عرفتها هناك على مقاعد الدراسة، طفلة مثلي تنبض بالأمل المختبئ بين ضلوعها، يتوهّج تارة وينطفئ تارة أخرى.
لم تكن الدراسة أولوية لها، فسيان عندها التفوق والركود، والنجاح بحدّ ذاته لم يكن هدفا حقيقيا لها. تجلس منزوية في الدرج الأول، تمسك بيدها الغضّة رغيفَ خبزٍ محشو بالزبد البلدي، تقضمه بين الدقيقة والأخرى دون أدنى اعتبار لمعلِّمة الصَّف، توجِّهُ سمعها للمُدرِّسة لتسترق منها ما يمكنها أن تجعل منه قاعدة متينة لأعوامها المجهولة القادمة، عيناها الكحيلتان صوب اللَّوْح الأبيض وملء ذهنها بيت الشَّعر وبضع نعاج تنتظرها فور عودتها من المدرسة لتقوم برعايتها وحلبها.
“أسرار”! نادتها المعلمة بصوت مرتفع جعلها تقطع حبل وصلها بالمخطط الذي اعتادت على رسمه وتنفيذه ثم تعود في اليوم التالي لتخطط ليومها الجديد من جديد.
” أسرار” أين الواجب ؟
تنظر إليها الفتاة نظرة عميقة، وبلهجة بدوية مكينة تجيب: ما عندنا نت يا مس، النت الي بجوّال أبوي ضعيف ما يكفي دروس الزوم!
يطوقني ذلك الشعور بالعجز لهذا الجواب التلقائي، وألف سؤال يدور في عقلي المتواضع الذي لم يتشرّب من الحياة بعد: هل أسرار فقيرة؟ هل هي من عائلة شديدة التواضع ماديا وفكريا؟ وألف “هل” تغتال روحي! وأنا أحاول مدّ يد العون، وفي الوقت الذي كنت أختلسه من اهتماماتي من أجل رعايتها دراسيا – على الأقل – كانت هي تشكرني محجمة عن التفاعل معي، فلا رغبة لها بالدراسة.
حلمها حرٌّ طليق، وطموحها فوق الغيم، يرقب صغار الغنم المتعثرة بين صخور ووديان المنطقة وهي تبحث عن عشب يسدّ جوعها أو يشبعها في أحسن الظروف.
كانت معلمات الصّف يدركن ظرف أسرار الذي لم تكن عقولنا تستوعبه، فابنة الخيمة وابنة القصر تجتمعان داخل أسوار مدرسة واحدة، فما الذي يجعل تلك متفوِّقة وهذه لا تهتمّ بمبادئ التعليم من الأصل؟
لطالما كان الفضول يعتريني نحو تلك الفتاة، وكنت على يقين بأنّ أسرار طالبة ذكية فتنتشيني رغبة الشعور بالنجاح من خلال زميلتي تلك، سيصدح اسمها عاليا من خلال ميكروفون إذاعة المدرسة ليُنادى عليها من بين الطالبات المُكرَّمات، وما يلبث حتى يتبدّد انتشائي مع حلمي ويقيني عندما توزع علينا علامات الامتحان، فأنال العلامة الكاملة وتكون علامة أسرار متدنية جدا.
كنت أدرك تماما بأنّ النجاح لا يكون من اللحظة الأولى، وأن سباق الألف ميل يبدأ بخطوة، لذلك حزمت إرادتي وعقدت العزم فاستجمعت كل ما أوتيت من إصرار، وقررت المُضي قُدما وفي قلبي شعاع من الأمل لرفع راية التفوّق على خيمة أهل أسرار، سنجعل هذا الفصل يمضي على خير، وننطلق من جديد مع بداية سنة مزهرة جديدة، نضع فيه أقدامنا على أرضية قوية، نلج منها عبر بوابة الأمل إلى عالم التفوُّق، عالم لا يشبه “أسرار” إلاّ بالطموح الذي يشبه عينيها بارقا متألقا يشي بغد جميل يستقبلنا معا.
مع بداية السنة الجديدة يمضي اليوم واليومان والأسبوع الأول فالثاني، لم أعد أرى “أسرار” ذات الملامح الحادة البريئة، وتقرر معلمتنا التواصل مع صديقتي البدوية لكنها لم تفعل.
لم أسمح لتخاذل مُدرِّستي (كما كنت اظن) أن يذهب بحلمي بعيدا عنّي إلى حيث المستحيل
ما الذي يعيق فتاة في ربيع العمر عن متابعة تعميلها، هُرِعتُ دون تردُّدٍ إلى صف كانت فيه ابنة عمها، وسألتها عن “أسرار” وأختها التي لم تتم السابعة عشر، فقالت بأنّهما بخير ولكنهما لن تعودا إلى المدرسة
أخذتُ هاتفي فور وصولي إلى البيت وأنا أقاوم الانصياع إلى السيناريوهات التي حكتُها في عقلي، واتّصلت عليها متوقِّعة أحداثا لولبية قادتني إلى عوالم غرقت في سوداويتها، ولم ينجِني منها سوى الصوت القادم من الهاتف كأننا التقينا بالأمس:
– ألو مرحبا مارينا كيفك؟
– مرحبا أسرار كيفك؟ وينك ليش ما عم تيجي عالمدرسة؟
انتعشت روحي لذلك الصوت الطفولي الدافئ، ثمّ جفّت فجأة وكأنما سيلٌ جارف قذقني خارج هذا الكون الذي ضاق بي رغم رحابته، كان جوابا واحدا من “أسرار” قالته بكل براءة وعفوية التي اعتدتهما منها:
– لا انقطعت عن المدرسة، أختي التوجيهي تزوجت وأنا بظلني في البيت أساعد أمي في حلب هالغنمات وتنظيف البيت وأختي الصغيرة حتروح بدالي.
لم تزل مأساة تلك البدوية تؤجج نار فكرة عدم التوازن في مجتمعنا! كيف تتزوج فتاة دون السابعة عشر، وتقعد أخرى في عمر الخامسة عشر في البيت من أجل أن تكون ربّة منزل إلى جوار أمها…!!؟؟
مارينا احمد “محمد نوري” عثمان – الأردن