عبد الرحمن عسل يكتب وظيفة خالية

كان في قمة يأسه وبؤسه حينما استوقفه وأدهشه الإعلان الذي انتشر كالنار في الهشيم في كل مكان، نظراً لغرابته الشديدة وصورته الفجة.
لم يتخيل أن وظيفته في الحياة أن يكون مجنوناً. كان الإعلان واضحاً بصورة لا تقبل الشك ولا التأويل.
وظيفة خالية مدي الحياة، لمجنون ، لمن هم فوق العشرين، من الجنسين، يتمتع بحسن السير والسلوك، شهادة من طبيب نفسي، لا يُشترط الحصول علي شهادة دراسية معينة، وسيكون الراتب والحوافز الأخرى خيالية. مدي الحياة، خيالية!
نعم.
هكذا قرأ بعد أن أعاد القراءة مرات عديدة .
يافرج الله
وتساءل هل وظائف البلد خلت من المجانين وأصبح المجتمع بغيابهم يعيش علي هامش الحياة، في بركة ضحلة ومملة من العقلانية. تخيل جسم لا يصاب بالألم أومعدة لا تصاب بالحموضة أوإنسان لا يشعر بالقلق أو الحزن. أم أن التوازن في المجتمع علي المحك، فلن يكون هناك أكباش فداء للتضحية بهم أو السخرية منهم .
أياً كان، فالأمرله تبريره ووجاهته، فهو بالنسبة لي علي أي حال، خدمة للمجتمع، وأكل عيش، وفرصة لتنقشع ظلمة من ظلمات حياتي التي بعضها فوق بعض من العزلة في القبو والهم والألم واليأس والبؤس وخلافه.
كان هذا اخر عهد له بالمنطق.
ثم عزم الامر، فالوظيفة مضمونة والشرط الوحيد أن يكون صادقا في جنونه ويتبع قانون الجنون ” كل شئ مخالف لما هو عليه الناس”.
شاهد كل ما هو متاح من الأفلام، وقرأ الكتب التي تتكلم عن الجنون.
ثم لبس لباس الجنون، الحذاء المخالف، نصف شارب، ونصف حاجب، وحلق شعره علي الجانب المعاكس لشاربه، وملابس ممزقة تظهر اكثر مما تخفي وخلافه.
خرج من قبوه -الذي لم يفارقه منذ انقطعت به السبل وضاق به الحال بعد ما أنفق معظم مكافأة المعاش المبكر من شركته المخصخصة-ليقيس إندهاش الناس علي مقياس ريختر للجنون.
ومع أول خطوة في الزقاق الذي يقطن فيه أصابته صاعقة كاد ان يسقط بسببها علي الارض ولا يفيق، ياللهول !!!
إستأجرالجنون كل الاماكن-الشوارع والمواصلات الخاصة والعامة- بعدما امتلك عقول الناس. !!!
تساءل عن هؤلاء الذين سمحوا للجنون أن يستأجر عقولهم، وهل سيكون كالإيجار القديم فيرث عقول ابنائهم، فالجنون لا يعرف الهزل.
وباء الجنون!!!!
عاد الي قبوه بين البؤس واليأس ينتظر موعد الطبيب النفسي.
أتي الموعد فخرج من قبوه كما خرج المرة السابقة
بدأت نوبات الاندهاش تتخطفه حتي باب العيادة، ثم دخلها فأدهشه مساحتها وفخامة أثاثها وحسن تنظيمها، وما أدهشه اكثر عدد المترددين ومن بينهم بعض الجيران الذين كان يلتقي بهم مصادفة وأندهش اكثرواكثر عندما هللوا لرؤيته وكانوا لا يعيرونه أدني اهتمام، ثم تساءل باندهاش هل جمعهم الجنون أخيرا. ثم عظم إندهاشه أكثر للعدد الكبير من شاشات التلفزيون وقنواتها التي لا تحصي ولا تعد والتي إلتف حولها المترددون في سكون حسب أذواقهم.
أما الإندهاش الذي لا يطاق هو، لقد تحولت القنوات الي قنوات للخبراء الاسترتجيين من كل حدب وصوب.
إقترب من قناة للطبخ -تذكر انه لم يتذوق الطعام منذ الأمس وفضل أن يحتفظ بالنقود لقيمة الكشف المرتفعة- أعجبته الخبيرة الإستراتيجية في الطبخ وهي تتحدث عن المقادير المناسبة لكل وصفة لمذاقات الجنون المختلفة، الحزن والقلق والهذيان والهوس وخلافه وحذرت من أن عدم مراعاة المقادير قد يحدث تلبك او إسهال أو إمساك فكري لمسارات الجنون المطلوبة.
لمح من بعيد علي شاشة أخري إعلانات عن مساحيق الجنون المختلفة والتي تنتهي باستضافة خبير استرتيجي لنحت وتلميع البشرة حتي الي تغيير كامل للملامح.
إستدار ليجد علي قناة اخري حوارية، تستضيف الخبير الاستراتيجي السياسي المعروف، وهويدلي بدلوه والذي قال كلمة حفرت في وجدانه، أنه لا جنون في السياسة ولا سياسة في الجنون وأن الجنون يجب ان ينزه عن السياسة لانه اسمي وفوق كل سياسة. ثم تفاجأ بالخبير الاستراتيجي علي الجانب الأخر من الطاولة بينهما يضرب الطاولة ويصرخ بشدة، أنه معترض علي ذلك، فالجنون كل شئ ولا حياة بدونه ثم انتفض واقفا وهمٌ خارجا معلنا أنه لن يشارك في هذه المهزلة.
كان الوقت يمر سريعا ولم يسعفه الوقت من متابعة ألعاب الجنون للاطفال علي قناة الاطفال لاقل من ثلاث سنوات ثم ما قبل الدخول للمدرسة، واثناء المراحل الدراسية حتي الثانوية العامة.
كان عليه الدور لمقابلة الطبيب وقد بلغ العطش مداه، فاستأذن أحد العمال في العيادة بكوب من الماء ونبهه أن يكون ماء عاديا وليس من الماء المقروء عليه لجلب الجنون، لأن ثمنه لا يقدر عليه، فابتسما إبتسامة داخل كل منهما، لها ما لها.
ما كان يقلقه قبل الدخول إلي حضرة الدكتور النفسي المحترم أن يفقد اندهاشه بعدما أنهكه كثرة الإندهاش وخاف ان يصاب بمتلازمة لزمة الإندهاش-انجليزي- أو متلازمة عدم الإندهاش انجليزي.
أمل أن يكون الجواب عند الدكتور
دلف الي حجرة (حضرة) الطبيب، فهاله ما لم يره أو يسمع عنه من قبل ومالا يمكن وصفة بعبارات اللغة العاجزة، من الوجاهة والاناقة، فحلت به دوخة الإندهاش وشعر أنه يغوص في دوامة لا عمق لها، ثم شعر أنه يطفو بصوت الدكتور الرخيم ويد أحد المساعدات وهي تسلم له الأوراق المطلوبة للجنة التقييم.
خرج وأسف كثيرا لأن الطبيب لم يترك له الفرصة ليعبر عن جنونه بالصورة التي تدرب عليها أياما وليالي ولكنه قنع بما حصل عليه.
تعاقبت الأيام وحان الموعد الذي أنفق من اجله كل شئ، نقوده وذاته.
ذهب إلي اللجنة -وسط الحشود الغفيرة- بحلة الجنون المعتادة.
حان دوره ودلف الي اللجنة، وبعد نظرة خاطفة من اللجنة، أخذوا كل أوراقه، لأن الوقت لا يتسع لكلمة و لا لاكثر من نظرة، فالحشود هائلة والوقت كالسيف لايرحم، وهم علي عجلة.
كان علي موعد مع النتيجة بعد أسبوع .
لم يخلع حلة الجنون كما فعل الباقون ايضا- في انتظار المهرجان الكبير للفوز.
حطمت النتيجة أجنحة الامل لديه، لم يندهش عندما قرأ اسماء الناجحين وعلم انه لا بد من واسطة من محترم مشهود له بالجنون.
الغريب في الأمر أن احداً لم يسأل عن طبيعة الوظيفة.
كان الجنون رحيما به وأراد له أن يحلق من جديد علي اجنحته: جناحي البؤس واليأس، ليكون الطائر الاستراتيجي الذي يحلق في كل القنوات تحت شعار- معا لليأس والبؤس-او البؤس واليأس-، معا للجنون حتي النهاية.
ضحك باعلي صوته ضحكة اخرجت كل ما في جوفه من عقل، ثم طار بأجنحته حيث كان علي موعد مع قناة فضائية.