مسافة قصيرة كانت تفصلني عن عبور الجسر القديم الواقع بالمدخل الشرقي للمدينة، كنت أحسب الوقت المتبقي لغروب الشمس، فالمكان كان غير آمن. طبيعة خلابة كانت تحيط بالطريق المنعرج الذي يتوسطه الجسر. وعلى الجانب الأيمن كانت تمتد مساحة خضراء شاسعة الأطراف مخصصة للقنص. صفرة الشفق تدلت على الأفق فأخذت أسرع الخطى حتى إذا بقيت خطوة دوني والجسر أفزعتني طلقة قريبة حتى لأني قفزت من مكاني، ولما استدرت وقع بصري الذي خالطته ضبابية غير عادية على جسم غريب لم أسمع له صوت، كان ملقى على الأرض متكوما على نفسه كرزمة منسية جانب الطريق. رغم هلعي العظيم دفعني فضولي للتقرب منه، عله إنسان يحتاج لمساعدة، وبحذر وترقب شديدين تقدمت خطوات قصيرة فتراءى لي الجسم ينزف مادة تشبه اللافا وهو يتضاءل حتى صار بحجم أرنب. تسمرت مكاني لما سمعت صوت طقطقة بندقية على مقربة مني فبقيت لفترة دون حراك ودون عزيمة وكأن الزمن قد توقف، حاولت أن أستدير لاكتشاف ما يجري خلفي، كان نور متعدد الألوان يشع بقوة أرغمني على أن أغمض عيني واضعا بشكل آلي كلتا يدي مفتوحتين على وجهي. هويت خائر القوة عندما سمعت طلقة ثانية. جاثيا على ركبتي وجبهتي على الثرى بقيت ممسكا بوجهي. انقطع تفكيري وشلت حواسي. صرت كتلة ضئيلة أو هكذا كان إحساسي. صامتا حاولت رفع رأسي وبحركة بطيئة ومتمركزة على باقي جسمي وجدت نفسي أرتعد تحت ظل شكل ضخم مجهول. كنت أرغب في الصراخ أو البكاء أو أي شيء يشجعني على التشبث بالحياة ولم أستطع إلا أني رمقت الأفق قد سقاه الشفق حمرة. بنظرات ملؤها الذهول تمعنت في الجسم الواقع أمامي والذي تحول إلى رغوة قانية والنور الذي أشع بقوة بألوان الطيف صار سورا يطوقني من كل جهة. غامرت بالنهوض ودفعني تهوري إلى التقدم نحو السور بخطى متثاقلة، تساءلت مضطربا: أين الجسر؟ أين الطبيعة التي كانت تحيط به؟ أين أنا؟
ما كان خلف السور أمواج من حمم بعضها يموج في بعض. ساقاي فشلتا على حملي وقد التفتا ببعضهما، فوقعت من جديد والجسم الذي سقط أمامي بعد الطلقة الأولى والذي تحول إلى رغوة قانية شرع في الزحف نحوي وكأنه إخطبوط هيتشكوكي اندفعت متلوية أطرافه لتلتف حولي. أكان الصراخ سيخرجني من مأزقي؟ أكانت المقاومة ستمنحني فرصة للنجاة؟ كنت واثقا من أني قد انتهيت، ولكن الأمل الذي جعلني أنجح سابقا في تحديات كبيرة رأيته يتجسد بندقية في يميني، وبشكل اعتباطي ضغطت على المكبس فدوت طلقة جعلت الإخطبوط يتراجع. لكني عند الطلقة ما قبل الأخيرة والتي لم تكن من جهتي تحطم لها السور الذي تحول إلى سيول أخمدت الحمم ثم إلى رمال تملأ المدى، فيما الجسم الإخطبوط استعاد حالته ما بعد الأولى، فصار أرنبا بريا أسمر. اعتلتني فرحة ودب في جسمي حماس لمعرفة نهاية ما يجري غير أن الطلقة الأخيرة التي هزت المكان مجددا من حيث لا أدري أعادت على مرآى ومسمع مني المشهد الأول. أثارني الموقف فاضطربت أكثر من الأول وفكرت في أن أهرب بأقصى سرعة لكني اكتشفت أنني مقيد. من يا ترى على غفلة مني أحكم وثاقي؟ الحفرة التي سقطت فيها وأنا أحاول الفرار أخذت تتسع وتتعمق فغرقت في الظلام وانقطعت أنفاسي وتعطلت جميع حواسي إلا سمعي فقد تحقق من صوت التقاء فكين لتكسير عظام ربما كانت عظامي. لحسن حظي أني كنت أحمل معي وصية كتبتها في وقت سابق ومما كتبت فيها: ها أنتم تتحسسون برفق حفرتي التي صادفتم، أكرموا رفاتي بالدعاء.
فاس، في: 12/ 07/ 2022
عبد الغفور مغوار – شاعر وقاص من المغرب