أخبار عاجلةدراسات ومقالات

محمد عطية محمود يكتب كيف يكتب الروائي روايته

لا شك أن للرواية متعلقًا وجدانيًا وثقافيًا وتاريخيًا وفكريًا، وإلمامًا بنواح عدة من نواحي التأثر بكافة الفنون البصرية والتعبيرية، اتكاء على تاريخ روائي ومنجز تعاظمت فيه أسماء روائية كبيرة مهدت وكرست وعمقت فن الرواية منذ بداياته العربية، وحتى الآن، وإمعانا في التحليل الثقافي لها، ذلك الذي يجعل للنص سلطة وهيمنة على الناقد والباحث، كما هي سلطة بالأساس على المتلقي الذي يحتكم لأحكامها ووجهات نظرها الباعثة للحياة في أشياء قد تكون فارقتها بمرور السنين، قد تعطيه مفاتيح لأشياء غامضة في وجوده يستأنس بها ويجد فيها طرفا من أبعاد إشكالية وجوده مع الحياة.

كما أن تفريغ الحمولة النفسية الذاتية يُعد وظيفةً من وظائف السرد القائم على تبني قضايا الإنسان ووجوده، من خلال طرحه للمزيد من أسئلة الذات والوجود، قد يفتح طاقات للتعبير عن جل القضايا والهموم، تجترح الذات من خلال الاشتباك مع تلك الأسئلة، ومحاولات فلسفتها ووضعها دائمًا على حافة الجدل، ما يثير نقاطا بعيدة التأثير في تكوين الوعي الجمالي والذائقة برغم وطأة الإشكاليات والهموم والتأزمات التي تواجه الرواية على سبيل المثال إشكالية الاغتراب النفسي وتجزر الفرد، وأزمة الاستيحاش المدمرة للذات التي تلوح في العديد من النماذج السردية التي كان لها الظهور اللافت على ساحة الكتابة الروائية كسمة من سمات المعاصرة التي يعانيها الإنسان..

مع مطلع ألفية جديدة تحولت أنماط التعامل وإشكاليات الوجود لتتخطى مستويات هائلة من التشظي والتفتت، وتفشي ظاهرة انعزال الفرد عن المجتمعات التي تضمه، والتأثيرات السلبية للصراعات الأيديولوجية والاقتصادية وانهدام البنية الاجتماعية بمستوياتها التي تضغط على الفرد المتقوقع بهمومه وعدم قدرته على التواصل السليم، ومن ثم التكيف مع الأوضاع التي تحصره في دوائر وكيانات مهمشة، تُظهر كل السلبيات والضغوط كأشباح ملازمة للحياة وطقوسها ومستجداتها المستعصية على التآلف والاندماج، على الوجه الذي يحدث الحد الأدنى من عوامل التكبف مع الواقع.

ما يجعل للنص الروائي دورًا بالغ الأهمية والتأثير من خلال نسيجه الذي أصبح يتسع للمزيد من الإضاءات والتحليلات، وأصبح يستوعب فنونًا أخرى وتيمات أخرى بداخله، فضلًا عن تأثره بسمات كتابة القصة القصيرة المعنية بالأساس بأزمة الفرد واستيحاشه وأناته وهمومه الفردية التي تتعامل معها كشرائح أو لحظات فارقة ووامضة مصيرية في حياة الفرد وكينونة وجوده.

ذلك ما يعمق إشكاليات الاغتراب بمدلولاته النفسية العميقة بقوة قد تتعادل مع الرغبة في الهروب من الواقع الذي اختلفت آلياته، نحو تكوين وعي أسطوري جديد يلجأ إليه السرد ليعمق من أهمية الذات التي همشت في مستويات وجودها الحقيقي، إضافة إلى تلازم هذا الوعي الأسطوري بوعي آخر صوفي مواز تتوازى فيه القداسة مع الدنس كسمة من سمات الإيروسية، وكإفراغ للحمولة النفسية الضاغطة على الذات وتقلبها على جمر المعاناة، وكوسيلة للهروب أو التماس عالم منعزل مبحر في اتجاه عالم بديل غارق في عوامل الوجود والعمق الأنثروبولوجي والميثولوجي والغيبي (الميتافيزيقي) ما يعمل على تعميق الفجوة بين الذات والواقع، ومن ثم رصد العديد من الحالات الشائهة المتصارعة من أجل الطفو مرة أخرى على سطح الوجود، ما يدفع إلى مزيد من سبر الغور والبحث عن آليات الكتابة وتقنياتها ومعالجاتها للواقع والمتخيل على حد السواء، حيث “أن أي فن حقيقي هو بالضرورة زواج بين أهمية المادة وأهمية المعالجة الفنية” (بحسب فرانك أوكونور)

تتنوع معالجات الوعي الروائي لتخرج إلى حيز أكبر من الوجود من خلال أفضية المكان ووجود الذات فيه، فلا تخلو الروايات من مسحات تبشيرية وتوثيقية تتواكب مع الأحداث الراهنة، تتأثر بها الكتابة وتتوتر انفعاليا لترصد وتحلل وتضع بعض النقاط السريعة الدالة على المرحلة التي دخلها العالم بعواصفه، فيكون للرواية، كما للشعر، حق التعبير المواكب والسريع، وكتجربة شخصية لها أبعادها!!

تخترق الرواية، الذات لتشعل ثورتها على ذاتها/ جسدها/ ماديتها الراسخة لتتعانق مع الروح ربما أيضا بحس أسطوري أو حس قاهر أو مقهور، ومع المكان، ومع السيرة، ومع مركزية الفرد وتقوقعه، ورصده لأناته من خلال وجوده المحصور في هذا الجحر الذي يرى منه العالم، مع ما يجمع كل تلك الملامح من سمات مشتركة قد يستفيد العمل الروائي الواحد بالعديد منها، واختلاف آليات الكتابة من تقنيات وطرائق سرد وحمولات لغوية..

 فهل صارت الرواية هي تلك القوقعة، وذاك القناع الذي تتخفى فيه الذوات الساردة، أو المسرود عنها، كي تحاول إماطة اللثام عن إشكاليات الوجود التي تعانيها (من خلال روائي يبحث عن ذاته) ما يمنحها القدرة على الامتلاء والتعبير الجمالي عن التورط في فتنة الوجود أو فتنة السرد الموازية؟

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى