هناك أصناف شتى من الكتاب يختلفون في طريقة اختيارهم لموضوعات كتابتهم، ولست أشك أن كل كاتب إنما يكتب بهدف ما، ولست أشك أيضًا أن كلا منهم إنما يحمل قضية ينصب نفسه مُدافعًا عنها وعن أصحابها، وبكل تأكيد أيضا تختلف القضايا باختلاف المجتمعات، فبعضها يئن من الفقر، وبعضها يتوق للحرية، وأخرى تعشق الحياة وتفر من الموت، ورابعة تعاني من الاضطهاد السياسي…، ولذا يشمر الكاتب عن ساعد الإبداع مُحاولًا رصد وتصوير معاناة بني وطنه صارخًا في الكون كله، أن ها هنا وطنًا يعاني من مشكلة ما فهلموا إلينا بني البشر لإنقاذنا أو مساعدتنا، فمَا بالنا بأوطاننا العربية من مغربها إلى مشرقها ومن شمالها إلى جنوبها تئن من المشكلات مجتمعة، وتصرخ من الآلام كلها، وتستصرخ الكون كله أن ها هنا وطنًا عربيًا يُصارع الأهوال فهلم إلينا.
عندئذ يكون الكاتب الجاد الذي ينام ويصحو مُنشغلًا بما تموج به بلاده ويبيت مُتفكرًا في مشكلاته، ولا تذوق عينيه حلو النوم ولا تبتسم له شفتان، ولا تهيم روحه في سماء السعادة، أقول عندئذ يكون الكاتب الجاد الذي يعيش في المجتمعات العربية أكثر شقاءً وأشد حزنًا وأعمق ألمًا من غيره من زملاء القلم في العالم أجمع.
ربما كان هذا التمهيد ضروريًا قبل الولوج إلى العالم القصصي للكاتبة/ فكرية شحرة.
لأن هذا التمهيد هو النتيجة عينها التي سنصل إليها بعد القراءة،
لست أشك لحظة أنك ستغمض عينيك بعد أن تتم قراءة هذا العمل لتسأل نفسك: كيف وصلنا إلى هذه الحافة المطلة على تلك الهاوية السحيقة؟
وكيف احتملت الكاتبة كل هذه الهموم مجتمعة كي تكتبها مستصرخة الضمائر -ضمائر الحُكام والساسة وكل من له قدرة على استنقاذ هذه الأوطان من براثن الفقر والجهل والتسلط والغربة والاضطهاد والرغبة في الرحيل ومغادرة الأوطان- تستصرخ كل من يستطيع نصرة وطنها وبني وطنها من هذا الضياع.
عبء ثقيل على كاهل الكاتب الجاد الذي يؤمن بقدسية الفن المكتوب ويؤمن برسالته، فتراه دائمًا يلهث باحثًا ومُنقبًا وراصدًا ومعبرًا عن القضايا التي تؤرق الوطن.
والكاتبة/ فكرية شحرة من هذه الكتيبة المحاربة بسلاح الإبداع في وجه كل إخفاقات الأوطان، ولأنها لا تملك إلا قلمًا راحت تستخدمه كمنصة لإطلاق رصاصات الإصلاح، والنهوض بالأوطان والتنديد بكل سلبيات تؤدي إلى ضياع إنسانية الإنسان في هذه الأوطان، تستخدم القلم كمنصة لإطلاق هذه الرصاصات إلى قلب الفساد والاضطهاد والتسلط والاستحواذ.
الملمح الأول
—
وأول ما يلفت نظر القارئ لهذه المجموعة بعد الانتهاء من قراءتها إنها نأت بنفسها -أي الكاتبة- عن الكتابة النسوية؛ فلم تحصر قلمها في الدفاع عن قضايا المرأة المعروفة، بل شرعت قلمها دفاعًا عن الإنسان بوصفه إنسانًا بغض النظر عن نوعه، وإمعانًا في ذلك لم نجد نصًا واحدًا بطله امرأة، بل جل النصوص فيمَا عدا نص واحد (سبابتها) كانت حديثًا مُحبًا ومُتعاطفًا مع مواقف يغلب عليها قولنا (مواقف لا يمر بها سوى الرجال).
بل الأكثر من ذلك أنك تشعر في أثناء القراءة بصوت الراوي الرجل، كأن الكاتبة أرادت أن تقول أنا امرأة لا أملك إلا إبداعًا، سأقف شامخة مدافعة عن كل رجال وطننا العربي، فراحت تكتب تحت ضغط مشاعر الأنثى التي ترى الأخطار مُحدقة برجال وطنها.
الملمح الثاني:
اتكاء الكاتبة على فكرة الثنائية العامة والخاصة في هذه المجموعة.
أما بالنسبة للثنائية العامة: فأقصد بها أن نصوص هذه المجموعة تنقسم من حيث طبيعة القضايا إلى قسمين.
الأول: هو القسم الخاص بالقضايا الكبرى. مثل: قضية الحرية والهجرة والغنى والفقر، وما إلى ذلك، وهو يمثل الجزء الأكبر من نصوص المجموعة.
والقسم الثاني: كان خاصًا بنصوص ليست موضوعها القضايا الكبرى، بل اهتمت بحالات إنسانية، ولقطات إنسانية رهيفة ومن تلك النصوص نص (سبابتها) ونص (غيبوبة) ونص (ألوان الأيام والشبح).
هذا عن الثنائية العامة أما عن الثنائية الخاصة، فقد تمثلت في اتكاء الكاتبة على فكرة التضاد والمقابلة بين الموت والحياة، الحرية والقيد، الغربة والبقاء، السلم والحرب، الفقر والغنى، الضعف والقوة، الحلم والواقع السلطة والشعب، الفرد والمجتمع.
والحقيقة أن الكاتبة أجادت اللعب على هذه التيمة التي تضع القارئ دائمًا في صراع نفسي شديد، تعاطفًا مع أبطال القصة التي يقرأها، وإذا أردنا أن ندلل على ذلك فلن نجد أفضل من نص (نافذة وأربعون جدار)، وربما يصدمنا العنوان بالثنائية التي أحدثكم عنها، فها هي الكاتبة تحدثنا عن الجدار والنافذة، فإذا كان الجدار يستدعي معنى الظلمة والقيد وانعدام الهواء، والاختناق والقيد، فإن النافذة تستدعي معان الانطلاق والحرية، والبراح والهواء والضياء.
فإذا ما انتقلنا إلى متن النص، وجدنا الكاتبة تحكي لنا محاولة سجين أو معتقل للإفلات والهرب من سجنه، فنحن هنا كما ترون أمام سجن وسجان، في مقابل الحرية.
وأنا أمام رجل معتقل أمام سجان، ونحن أمام قيد مقابل الحرية.
سجن بجدران عالية. ونحن أمام وطن متسع في مقابل
شعور دائم بالاختناق سيحتويك خلال القراءة، وشعور دائم أيضًا بالرغبة في الحرية والانطلاق مع كل حفنة رمال يستخرجها المعتقل، بحثًا عن حريته وربما استدعت القصة أيضًا ثنائية أخرى، فهي بلا شك ستجعل القارئ أمام ثنائية الحاكم والمحكوم، السلطة والشعب، القانون والفوضى.
وكأنها أرادات أن تقول إن أي تغول من إحدى هذه الثنائيات على الأخرى سيصيب المجتمع بهزة عنيفة، هذه الهزة هي المشكلة والقضية التي دفعت الكاتبة لتصوير هذه اللحظة.
وفي نهاية القصة ربما استدعت ثنائية أخرى وهي المقاومة والاستسلام، فنحن أمام بطل تملكته روح المقاومة، التي ينبغي أن يتحلى بها كل مظلوم ومضطهد في مواجهة كل مُستبد وُمتعنت، لكنه في النهاية يستسلم لقدره بعد أن أصابه الإحباط وربما بعد أن سرت فيه روح الهزيمة إذ كسروا فيه روح النصر.
الملمح الثالث:
القضايا الكبرى التي ناقشتها الكاتبة عبر نصوص المجموعة، حيث إنها ورغم إيمانها الشديد باللحظات الاستثنائية التي تجيد التقاطها وتجيد كذلك صنع صورة فنية منها، إلا أنها معنية أكثر بالهم العام، ربما لشعورها بمسؤولية الكاتب في معالجة أمور وطنه، وربما لأنها تبحث عن العام أكثر من بحثها عن الخاص، إذ الأخطار المحدقة بالأوطان لا تستثني أحدا ولذا يكون واجب الوقت على كل كاتب، الحديث عن قضايا الوطن الكبرى ومن أمثلة هذه القضايا: قضية الحرية التي ينادي بها معظم الشعوب العربية، ولا تجد آذانا صاغية لها، وقد عالجتها في نصها البديع نافذة وأربعون جدار.
وعالجت قضية الهجرة القسرية التي يضطر إليها البشر في بعض الدول العربية، بحثًا عن الحرية تارة، وبحثًا عن الرزق تارة، وهربًا من الحروب وويلاتها تارة ثالثة، وقد عالجت هذه القضية في نصها البديع المهاجر. وأنا بعد انتهائي من قراءة النص، كنت كغريق ينادي من حوله لإنقاذه تمامًا؛ مثل وديع، البطل الشاب الصغير الذي غرق في مراكب الوهم المطاطية التي تحمل البشر فيها، كأنهم مواش أو بهائم ولا تلقي بالًا بعد ذلك بمن يغرق ومن يطفو،
ملحمة فنية كتبتها الكاتبة، بقلب ينبض بحب وطننا العربي، وحب شبابه الذين يغامرون بأعمارهم بحثًا عن فرصة حياة.
ومن القضايا المهمة التي عالجتها الكاتبة في المجموعة، قضية الاستئثار بالسلطة والاستحواذ عليها، حتى لو لم يكن يستحقها المستحوذون عليها، وقد صورت هذه القضية في قصتها البديعة (ثورة الجن) حيث ينتصر ابن الفقراء في مصارعته، على ابن الأغنياء الذين يتعاملون من الوطن كغنيمة لهم. انظر إلى هذه الفقرة الدالة على هذه الكارثة، يقول المهزوم في حلبة المصارعة للفائز الفقير “مهما حاولت التفوق عليَّ، سأظل في مجلس الرفعة، وأنت بين جموع المحكومين”.
وكأنها أصبحت قضية مُنتهية، لخصتها الكاتبة بتكثيف لُغوي بديع في إشارة إلى انسداد الأفق.
وربما كانت من القضايا المهمة أيضًا التي عالجتها الكاتبة، قضية الصراع المكتوم بين الأغنياء والفقراء، وبين جشع التجار الذين يريدون الاستحواذ على كل شيء ثم يتركون فتاته للباقين، وكيف أن هذا الصراع المكتوم ينتهي بثأر شديد الانتقام من هؤلاء الجشعين، كأنها تدق ناقوس الخطر وتوقظ الحكومات النائمة، كي تنقذ ما يمكن إنقاذه وقد عالجت هذه القضية في قصتها المخلص). )
ولأن المقام قد يطول بنا في مناقشة العمل، إذ الحقيقة أن كل نص يحتاج إلى دراسة قائمة بذاتها، ولأننا لا نستطيع فعل ذلك في مقالة واحدة، ربما كان مُناسبًا أن نذكر أن الكاتبة وقد تمثلت دورها بمهارة كبيرة، وتمكنت من أدواتها بشكل لافت، خاصة في قدرتها على الكتابة بلغة فصيحة في غير تعثر، ربما كان مُناسبًا أن نقول إننا أمام نصوص رائعة، ليس لأنها تناقش قضايا كبرى، ولكنها اتسمت بفنية عالية من حيث تماسك البناء الفني للقصص، ومن حيث اللغة العذبة، ووضوح الرؤية والبعد عن الثرثرة، كما أنها راعت معايير مهمة في بناء القصة القصيرة، خاصة في تقنية المفارقة والدهشة، التي تحتفظ لقارئها بها حتى آخر سطر في قصتها، وليس أدل على ذلك من قصتها البديعة (سبابتها) التي فاجأتنا بنهاية لم نكن نتوقعها، وأنا أحتفظ بها لكم، حتى تستمتعوا بالنص.
في النهاية لا يسعني إلا شكر الكاتبة على نصها البديع، وشكرها على معالجة هموم وطنها وأبنائه، وأهمس في أذنها بضرورة ضبط بعض الأخطاء اللغوية غير الكثيرة، والاهتمام بإيجاد مفردات مرادفة لمفردات كثر استخدامها في النص الواحد عدة مرات.
على سبيل المثال لا الحصر:- تكررت كلمة الحرية والحلم ما يقرب من اثنتين وعشرين مرة في نص نافذة وأربعون جدار.
– تكررت كلمة السجن ومشتقاتها أكثر من سبع وأربعين مرة في النص ذاته.
– تكررت كلمة الموت في نفس غيبوبة أكثر من ست عشرة مرة.