دراسات ومقالات

المستشار محمد عبد العال يكتب سماعات نفرتيتي

في مايو من كل عام تستعد البيوت المصرية لاستقبال أثقل ضيوف العام، ينصرم رمضان ببهجته وما يقدمه من دراما لندخل في دراما واقعية لا يطيقها أحد، ورغم ذلك يجب أن تتحملها فأنت لا تملك الانصراف من شاشات حياتك الطبيعية، يأتي هذا الضيف العنيف الممل الذي تغلق معه الشاشات ولا يترك مجالا إلا للنبيهات يقضى على كل ذكرى رمضانية سعيدة، موسم الامتحانات.

هكذا كنا نعيشه جيل السبعينيات والثمانينيات، كنت أعتقد أن تلك الأجواء من أصعب ما عاصرت حتى هالني ما رأيت مؤخرا، كنت أتصفح الفيس بوك فإذا بإحدى الصفحات تدعو لاقتناء سماعات الثانوية العامة، كنت أعتقد أن هذا اللقب مجرد مسمى كما نطلق على بلح رمضان أبو تريكة أو المدفعجى أو الهداف وما إلى ذلك من ألقاب ترفيهية لا ترتبط بمعنى عميق لما نطلقه عليه، ولكن ما تقدم كان يتعلق بالفعل بسماعات للغش في امتحانات الثاوية العامة سماعات ترتبط بجروبات على الواتس آب ترتبط بها عن طريق رسالة وتدفع مبلغا ماليا وتعمل على تلك السماعات، السحرية التي تستطيع أن تغافل بها أي مراقب، والأغرب أنى رأيت أعدادا غفيرة انضمت إلى تلك الصفحات والجروبات، لنا أن نتصور جيلا يصعد درجات السلم بهذه الطريقة، أصبح الغش سلعة مقبولة نجاهر بها، لنضمن بها للأسف فساد المستقبل. (الغش يفسد المستقبل).

أتذكر بمناسبة هذا الحديث كيف خرجت الجميلة نفرتيتي من مصر كان ذلك بالغش عندما أقنع الأثري الألماني لودفيج بوكهارت المصريين عام 1912 بأن هذا التمثال مصنوع من مادة الجبس وليس الحجر الجيري وليس له قيمة، تلك التحفة الجميلة حاولنا دون مرة أن نستعيدها على سند من القول إنها خرجت بالغش من الأراضي المصرية ولكن هيهات أن تعود أتدرون ماذا قال عنها هتلر عندما طالبه السنهوري عندما كان وزير للمعارف باستعادة تلك الجميلة؟، قال إننا على استعداد على شن حرب ضروس للإبقاء على هذه الجميلة. (الغش يُضيع الجمال).

الغش يفسد التصرفات، قاعة قانونية مسلما بها ومن بديهيات الثقافة القانونية، يعرفها المواطن العادي بجملة واحدة “ما بني على باطل فهو باطل” أتذكر حادثة قانونية بمناسبة هذا الأمر

ففي أحد الأيام اشترى رجل علبة من سجائر غالية القيمة، قام بالتأمين عليها ضد الحريق،

وبعد أيام من دفعه أول قسط طالب شركة التأمين بكامل قيمة التأمين لان الخطر الذي قام بالتأمين من أجله قد تحقق؛ لقد تعرضت السجائر للحريق بالفعل، لقد تناولها ودخنها واحدة واحدة فتحقق الخطر بالفعل، كانت المستندات أمام القاضي والعقد يظهر فيه البند في منتهى الوضوح فقضى له بقيمة التأمين، ولكن استأنفت الشركة هذا الحكم واستندت بكل ذكاء أن الحكم قد أخطأ لأنه تناسى أمر هام هو أن الرجل هو من أشعل الحريق في السجائر واحدة تلو الأخرى. (الغش قد يفسد العدل)

أن الغش قادر على إفساد كل شيء، وأسوأها العلاقات الإنسانية قد نتجمل في علاقتنا مع من يتمناه القلب من رفيقا قد يبدو لنا أنه المناسب أو الفرصة النادرة لنواجه بمشكلة تضحى كارثة أن بلغ هذا التجمل مرحلة الغش ولنا فيما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي موعظة، فمن سجدة شكر للارتباط بالمطرب حسن شاكوش إلى طرقات النيابات والمحاكم في أقل من شهرين، أتذكر بمناسبة هذا حادث الزباء بنت عمر بن الأضرب ،

حيث كانت العراق منقسمة ‏إلى مملكتين هما مملكة الحيرة ومملكة تدمر، وذلك في أواخر القرن الثالث الميلادي. وتولت الزباء حكم مملكة تدمر ‏بعد أن قتل والدها“ عمرو بن الأظرب“ على يد الملك“ جذيمة الأبرش ”حاكم مملكة الحيرة في ذلك الوقت لوجود ‏خلافات كثيرة بين المملكتين، ‏وبعد أن استلمت الحكم واستقرت أمورها أرسلت إلى جزيمة رسالة تطلب منه المجيء لتدمر للزواج منها لكي تتوحد ‏المملكتان فقام جذيمة عندما وصلته رسالتها بجمع كل مستشاريه في القصر ‏وأطلعهم على الأمر فأجمعوا على الموافقة، ماعدا ‏مستشاره “قصير ابن سعد” الذي شعر بوجود مؤامرة في الرسالة، فأشار على الملك أن يطلب إليها أن تأتي هي، ولكن ‏لم يسمع له جزيمة وأرسل في استحضار ابن أخته“ عمرو بن عدي ”ليوكله مهام الحكم حتى يعود. وانطلق نحو ‏مملكة تدمر وعند دخوله غرفة الملكة وجدها بكامل ملابسها الحربية وقالت جئت لتطلب موتك لا عرسك وقتلته في ‏الحال. فأراد عمرو أن ينتقم لموت جذيمة فاتفق مع قصير على أن يذهب للزباء بزعم وادعاء غير صحيح أنه قد عذب من عمرو لأنه من أشار على جذيمة بالزواج منها. فانطلت عليها الحيلة واكتسب ثقتها حتى أنه كان يذهب للتجارة ويأتي محمل بالهدايا لها. حتى جاء يوما محملا بأجولة ففتحتها فكان يخرج من كل جوال جندي من جنود عمرو وعندما همت بالهرب لاقت عمرو عند باب القصر فقالت قولتها المشهورة وتجرعت السم الموجود بخاتمها ولكن عاجلها عمرو بسيفه أيضا.

إن الغش يفسد الماضي والحاضر والمستقبل يفسد العدل والجمال، يفسد كل شيء، الغش يضيع معه أي أمل في العدالة، مع الغش لا عودة، ولكن ماذا عن هذا الجيل الذي ضاع بالغش؟، لقد أصبح الغش عرف نلوذ إليه في كل لحظة، ألا يخدع هذا الجيل نفسه بالاستماع إلى مجرد صرخات مدوية لا علاقة لها بالشجن والفن.

قد تعود نفرتيتي في يوم ولكن لن يعود هذا الجيل ولن يستمتع بأي جمال فهو لا يدرك معناه ولن نتعجب أن عادت نفرتيتي فيلبسها سماعات الثانوية العامة لتكتسب خبرة الحاضر التعس، وتستمع إلى صوت شاكوش.

المستشار محمد عبد العال نائب رئيس هيئة قضايا الدولة

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى