أهلاً …
حين أبصرته من بعيد، كان منكمشاً في مقعده وفي الثياب، أقبلت عليه متهللاً فرحاً، فقد مرَّت سنواتٌ ولم أراه، وكان لا يمرُّ يومٌ دون أن أراه، وأجلس إليه وأتعامل معه، كان مديري في العمل، وكنت خير مساعد له، وربما كنَّا نلتقي بعد العمل هنا أو هناك، ولكنه اعتزل الناس بعد خروجه على المعاش، كأنما كان ينتظر ذلك أو يرغب فيه، بدا لي أن الوهن قد تشبث به، ونالات براثن الشيخوخة منه، ولكن بريقاً من سطوته لا زالت آثاره باقية في هيئته، وبقايا أناقة راحلة تجسدت في ربطة عنقه وسترته، اتسعت بسمتي حين دنوت منه، بقدر محبتي له، واشتياقي إليه، ألقيت عليه التحية بحرارة من كان يفتقد جزءاً من ماضيه ويتوق إلى العودة إليه أو لقائه، توقعت أن ينهض من مجلسه، يرحب بي بحرارة كما أقبلت عليه بها، انتظرت أن يعانقني، أعانقه، كنت سعيداً حقَّاً برؤيته، وكنت حقَّاً أحبه، كم كان يصول ويجول في جنبات المكان كالطاووس، كالفراشة، كالنحلة، يعنِّف هذا ويضاحك ذاك، ويبتسم لهذه ويلفت نظر تلك، يتابع كل صغيرة وكبيرة، يتألق هنا ويلمع هناك، وبودٍ بالغٍ كان يعامل الجميع. أقتربت منه أكثر وأكثر، وكانت ابتسامتي تزداد اتساعاً وحرارة، مددت يدي مسلِّماً عليه، لكنه لم ينهض من مجلسه، انحنيت إليه، كان وجهه خشبياً جافاً إلَّا من ابتسامة باهتة خجولة، وعينين زائغتين مرتبكتين، وبفم مفتوح ولسان مترددٍ، قال: أهلاً .. ولم يزد.
كنت قد ناديته باسمه، وسألت عن حاله، وصحته، وأولاده، كان ينظر إلي ولا زالت عيناه زائغتين مرتبكتين، كأنما تبحثان عن مخرج ما من مأزق ما، بدا لي أنه لا يتذكرني تماماً .. بل لا يعرفني .. بينما طفت على وجهه الابتسامة الباهتة الخجولة مرة أخرى، لكنها كانت تستحث ذاكرةً تستجدي أنفاسها دون جدوى .. ولم يزد على قوله: أهلاً.