زكريا صبح يكتب جلسة ملكية
الولد الذي وقف سعيدًا يتخير زاوية لالتقاط الصورة لم يكن يعرف الفاجعة التي تنتظرنا، والمرأة التي وضعت رأسها في صدري وبكت بينما كنت أحاول الاختباء في أنفاسها المرتعشة، كانت متواطئة دون أن تدري؛ ربما لأنها ما عادت تذكر الماضي البعيد. وحدي أنا الذي لم أنسَ لحظة وقفت سعيدًا، وقد جعلت الكاميرا السوداء، التي اشتراها لي أبي بعد بكاء مرير، أمام عينَي، وقفت متخيرًا الزاوية التي ألتقط منها الصورة. كنت أداعبهم وأنا بعد قصير، ونحيف، بينما كانوا يجلسون على حشائش حديقة الحيوان، السياج الحديدي بعيدانه الخضراء يحول بيننا وبين حيوانات أليفة تمرح بحرية، والأشجار السامقة هناك تتابع عن كثب، وأبي إلى جوار أمي في جلسة ملكية، وإخوتي الصغار مثل عصافير لم ينبت لها ريش لا تقوى على الطيران وتخاف مغادرة مكانها. كنت أقف سعيدًا أداعبهم بينما أبي يبتسم ابتسامة عذبة، وأمي تبتسم ابتسامة خجلة، أبي يتكئ على مرفقه الأيسر مستندًا برأسه على كتفها اليمنى، وأمي تضع يديها على أظهر إخوتي محتضنة إياهم. التقطت الصورة التي ستظل مُعلَّقة إلى اليوم في مسمار على حائط سماوي اللون في منزلنا القديم، كلما ذهبت تذكرت الذي كان. الآن يقف الولد الصغير الذي جاءني على الكبر ممسكًا هاتفًا ذكيًّا يسجل اللحظات ملونة مسموعة. هي التي أشارت إليه أن يفعل ذلك عندما أكون في صدرها، لو انتبهت لذلك لزجرته، ونهيته، أنا فقط انشغلت بما كانت تُسِر به أمي إليَّ، قالت: اقترِب. فاقتربت، جعلتني في صدرها وبكت فبكيت، أسرَّت إليَّ بقولها: مع السلامة. فارتبكت، لست أدري لماذا تذكرت الذي كان، فبعد عودتنا إلى البيت تمدد أبي في فراشه ونادى أمي، فاقتربنا جميعًا وجعلنا في صدره، وقال: مع السلامة. صرخة أمي التي دوت في فضاء بيتنا حملتها الملائكة وطافت بها أرجاء الأرض، اجتمع الناس الذين لم أرَهم قبل ذلك والذين أعرفهم، وأصبح النحيب إيقاعًا حزينًا يؤلم الروح، بعد أن علَّقنا الصورة التي التقطتها لهم في الحديقة جعلت أمي تنظر إليها وتبكي، وتقول فيما تقول: كان لازم تصورنا؟! أهي طلعت آخر صورة لأبوك! وأنا بعد طفل لا أعي غير الحزن الذي نشب أظفاره في روحي، لا أفقه من كلام أمي غير أنني كنت سبب موته أو على الأقل كانت الصورة التي التقطتها لهم هي سبب موته، ولم يزَل ذلك عالقًا برأسي، ولم أزَل منتبهًا لئلا ألتقط صورة لأمي، أعرف أنها ستكون بعدها بجوار أبي، عشت طويلًا لا أحب الصور، ولا الكاميرات وكلما وجدت صورتي في مكان ما تأملتها بحزن شفيف، وقلت في نفسي لعلها الأخيرة؛ ربما لهذا أهرب من التصوير أينما ذهبت؟! لكنها تواطأت مع صغيري الذي كان مبتسمًا ابتسامتي التي كانت لحظة التقاط الصورة القديمة، كان صغيري منشغلًا بزاوية تليق أن تكون لقطة أخيرة في حياتها، لكنه لم يسمعها وهي تقول لي: مع السلامة. ولم يختبئ مثلي في أنفاسها، ولم يرتج قلبه في صدره مثلما حدث معي. الآن وأنا أتأمل الصورة أراها مغمضة العينين، ساكنة الأنفاس، مستندة برأسها على كتفي، ناظرًا أنا إلى صغيري في ذهول، كنت أشير إليه بما يعني: لا تفعل. بينما كان يظن أننا نلاعبه. كلما نظرت إلى الصورة ونظرت إلى ولدي قلت في نفسي ما قالته لي أمي منذ أربعين عامًا: كان لازم تصورنا؟! أهي طلعت آخر صورة!