفرى ” في استيعابه المواقف، ومحاكاة الرمز الأدبي، ورسم الإيقاع بواسطة الصورة، جاءت تجربة الكاتب، وفق تصورات نفسية مركبة، حاول فيها، نقل المعاناة الشخصية الرمزية الصوفية، وتحويلها الي واقع قصصي متداخل، مما جعل تجربته، فضاء عاما يحتوى عدة فضاءات، تحاكي التجربة الصوفية المتحررة من الواقعية المنطقية، ونجد الجانب الذهني عند الكاتب ورحلته الطويلة، في عملية التحويل والتفريغ، مستفيدا في ذلك من الرمز اللغوي المطلق وطاقاته الإيجابية البعيدة في التجربة الصوفية، وموظفاالإيقاع التأثيرى للغة النثرية وما تتميز به من حرية واسعة في التعبير و الاحتواء لكافة الصور .

ولم يعتمد الكاتب علي خاصية النقل المباشر لرحلة النفرى الرمزي وما تحتويه من تهويمات وشطحات صوفية بعيدة في مفهومها قريبة في مقصدها، وهي البحث عن الحقيقة الدائمة والقابعة في نفسوسنا، والتي تتعين في السؤال والإجابة، وإنما اعتمد علي جانب مهم، من هذا الفضاء الصوفي الخارجي العام، وهوالجانب القصصي المتواتر، الذي وإن كان في ظاهره يشرح حالات التيـه والبعد للنص الصوفي، لكنه يفتح مجالات واسعة من النص، تقف مع تجارب الكتاب السابقين، علي مستوى الشعر والنثر، الذين استلهموا البعد الصوفي والديني والرمزي واللغوي عند المتصوفة، واستطاعوا أن يقدموا تجارب إبداعية، تعد امتدادا لمثل هذه التجارب، وإحياء لعملية التأمل والبحث عن الحقيقة في جوهرالحقيقة والواقع .

وقد تجلي ذلك في الإبداع القصصي والمسرحي، مع المحافظة علي ذات الإيقاع والفضاء والصورة الرمزية الحسية المتحركة والمعنوية الثابتة، والنفسية والجمالية والدينية واللغوية والاجتماعية، من هؤلاء علي سبيل الذكرلا الحصر صلاح عبدالصبور ونجيب محفوظ، صابرعبدالدايم، حسين على محمد، علي الجارم، فاروق خورشيد، محمد البساطي، محمد جبريل، يحيي الطاهرعبدالله، محمد سعيد العريان، محمد فريدأبوحديد، وغيرهم .. .

وسأقف أمام بعض التجارب التي يمكن أن تعطي نتائج تحليلية لعملية التمثيل عند أحمد عبده، من ذلك تجربة نجيب محفوظ والتي تعتبرتجربة “مكاشافات البحر الميت”تسيرعلي نفس تمثلاتها والملاحظ أن نجيب محفوظ قد اعتمد علي البعد الصوفي في رواية “الشحاذ” ورواية”اللص والكلاب”،بطريقة تختلف عن تجاربه السابقة .

حيث استلهم هنا أفكارالإمام الغزالي، في كتابه المنقذ من الضلال، كما أشار هو نفسه ذات مرة في الصحف … من ذلك ما ورد في رواية”الشحاذ” حينما تحددت أزمة البطل،في عقيدته التي رسخت في وجدانه، من جملة قالها أحد رواد المكتب، حينما سأله وهو المحامي: ماذا سنفعل إذا كسبنا قضية الأرض، ثم عادت الحكومة واستولت عليها ؟ فأجابه قائلا: ألا نعيش حياتنا، ونعلم أن الله سيأخذها في النهاية “،(8) وفي رواية “اللص والكلاب”يقف الرمز المتجسـد في شخصية الشيخ “علي الجنيدى” مناوئا للمظهرالخارجي، في شخصية سعيد مهران، كل منهما يمثل اتجاها مغايرا، يعكس مدى المفارقة الضمنية، التي لم يجزلها أن تتحقق إلاعن طريق البعد الصوفي والأخلاقي، الذي تكلف بالقيام بعبأ هذه الحقيقة الخارجية والتي شكلت فضاء نفسيا رمزيا يعكس مدى البعد الصوفي عند الكاتب .

والملاحظ أن نجيب محفوظ، كان يقف عند حدود الفضـاء الخارجي الأول، كمظهرعام، وصورة إشارية إيحائية، دون أن يتعمق طبيعة التجربة الصوفية، معتمدا علي المفارقات، التي تحدثها المواجهـة الأولي، والتي تترك أثرا نفسيا رمزيا، يعكس مدى البعد الصوفي، ويظل ممتداً، حتى نهاية العمل والتجربة الإبداعية، يقول نجيب محفـوظ في حوار بين الشيخ علي الجنيدى، وسعيد مهران،في رواية” اللص والكلاب ” :

فسـال باهتمام : متي يجيئون يا مولاي ؟
– مع المغرب متي جئت أنت ؟
– مع الفجــر
 وصمت مليا، ثم مسح الشيخ علي لحيته وقال :
– أنت تعيس جداً يا بني !
 فتساءل في قلق :
– لمـه ؟
– نمت طويلا ولكنك لا تعرف الراحة،كطفل ملقي تحت نارالشمس وقلبك المحترق يحن إلى الظل،ولكن يمعن في السيرتحت قذائف الشمس، ألم تتعلم المشي بعد؟ !
 فقال سعيد و هو يدلك غيبة اللوزتين المحمرتين :
– فكرة مزعجـة أن يراك الآخرون وأنت نائم
 فقال الشيخ بلا اكتراث :
– من غاب من الأشياء غابت الأشياء عنه ..
 ومربيده بخفة فوق جيب المسدس وساءل نفسه ترى ماذا يصنع هذا الشيخ لوأنه صوب نحوه مسدسه؟ متى يمكن أن يهتز هدوده المثير؟
 وعاد الشـيخ يسأله :
– أنت جائع ؟
– كـلا .
 فقال وشبه ابتسامة تلـوح في عينيـه :
– إذا صح الافتقارالي الله صح الغني بالله
– إذا
 ثم في لهجة ساخرة
– مولاي .. ماذا كنت تفعل لو ابتليت بمثل زوجتي ولو أنكرتك كما أنكرتني ابنتي؟ فلاحت في العينين الصافيتين نظرة رثاء وقال :
– العبد لله لا يملكه مع الله سبب .. (9) .

– ويقــول :
• والتفت الشيخ نحوه و قال برقــة :
– أنت متعب . قم فاغسـل وجهـك ..
 فقال بضيق و هو يطوى الجريدة :
– سأذهب وأريحك من منظرى ..
 فقال في مزيد من الرقــة :
– هـذا مأواك ..
– نعم .. و لكن لم لا يكون لي مأوى آخـر؟
 فقال و هو يــطرف :
– لو كان آخر .. ما جـئتني !
– اذهب إلى الجبل حتى يهبط الظلام لاتغادره حتى يهبط الظلام تحاشي الضوء ولذ بالظلام، تعب بلا فائدة، ذلك أنك قتلت شعبان حسين من أنت يا شعبان؟ أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني، هل لك أطفال؟ هل تصورت يوما أن يقتلك إنسان لا تعرفه ولا يعرفك ؟ هل تصورت أن تقتل بلاسبب؟أنت تقتل لأن نبوية سليمان تزوجت من عليش سدره؟وأن تقتل خطأولايقتل عليش أونبويه أورؤوف صواب؟ وأنا القاتل لا أفهم شيئا، ولاالشيخ علي الجنيدى نفسه يستطيع أن يفهم،أردت أن أحل جانبا من اللغز.فكشفت عن لغـز أغمض، وتنهد بصوت مسموع ،

وعاد الشيخ يقول : يا لك من متعب !
– ودنياك هي المتعبـة .
 فقال الشيخ في رضـي :
– نتغنـي بهذا أحيانا .
 ونهض ، ثم قال و هو يهم بالذهاب :
– وداعا يا مولاي ..
 فقال الشيخ كالمحتـج :
– قول لا معني له علي أي وجـه قلته، قل إلى اللقاء ..(10) .
والصورة الحوارية السابقة اعتمد فيها الكاتب علي المواجهة المعنوية النفسية، بين مدلولات الرمزالصوفي، وحقيقة الفعل المادي الانحرافي، دون أن يكون هناك تفسيرللظواهرالتأملية الناتجة عن عملية المواجهة، وقد تطورت هذه الرؤية عند الكاتب في المرحلة التي بدأت برواية “أولاد حارتنا”، والتي توغل فيها باحثا عن الحقائق الكثيرة المتعددة والتي تتلخص في حقيقة العلم .. كفضاء خارجي عام، تشكلت علي أثره الإيقاعات المختلفة للصورة الروائية، وتلك قدرة ومهارة في التوظيف الخارجي والاستلهام الرمزي ومواجهته مع حقائق الحياة المعاصرة، في محاولة للعلاج وتحقيق مدلول السلبيات الاجتماعية .. .
كذلك تقترب وجهة نظر الشاعرصلاح عبدالصبور في استلهامه الرمزي لفضاء”الحـلاج”، من جانب التوظيف فى تجربة أحمد عبده، في روايته”مكاشفات البحرالميت “رغم اختلاف الجنس” فكلاهما لجأإلى المراوغة والتصريح عبرالآخر، فانتحال النفرى والحلاج كمعادل موضوعي ، ليس إلا تعبيرا عن صوت الشاعر والراوي سياسيا وفكريا واجتماعيا، يقول صلاح عبد الصبور علي لسان “الحلاج”، ويلاحظ أن عملية التمثيل هنا اقتصرت علي الاستفادة الرمزية في الفضاء الصوفي وشطحاته وتوسلاته المختلفة، والتي اعتمدت علي إبداعية الشاعر وفريحته الخاصة، دون التغلغل في التاريخ والحوادث مباشرة :

يقـول صلاح عبد الصبور :
 مثلي لا يحمـل سـيفا
 لا أخشى حمل السيف و لكني
 أخشى أن أمشي به
 فالسيف إذا حملت مقبضه كف عمياء
 اصبح موتا أعمي
• ويقــول :
 صفونا .. صفا .. صفا
 الأجهر صوتا و الأطول .
 وضعوه في الصف الأول
 ذو الصوت الخافت و المتواني
 وضعوه في الصف الثاني
 أعطوا كل منا دينارا من ذهب قاني
 براقا لم تلمسه كف من قبل
 قالوا : صيحوا، فليقتل أنا نحمل دمه في رقبتنا
 فليقتل أنا نحمل دمه في رقبتنا .
 قالوا : امضوا فمضينا .
 الأجهر صوتا والأطول
 يمضي في الصف الأول
 ذو الصوت الخافت والمتواني
 بمضي في الصف الثاني
ويقـول أحمد عبده في مكاشفات البحر الميت :
• صرخ جناح . فسكت الجميع / فأنشدت قائلا :
• أما أنا .. فلا أطلب زهقا و لا رهقا .
• عزيز قوم يسبح في الكون منزلقا .
• يطلب الأكسير لقوم في الخناذلوا
• أنوفهم من حشيش الأرض مخضرة
• وأسنانهم من طحن التبن مصفرة
• ظهورهم مطايا،بناتهم سبايا
• نساؤهم بغايا ، فما انتفضوا وما ملوا

فكان كبار القوم يهزون رؤسهم في إكباروأسي لما أقول،ثم تساءلواعما أصاب الناس عندنا،فقلـت : ينام الرجل منهم وهوفي تمام فحولته،ثم يقوم من نومه فلا يجد بين فخذيه ذكورة “(11).

ويقول : كاد الضحك أن يندلق من وجوههم،لكن الظاهرأنهم أدركوا قدسية المكان، فهذا مكان إن جاز فيه التبسـم، فلا تصح فيه القهقهة،أكلهم الشك، فراحوا يتفرسون وجوه بعضهم، أصابته نوبة ضحك هستيرى – غلبهم تصورهم لكاريكاتورية الموضوع ، أوربماأحزنتهم درامية الموقف، فكانت عيونهم تذرف الدمع وهم يضحكون،فلا تعرف إن كانوا يضحكون أم يبكون، عامت فششهم علي ماء قداسة المكان . ثم بعثهم الشك علي التقليب فيما بين أفخاذهم، وتحسس شواربهم … “(12) .

وعندالتحليل بطريق الصورة الخارجية ذات الايقاع الموضوعي الرمزى ،نجد أن رؤية أحمد عبده في قصة “مكاشفات البحر الميت” ( رغم نقلها المباشر من مواقف النفرى)،مقابل رؤية نجيب محفوظ في قصة اللص والكلاب ( والتى استلهم فيها المعنى فقط)،قد تخطي فيها المظهرالخارجي، كفضاء عام أول إلي عمق التجربة الصوفية، بواسطة العناصرالفنية الاخرى”الشخصية– الزمان- المكان– اللغة “مقدماعدة أبعاد صورية ذات دلالة صوفية في مظهرها الفضائي الخارجي، واقعية معاصرة في فضائها الداخلي، وقضاياها العديدة، ولم يستطع الكاتب أن يقف عند حدود المظهرالفضائي الخارجي، نظرا لرغبته في الاحتماء الكلي وتوجيـه النص، ومواجهاته نحوالرمزالصوفي .

وإذا حاولنا أن نربط بين النفرى كفضاء عام يمتد داخل النص، ومسيطرعلي عناصره المختلفة، وبين مدلول العنوان وإيقاع صورته، نجد أن الكاتب- قد عمد إلي فضاء خاص به وبمفهومه لتجربة النفرى الأدبية والصوفية – وهو فضاءالسؤال والاستفهام الدائم، عن حقيقة تلك المكاشفات، التي يمكن أن تقترن بحقيقة البحرالميت، ورمزيته الضاربة، في مجهول لاغاية وراءه، ولاهدف لكونه يفتقد الي الحياة، التي هي أساس الحقائق كلها، وهذا يفسر إيقاع الصورة التي يمكن أن نستخلصها من حقيقة البحر الميت،كفضاء طبيعي، وكصورة أدبية، لها دلالتها تعضدها صورة الرمزالصوفي القابع في النفرى وما بينهما من خلاقات متضامنة في الكشف والسؤال، والعجزوالإجابة، مما يجعلنا نتأمل الصورالتي تأتي بعد ذلك في ضوء هذا التحليل .

وكذلك رؤية أحمدعبده التصويرية (المستدعاة بطريق النقل المباشر) مقابل رؤية صلاح عبدالصبور (الرمزية فى معناها ومضمونها وتوظيفهاالدقيق) في قصة مأساة الحلاج، والتي تنتمي إلى جنس الشعر المسرحي، مما يجعل هناك تمايزا بين فضاء الوصف الروائي، وفضاء الحوارالمسرحي المصور، ورغم ذلك إلا أن هناك قاسما مشتركابين النصين، وهوأن كلا الكاتبين، يحتمي داخل رمزية الفضاءالصوفي، معلناموقفه، من واقعة ومجتمعه، علي الصعيد السياسي والاجتماعي، وتلك صورة إصلاحية واقعية، إذا أخذت علي الجانب الاجتماعي بعيدا عن الرمز الصوفي، وغالبامايلجأإليهاالكتاب، خاصة الشعراء،علي سبيل الاستعارة ويشهد نص مكاشفات البحر الميت مرحلة متقدمة في مجال الرواية و القصة، علي اعتبار أن التمثيل لم يقتصرعند المعني الأول، بل تعداه إلى عملية التوظيف والدمج، والخلوص بنتائج رمزية، تبدو في حقيقتها تفسيرا لظواهر عديدة معاصرة .

والمتأمل في النصـين :
يجد مجموعة من الاستعارات،التي تمثل صورا فعلية، تثيرالخوف والقلق من ضآلة الواقع فالنص الأول : كـف عمياء
موتا أعمي وغيرها . (13)
والنص الثاني : يسبح في الكون – يطلب الإكسير
أنوفهم من حشيش الأرض مخضـرة
وأسنانهم من طحن التبن مصـفرة (14)
فالصورة الأولي: المقتطفة من نص مأساة الحلاج – لصلاح عبد الصبور بعيدة غريبة متنافرة انحرافية، إذا خرجت عن السياق، فالكف لا ينسب لها العمي وكذلك الموت لا يوصف بالأعمى، ولولا السياق المستعار للصورة، والذي كشف عن غياب الأمل وحضورالتشاؤم، لما كانت هذه الصورة المعبرة، والتي لخصت كثيرا من التفسيرات المعاصرة لقضايا وأمور قياسية اجتماعية حقيقية، أيضا اتحاد التشبيه واختلاف المشبه، أدى إلى اتحاد النتيجـة رغم اختلاف المسبب .

والصورة الثانية : في نص أحمدعبده، تشيرإلى إيقاع فضائي شامل، يؤكد استحالة الطلب والإجابة، وعملية التحول التي نسجها الكاتب تعود بنا إلي البناء الأصلي للعنوان ومكاشفات البحرالميت “حيث لا أمل في الاعتدال ولارجاء في البحث والسباحة، وتلك حقيقة طرحها النص مقدما وأكدها السياق .

كذلك تشيرالدلالة إلي أن هناك فروقا فنية وموضوعية، بين التصوف في الرواية، والتصوف في الاجناس الأخرى، كالشعرالمسرحي، هذه الفروق تكمن في أن الشاعر يستطيع أن يصبغ تجربته بالصبغة الصوفية، حتي تلتصق به، وتصبح دلالة واضحة تدل عليه، وعلي سماته المعرفية والوجدانية، والروائي له صورا أخرى فى تمثيل الرؤية وتلك الحالة،نظرا لعملية النشاط الفني- داخل النص-والذي تحدثه الشخصيات والحوارات، فالروائي لا يصور ولاينتقل نقلا مباشراحثيثا، إنما يطبع النص بطابعه– بواسطة أشخاصه وعناصره، الفنية والموضوعية .

وقد حاول أحمد عبده – القيام بعملية استثمار كاملة للنفرى، وما يحيط به من هالة دينية صوفية رمزية، تحول الفعل والصورة إلى شطحات وخيالات، تبدوفي ظاهرهاغامضة، وقد حاول ترجمة ذلك إلى واقع قصصي فني يضج بالحركة والاضطراب والنشاط، مستلهما الكثيرمن أحداث العصرالسياسية و الاجتماعية والدينية، طارحا مجموعة من الاستفهامات، التي تدورفي حركة دائبة، داخل محيط النص، تبحث عن نفسيروتوضيح، ولوأنه أقام حوارا بين نصه الروائى وبين مواقف النفرى محددا نقاط الاستشهاد والنقل التى لجأ لها لكان له فضل التعبير النفسى الصوفى الذى بتماس مع الحاضر ويستشرف المستقبل، لكنه اكتفى بالنقل دون الإشارة .

الهوامش :
1) العناصر التراثية فى الرواية العربية فى مصر(1914-1986)د.مراد عبدالرحمن مبروك ص 133.
2) السابق ص 145.
3) دلائل الإعجاز – الجرجانى ص 146 تحقيق محمد محمود شاكر الخانجى 1984.
4) المواقف والمخاطبات محمد بن عبدالجبار النفرى ص6-7 تحقيق أرثر أريرى تقديم وتعليقد.عبدالقادر محمود الهيئة المصرية العامة للكتاب1985
5) بحث ألقى فى أمسية أقامها المنتدى الثقافى العراقى فى دمشق26/8/2000
6) الشحاذ نجيب محفوظ مكتبة مصر.
7) اللص والكلاب نجيب محفوظ 66- 99 مكتبة مصر.
8) السابق 70- 71
9) مأساة الحلاج صلاح عبدالصبور
10) مكاشفات البحر الميت أحمد عبده ص 79
11) السابق ص79
12) مأساة الحلاج صلاح عبدالصبور
13) مكاشفات البحر الميت أحمد عبده
14) مكاشفات البحر الميت أحمد عبده

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى