د. حسين عبد البصير يكتب خرافات حول الأهرامات ومجانين الأهرامات!
هناك خرافات كثيرة حول الأهرامات عبر كل العصور، ولا تتوقف ليل نهار، وكان آخرها أن الأهرامات بناها العراقيون القدماء. وهذا الكلام وغيره ليس صحيحًا على الإطلاق. وليس هناك أية صلة بين أهرامات مصر وأهرامات المكسيك لا في التاريخ والزمن والوظيفة، أو أن الأهرامات بنتها كائنات من الفضاء الخارجي، أو أصحاب حضارات أو ديانات مجاورة في الشرق الأدنى القديم. وأيضًا لم تكن الأهرامات مخازن غلال أو محطات لتوليد الطاقة أو الكهرباء، وكل هذه الخرافات وغيرها الكثير غير صحيحة، وكل كتابات المؤرخين العرب والمسلمين في العصور الوسطى مليئة بالخرافات عن الأهرامات، والتقطها بعض الناس في الغرب في الفترات الحديثة والمعاصرة، ونسبوها إلى أنفسهم، وصدعوا عقولنا بها.
الهرم الأكبر نموذج مصغر لمحيط الأرض!
في القرن التاسع عشر الميلادي، اكتشف الفلكي الأسكتلندي تشارلز بيازي سميث أن الهرم الأكبر كان به قدرٌ كافٍ من البوصات الهرمية التي تجعله نموذجًا مصغرًا لمحيط الأرض. ولسوء الحظ، كانت حسابات بيازي سميث الدقيقة قائمة على قياسات أُخِذَت حين كانت الكتل الضخمة من الحطام والأنقاض التي ما تزال تغطي قاعدة الهرم.
مشروعات عمل عامة وليست مقابر!
في عام ١٩٧٤ ميلادية، زعم الفيزيائي كورت مندلسون أن الأهرامات كانت عبارة عن مشروعات عمل عامة وليست مقابر، وأن الهدف منها كان خلْق هوية مصرية قومية للقبائل المُشتَّتة آنذاك. ولم تفسِّر نظرية مندلسون عدم وجود الجثث فحسب، بل فسرت أيضًا مشكلة أخرى مزعجة شابَت نظرية المقابر، وهي تحديدًا أن العديد من الملوك المصريين القدماء اتضح أنهم بنَوا أكثر من هرم. على سبيل المثال، كان للملك سنفرو — والد خوفو — أربعة أهرامات. وكان لخوفو نفسه هرم واحد فقط، إلَّا أنه يضم ثلاث غرف يبدو أنها صُمِّمت كغرف دفن.
الأهرامات أضرحة تذكارية!
اكتسبت نظرية أخرى العديد من الأتباع والمؤيدين، وهي أن الأهرامات كانت أضرحة تذكارية؛ أي آثارًا شُيِّدت تكريمًا للملوك المصريين القدماء المتوفَّين، ولكنها ليست مقابرهم الفعلية، التي كانت مُخبَّأة في مكان آخر للحفاظ عليها من اللصوص. وكان ذلك سيفسر لِمَ كانت مليئة بالسمات الجنائزية، ولكن دون وجود مومياوات. وغير أن غالبية علماء المصريات يعتقدون بأن الأهرامات قد بُنِيَت في الأساس كمقابر، حتى لو كانت قد خدمت بعض الأغراض الأخرى. فهي مُحاطَة بمقابر أخرى، وإن كانت لرجال دولة أقل مكانة. حتى لو كان اللصوص القدماء وغير القدماء قد استولوا على كلِّ أثر لها، فقد كانت جثث الملوك المصريين القدماء موجودة هناك يومًا ما. ويمكن فهم الأهرامات، من منظورِ ما أجمع عليه العلماء، على النحو الأفضل كجزءٍ من تدرُّج معماري، بدأ بمقابر مستطيلة ذات قمم مُسطَّحة بُنيَت من الطوب اللبن، والتي يُطلَق عليها الآن “مصاطب” (وهي تلك التي عُثِر فيها على المومياوات).
هل بنى اليهود الأهرامات؟
لم يقم اليهود ببناء الأهرامات. ولا يوجد لهم أي ذكر أو أية آثار في عصر بناة الأهرامات. والحقيقة العلمية المؤكدة أن المصريين القدماء هم الذين بنوا الأهرامات المصرية القديمة. والحضارة المصرية مرتبطة بالموت. وكان الموت هو القوة المميزة في عقيدتهم الدينية وفي كل المجالات في حضارتهم الخالدة. وكانت الحياة الثانية بعد الموت هي هدف المصريين القدماء الحقيقيًّ.
لماذا بُنى هرم الجيزة الأكبر؟
بعد مرور مائتي عام على نشأة علم المصريات ورسوخه، يجادل مجانين الأهرامات بخصوص سبب وكيفية إنشاء الهرم الأكبر في الجيزة. واقترحوا نظريات في غاية الجنون. ورفضوا حقيقة كونه مقبرة، وقالوا إن الوظيفة الأساسية للهرم لم تكون مكانًا للراحة الأبدية للحاكم الثاني من الأسرة الرابعة، الملك خوفو. واقترحوا نظريات عديدة أخرى مثل أنه كان مخزنًا للحبوب، أو بيتًا للطاقة، ومرآة للسماء، ومضخة للمياه، وأمورًا أخرى كثيرة في غاية الغرابة. وتوصلوا إلى استنتاج يقترح أن الهرم الأكبر يقع في أقصى مركز جغرافي للأرض (أو بالقرب منه)، ولم يذكروا السبب وصحة الأمر وكيفوا توصلوا إلى ذلك. ويميلون إلى تجاهل حقيقة إذا كان الهرم مبنيًا بالفعل كمقبرة، فكيف انتهى الأمر بالملك خوفو لاختيار موقع المقبرة؛ ليكون في المركز الجغرافي للأرض أو قريبًا منه؟ ومع تقدير مدة بناء الهرم بأكثر من عشرين عامًا، فهل تم وضع ورسم خرائط لكوكب الأرض في الاعتبار في فترة بناء الهرم؟ والسؤال الأهم هو: كم من الزمن استغرق من الملك خوفو لمسح الكوكب ولتحديد ذلك الموقع؟!
تلك حكايات وحكايات من حكايات كثيرة توضح لنا كيف عانت الأهرامات المصرية من الحكام والمغامرين وغيرهم عبر آلاف السنين من خلال العبث بتلك الآثار الخالدة التي نحمد الله أنها بقيت لنا، وأنها صمدت في وجه كل محاولات الهدم والتدمير والتشويه عبر العصور، وكذلك عن كيفية تعامل مجانين الأهرامات مع أهراماتنا الخالدة منذ أقدم العصور وإلى يومنا الحالي.
مجانين الأهرامات
مع آلاف السنين التي مرت وتمر عليها يزداد الولع بها والشغف من أجل كشف أسرارها، وتتكاثر ألغازها يومًا بعد يوم، ونحاول أن نكشف عن أسرارها كلما ظهر لنا جديد. وهناك الكثير من الهواة من كثير بلاد العالم الذين يعدون من مجانين الأهرامات. وتعد أهرامات مصر هي أكثر آثار الدنيا إثارة للجدل وسوف تستمر في ذلك؛ بسبب الاختلاف حولها من حيث هوية من بناها، وكيف تم بناؤها، والسبب الحقيقي وراء تلك الأهرامات الضخمة والمثيرة. وعلى سفح الأهرامات يقف الناس مذهولين من روعة وجمال ودقة وضخامة البناء. وسوف يظل الوقوف أمام أهرامات مصر حلمًا يراود جميع الناس في العالم كله. إن الناس في العالم شغوفة بالأهرامات أكثر من أي أثر. وكل يوم تزداد الأهرامات غموضًا وسحرًا وجمالاً وإثارة وجاذبية. وتجعل الإنسان الحديث بكل تقنياته العلمية يقف عاجزًا حائرًا أمام بناء يتحدى الزمن بناه المصريون القدماء بآلات بسيطة، ومن دون إسمنت. وحاول الكثير من العلماء الآثار حل لغز الغرض من بناء أهرامات مصر، خصوصًا هرم الجيزة الأكبر، وتوصل كل منهم إلى ما وصفه بالحقيقة في الجانب الذي يهمه، كما حاول البعض تفسير ما جاء في متون الأهرامات وبرديات المصريين القدماء ومخطوطات المؤرخين والكتب السماوية أحيانًا. وذكر المؤرخ المصري مانيتون أن الملك خوفو كان أحد أنصاف الآلهة، جمع من الحكمة والمعرفة المقدسة، وكان مصلحًا وساحرًا. كان بناء الأهرامات هو المشروع القومي في مصر القديمة. وكان كل الناس يتسابقون ويتطوعون لبناء الأهرامات. وقال البعض إن الأهرامات لم تُشيّد كمقابر لدفن الملوك، وإنما كانت ذات علاقة بعلوم الفلك، وأن الذين بنوا الأهرامات كانوا هم كهنة الشمس في مدينة أونو، وبنوا مرصدا للتنجيم هناك. وادعى البعض أن الهرم الأكبر، على سبيل المثال، بُنى على مرحلتين. الأولى كمرصد فلكي لإله الشمس، وأن الإله تحوت، رب الحكمة والمعرفة، أمر ببنائه لتُحفظ به أسرار الكون السماوي ويتلقى به كهنة الشمس رسالة الإله. والمرحلة الثانية هي استخدامه كمقبرة، فأكمله الملك خوفو. هذه قصة وغيرها الكثير من قصص وحكايات عن الأهرامات المصرية التي لا تنتهي أبدًا.
محاولة لتوضيح الحقائق عن الأهرامات
علينا أن نحاول بكل السبل توضيح وشرح الحقائق العلمية عن الأهرامات في مصر القديمة منذ البداية إلى النهاية، منذ عصور ما قبل التاريخ، أو فترات تأسيس مصر القديمة، ثم عصر الأسرات المبكر، وعصر بناة الأهرامات، أو عصر الدولة القديمة، ومرورًا بعصر الانتقال الأول، وعصر الدولة الوسطى، ووصولاً إلى عصر الدولة الحديثة وما بعدها، وكذلك أشهر المقابر غير الملكية الموجودة في رحاب الأهرامات. ونوضح الفرق بين الأهرامات التي تخص الحكام من الملوك والملكات والمقابر التي تخص علية القوم وكبار الشخصيات ورجال البلاط في مصر القديمة، سواء أكانوا من العائلة المالكة أو من كبار رجال الدولة. إن البحث عن الأهرامات المصرية هو رحلة جغرافية من الشمال إلى الجنوب في الجبانة المنفية وما وراءها وما بعدها وما جاورها. ومن خلال دراسة الأهرامات والآثار المصرية القديمة في مصر وخارجها سوف نصل إلى الإجابة عن عدد كبير من الأسئلة التي تشغل أذهان الجميع في كل زمان ومكان عن الأهرامات المصرية. إن الأهرامات المصرية هي قصة عشق لا ينتهي، وتأتي أهرامات الجيزة الخالدة، في المقدمة وعلى قمة العمارة التي وصلت إليها عمارة الأهرامات في مصر القديمة.
د.حسين عبدالبصير
عالم الآثار المصرية ومدير متحف الآثار-مكتبة الإسكندرية