ساحة الإبداع

عبد الهادي شلا يكتب رمادي

قصة قصيرة

ينتشي و يتغشاه فرح كبير كلما اختلس فسحة من الفراغ الذي يعيشه في عزلته التي اختارها ليطل من النافذة الصغيرة الوحيدة على العالم.

حدث نفسه وهو يراقب ما يجري خلف جدران غرفته الموحشة حتى بات على قناعة أن الحياة خارج غرفتة الصغيرة هي أضيق منها على نفسه

لوحة بريشة الفنان التشكيلي عبد الهادي شلا
لوحة بريشة الفنان التشكيلي عبد الهادي شلا

تلك الهلوسات نزلت على روحه بالسكينة لأنه اختارها لتكون عالمه الذي لا ضجيج فيه ولا جدال في مواضيع من كل نوع طفحت بها روحه وأشقتها في لهاث سنين طويلة دون أن يلوح منها بصيص نور يرضي بعضا من قناعاته ومتناقضاته .

في حواره مع نفسه يحاول أن يؤقلمها مع هذه الصور اللامعة حينا والباهتة أحيانا..!!

الآن وأنا أطل من النافذة أستطيع أن أرى كل الكوابيس التي لا تزورني في أحلامي ..
أستطيع أن أخبر كل من يمر من تحتها بما يجري هناك عند اخر الزقاق المتعرج!
أستطيع أن أخبر هذا الطفل الخائف وقد جحظت عيناه هلعا وخوفا أنه فقد يد أمه التي كان يمسكها وهو يسير بجوارها بأنها بلهفة وفزع عند التقاطع في أخر الزقاق تستنجد بالمارة وتسألهم عنه؟!

أستطيع الآن أن أخبر هذا الشرطي عن الحجرة المظلمة الحقيرة التي يقطن فيها ذلك الحشاش الذي يتحول أحيانا إلى لص يسرق الغسيل المنشور على سطح العمارة ليشتري بثمنها حشيشا تصلني رائحته في سكون الليل والكل نيام.

أستطيع أن أخبره بأن صراخ طفل في منتصف الليل كان بسبب أنه جائع ويريد ثدي أمه التي أنهكها تعب النهار فنامت مثل جثة هامدة .

و يرى الأحلام حقائق حين ينام..تزوره بصورها المبهجة تارة و حزينة قاتمة اللون قاسية الملامح تارة أخرى..!!

الشارع الضيق من تحت النافذة يمر به خليط عجيب من البشر لهم ملامح لا تتشابه في أي شيء .. تتزاحم كتفا بكتف …

صوت أقدامهم تدب على الأرض كصوت الرعد بينما صراخهم يُعلن قيام الساعة وقد اختلط في بوتقة نحاسية حين وصله مجلجلاً أزعجه وأخرجه من حالة اللامبالاة التي يعشقها ،بل يخترعها ويصب فيها كل هلوساته وخيالاته الغريبة كلما أطل من النافذة..!!

يتضاعف هذا الإحساس ،حين ينظر في وجوه العابرين في كلتا الجهتين المتقابلتين..

هو غير قادر أن يكون واحدا منهم .. ويمر من تحت النافذة مثلهم..يسير في الشارع إلى حيث تأخذه قدماه وإحساسه يشده إلى المنطقة الرمادية التي اختارها..

هو بلا ملامح.. خواء يمتد إلى اللانهاية ..حتى حين يصطدم هذا الخواء بجدارالغرفة الضيقة الصغيرة ..يذوب فيها..لا يراه.!!

سأل أحد المارة بصوت خافت كأنه يخرج من بئرعميقة مهجورة منذ آلاف السنين عن سر تلك الوجوه العابسة والأخرى المبتهجة؟!

لم يسمع ردا..نظرات توجس..دهشة..تمتمات لم يسمع منها شيئا..

صمت يرتدد صداه في قاع البئر الذي خرج منه السؤال..

تضاعف إحساسه بالبعد عن هذا العالم الصاخب وما فيه من حياة لا تشبه حياته التي ألفها وتعايش معها..

صار صديقا فقط لشخص يشبهه بنفس الملامح،ولجدران غرفته الصفراء وفراشه الذي فاحت منه رائحة العفن والرطوبة فملأت المكان .. كل شيء بارد ..صار رمادياً..ولا منفذ سوى هذه النافذة الصغيرة..

أنا..؟!

ماذا أنا..؟!
أريد أن يبدو كل شيء جميلا؟

كيف؟! هذا مستحيل..

أنا في منطقة رمادية لا لون لها ..منطقة بلا ملامح ..لا رأي لي فيها حتى أفكاري صارت رمادية لا تتفق مع أي لون من ألوان الحياة..

يجب أن أختار لونا أكونه أنا أصيره كما أريد،أذوب في الشارع ذاهبا أم عائدا لا يهم .. المهم أن أكون بملامح أعرف بها نفسي قبل أن يعرفني بها الآخرون.

يجب أن أتخلى عن لوني ..الرمادي الآن..!

ساحة الإبداعأوبرا مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى