دراسات ومقالات

تشكيلات الحزن في شعر المعتمد بن عبّاد الإشبيلي وأبي فراس الحمداني

مرحلة الأسر أنموذجاً، دراسة مقارنة شفيق القوسي

من يقرأ الأدب العربي القديم، يجد في قصائده الكثير من الشعراء التشابه الكثير سواء في صورهم الشعرية أم في موضوعاتهم المتنوّعة، بَيْد أنّ هناك بعض الشعراء تساوت تجربتهم الشعرية من خلال محنةٍ ما تجمع بينهم، ومن أولئك الشعراء، الشاعران الكبيران، والعلمان الشامخان، الملك الشاعر/المعتمد بن عبّاد الإشبيلي المتوفّى 488هـ، والأمير الشاعر/أبوفراس الحمداني المتوفّى 357هـ, حيث نلمح في قصائدهما إبّان مرحلة الأسرتشابهاً كبيراً,فكلاهما كان لهما المجد في موطنه؛ المعتمد ملكاً، وأبوفراس أميراً ، وكلاهما وقع في الأسْر، وقد خلّفا العديد من القصائد البديعة، والمقطوعات المؤثرة في وصف الأسر ومِحنه المظلمة ،فكل واحد منهما أثخن بالجراح قبل أسره، وتكبد مرارة المرض في محبسه، وقد كانت مدة الأسرلكل منهما متساوية، غير أن أبافراس تمّ إطلاق سراحه, أمّا المُعتمد فقد مات أسيراً في منفاه البائس.
وقد كان لقصائدهما في تلك المرحلة تأثيربالغ في تشكيل الحزن، ورسم آلامه,واستقراء تنوّع انكساراته، وتتابع زفراته المحرقة، هذا ماجعلنا نقارن بين تلك الأشعار، ونرصد تشكيلات الحزن فيها.
ونفتتح المقارنة بينهما من قول المعتمد بن عبّاد عندما هاجم المرابطون عاصمة ملكه، وحاصروه في قصره سنة484هـ، وقد كان أشار عليه وزراؤه بالخضوع والاستعطاف، فخرج مدافعاً عن نفسه وأهله وأخذ يقول(1):
لمّا تماسكت الدموعُ وتنبّه القلب الصديعُ
وتناكرت هممي لما يستامها الخطبُ الفظيعُ
قالوا الخضوعُ سياسة ٌ فليبد منك لهم خضوعُ
وألذُّ من طعم الخضوع على فمي السمُّ النقيعُ
إن يسلب القوم العدا ملكي وتسلمني الجموعُ
فالقلب بين ضلوعه لم تسلم القلب الجموعُ
لم أستلب شرف الطباع أيسلب الشرف الرفيعُ
ماسرت قط إلى القتال وكان من أملي الرجوعُ
شيم الألى أنا منهم ُ والأصل تتبعه الفروعُ
هذا النص يتفق مع قول أبي فراس عندما وقع أسيراً في أيدي الروم بعد أن طالبه أصحابه بالفرار:(2)
وقال أصحابي الفرار أو الردى فقلت هما أمران أحلاهما مرُّ
ولكنني أمضي لما لا يُعينني وحسبك من أمرين خيرهما الأسرُ
فلا خير في دفع الردى بمذلّةٍ كما ردّها يوماً بسوءته عمرو
نلاحظ تشابه المعاني بين النصين، فكلاهما تنضح منه النفس الأبية العزيزة الرافضة للتولّي والفرار، بل حتى الاستسلام، وقد فضّل كل واحد منهما الموت على ذلّ الخضوع، وقهر اليأس,على الرغم من أن المعتمد أُسرَهووأسرته، وخلع من ملكه وسلطانه، أما أبوفراس فقد تمّ أسره في سرية فرسان في إحدى ضواحي منبج، ومع ذلك تظلّ نفس العربي أبيّة جامحة لمحنا ذلك في النصين السابقين لكلا الشاعرين.
وقد جاء نص المعتمد على تفعيلات مجزوء الكامل المرفّل”متفاعلن متفاعلاتن”، حيث بدا الإيقاع أكثر رونقاً، وأرقّ وقعاً من مقطع أبي فراس الذي جاء على وفق تفعيلات البحر الطويل ذي النفس الطويل، والمقاطع الكثيرة، كما أن المعتمد استخدم تقنيّة الازدواج الصوتي عبر تناوب حرفي القافية “الياء والواو”، ما أعطى النص بُعداً نفسياً، وتناغماُ إيقاعياً، يمفصل النص بحركة دؤوبة تخلق القدر الكافي من الشعرية.
وفي نص آخر يقول المعتمد:(3):
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي سوارح لاسجن يعوق ولاكبلُ
ولم تك والله المعيذ حسادة ولكن حنيناَإن شكلي لها شكلُ
فاسرح لاشملي صديع ولا الحشا وجيع ولا عيناي يبكيهما ثكلُ
هنيئاَ لها إن لم يفرق جميعها ولا ذاق منها البعدعن أهلها أهلُ
وإن لم تبتْ مثلي تطير قلوبها إذا اهتزّباب السجن أو صلصل القفلُ
لنفسي إلى لقيا الحمام تشوّفٌ سواي يحب العيش في ساقه كبلُ
ألاعصم الله القطا في فراخها فإن فراخي خانها الماء والظلُّ

نلاحظ هذا النص يتماثل صياغةً وإيقاعاً مع نص أبي فراس وهو يخاطب حمامة في سجنه، ويبثها همومه قائلاً(4):
أقول وقد ناحت بقربي حمامة أياجارتا هل بات جالك حالي
معاذ الهوى ماذقت طارقة النوى وما خطرت منك الهموم ببالي
أتحمل محزون الفؤاد قوادم على غصن نائي المسافة عالِ
أياجارتا من أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة ويسكت محزون ويندب سالِ
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ولكن دمعي في الحوادث غالِ

ونجد التشابه إلى حدٍّ كبيرٍبين النصين السابقين يكاد يكون جليَّاً، فالمعتمد يتمنّى أن يكون كسرب القطا،كي ينطلق محلقاً بلا أغلال ولاقيود، وأبو فراس يخاطب حمامة على غصن،ويريد أن يقاسمها همومه، لأنه كما يقول أولى بالدمع منها غير أن دمعه غالٍ إذا دهمته الحوادث.
بيْد أن الحزن الراعف يتشظى بقوة في نص المعتمد؛فقلبه يطير إذا سمع باب محبسه أوحتى قفل الباب يتحرك!! حتى أنه تمنى الموت؛لأنه لايطيق العيش حبيساً،كماأن حزنه على ملكه وأهله كبير،بدليل قوله: (فإن فراخي خانها الماء والظل) كناية عن أبنائه واسرته التي باتت تعاني الأمرّين في ظلمات سجن أغمات.وهذا يذكرنا بنص الحطيئة وهو يعتذر لسيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه بقوله(5) :
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لاماءٌ ولاشجرُ

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى