أخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات

محمد رضوان يكتب أن تحيا دون أن تتسابق

يبدو الإنسان في هذا العصر ككائن دُفع دفعًا إلى مضمار لم يختَر دخوله. ينظر حوله فيرى الجميع يركض: واحد يسبق، وآخر يلحق، وثالث يلهث، فيخاله العقل سباقًا حقيقيًا، وتخاله النفس ضرورة مصيرية. وهكذا يبدأ الركض بلا سؤال أول: لمن أركض؟ ولماذا؟ وما الذي يحدث لو توقفت؟

تبدأ الفلسفة دائمًا من السؤال، والسؤال هنا بسيط لكنه محرّج: ما معنى أن أتقدم؟ وما معنى أن أتأخر؟ ومن الذي اخترع لنا فكرة أن الزمن واحد للجميع، وأن النجاح له نقطة وصول واحدة، وأن السير على وتيرة شخصية نوع من الضعف أو الكسل؟
إن هذه التصورات ليست إلا أوهامًا اجتماعية تراكمت حتى تحولت إلى قوانين غير مكتوبة، يطيعها الناس خوفًا لا اقتناعًا، ويعيشون ضمنها قلقًا لا رغبة.

الحقيقة أن الإنسان لا يعيش ليواكب أحدًا، ولا ليحاكي سرعة أحد، ولا ليعيد إنتاج مسار أحد. الإنسان يعيش ليكشف ما يناسبه هو، وما يتسق مع طبعه، وما تنجذب إليه إرادته الداخلية حين تُترك دون تشويش. المقارنة تسلبه هذا الاكتشاف لأنها تحوّل نظره إلى الخارج دائمًا، وتجعل الآخر معيارًا، بينما يجب أن يكون الآخر مجرد وجود موازٍ لا علاقة له بمصيره.

الفلسفة تعلّمنا أن كل مسار هو “قدر فردي”. أنت لست نسخة مؤخرة من شخص آخر، ولست نسخة متقدمة من أحد. أنت مسار قائم بذاته، لا يقبل القياس، ولا يصح الحكم عليه من الخارج. لذلك تبدو فكرة السباق، حين ننظر إليها بعمق، فكرة عبثية: كيف يقارن من لم يعش حياتك حياتك؟ وكيف يسبقك أو تتأخر عنه وأنتما لم تحملا الحمول نفسها، ولم تعبرا الظلال نفسها، ولم تختبرا الانكسارات ذاتها؟

التحرر من السباق ليس انسحابًا من الحياة، بل تصويبًا لطريقتها. هو أن تتحرك دون أن تلتفت إلى الضجيج، وأن تعمل دون أن تقيس نفسك، وأن تتقدم لأنك تريد أن تتقدم أنت، لا لأن الآخرين يراقبون. وحين تخف وطأة المقارنة، يبدأ إيقاع داخلي في الظهور. إيقاع يشبهك، لا يسرع بك ولا يبطئك، بل يضع قدميك في المكان الذي يناسب قوتك الحقيقية، لا القوة المتخيلة التي أرادها المجتمع لك.

وعندما يبدأ الإنسان بالعيش وفق هذا الإيقاع، يشعر بشيء غريب: الهدوء. يصبح الإنجاز أقل صخبًا، وأكثر صدقًا. يصبح الزمن أوسع، لأنه لم يعد يُقاس بأعين الآخرين. يصبح الطريق نفسه غاية، لا مجرد ممر للوصول إلى مكان ما.
ويتضح له أن السباق لم يكن يومًا امتحانًا لقدراته، بل امتحانًا لوعيه: هل يعرف من هو؟ أم سيظل يعيش كأنه ظلّ لشخص آخر؟

في لحظة معينة، يدرك أن كل ما خاف منه — التأخر، الفشل، البطء — لم يكن سوى صور متخيلة صنعها الخوف. وأن حياته تعطيه فرصتها الكاملة حين يخرج من المضمار، حين يتوقف عن الركض المرهق، وحين يختار أن يسير، لا ليصل أسرع، بل ليصل أعمق.

وفي النهاية، لن يَسأل الإنسان نفسه: “كم سبقتُ؟” ولا “كم تأخرت؟”
بل سيسأل السؤال الوحيد الذي يملك معنى:
هل عشت كما يليق بي أنا، لا كما توقع الآخرون؟

حين تستطيع أن تجيب “نعم”، تكون قد خرجت من السباق… وعُدت إلى نفسك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى