د.أحمد الباسوسي يكتب قراءة خاصة في رواية تحت اﻷرض
تعويذة “كشهنار” فايزة شرف الدين وحرب الذكريات واﻷوهام
هل يمكن ان يتحدد مصيرك من خلال بضعة كلمات يكفيك أن تتمتم بهم لكي تضمن أمانك وتحافظ على استقرارك وابتعادك عن التشوش والخوف؟. وهل يمكن الصمود أمام العدو غير المرئي وإنهاء الصراع لصالحك بفضل الصبر والصمود.؟. للإجابة على هذه التساؤﻻت التي انشغلت بها عقلية الروائية فايزة شرف الدين ذهبت إلى تيمة تقليدية فلكلورية ﻻتزال رائجة في مخيلة المصريين حتى اليوم تتعلق باﻷرواح أو الجن الذي يتلبس بعض القطط ويراوغ البشر ويشاكسهم في بعض اﻷحيان.
كذلك لجأت الكاتبة إلى الرومانسية كي يتحقق لها ما تبتغيه من تلك الغزارة السردية التي قررت حياكتها ببراعة ترزي محنك مستخدمة بعض الخيوط القديمة من التراث، اﻷمر الذي يشي بمبلغ ثقافتها الدينية وربما أسرفت نسبيا في استخدام التناص من عوالم ولغة القرآن الكريم، غير زلة حدثت في صفحة 9 حين ذكرت من سورة الجن “وإنــه كانوا رجــال مــن إلانــس يعوـذون برجــال مــن إلانــس فزادوهــم رهقــا”” والمقصود بالطبع يعوذون برجال من الجن وتم تصحيحها ﻻحقا في النص ذاته. واستفادت الكاتبة في نسج غزﻻلتها السردية من تقنيات التلاعب بالزمن والتلاعب .بصوت الراوي والحكي وفقا لمقتضيات الموقف الدرامي ، بدأت بصوت أسامة الضابط اﻻحتياطي الشاب من ضمن أفراد حراسة السجن الحربي وانتهت بصوت أسامة أيضا وأمنيته بأن يقابل حدثا مثل الأميرة الجنية كشهنار حينما التقاها سعد شخصية الرواية المحورية في خندق الكتيبة وسط الصحراء وما بين الصوتين أو الماضي والحاضر جرت في النهر أصوات وأحداث كثيرة تشكل أسلوب الكاتبة السردي وسعيها الحثيث للإجابة على الأسئلة السابقة ، وجسدا متميزا من الغرائب التي تعود بنا إلى أزمنة قديمة من الحكي والتفكير، وتتضافر من حراك اجتماعي ﻻزم سعد على مدار الرواية، هذه الحركة تتوافق مع حركة مجتمعه والتغيرات الحادثة داخله اقتصاديا واجتماعيا ، ويحسب للكاتبة وعيها بهذه التغيرات الفردية كما في حالة سعد وشركائه، واﻻجتماعية كما في حال التركيبة اﻻجتماعية المعاصرة لسعد من منظور رومانسي بالطبع .
ويمكن ان نساير هذه الحركة والحراك الفردي والمجتمعي في النص الروائي كما يلي.
أوﻻ: على الرغم الخلفية الدينية للكاتبة والتي ظهرت من خلال استخدامها المفرط للغة القرآن الكريم في منحنيات النص وانشغالها بالتناص من القران والنصوص القديمة كأساس للغة السرد لديها فلم تخلوا لغته من إشارات اﻻنفتاح العقلي والتحرر من قيود الخجل والرعب من قيم المجتمع المحافظة عندما تعلق اﻷمر بوصف المظاهر الخارجية والداخلية للمشاعر المتأججة للانثى ونفس الحال بالنسبة لسعد ومشاعره الحسية والداخلية المحمومة بالرغبة والشبق الذكوري تحاه اﻷنثى، ووفق هذه السياق يبدو أن اللجوء إلى اللغة التراثية كأنه ” تكوين رد فعل معاكس ” وفق نظريات التحليل النفسي وخاصة لدى العالم النفسي الكبير فرويد الذي اشار إلى ان شدة المبالغة في وصف الشيء تعني الرغبة في عكس كل ما يقوله الشخص، ذلك اﻷمر الذي ظهر جليا في دقة وصف تفاصيل مشاعر وبعض سلوكيات الرغبة والشبق الجنسي.
ثانيا: إن شخصية سعد بطل الرواية الجندي البسيط الذي يمضي مدة خدمته اﻻجبارية في الجيش في كتيبة بالصحراء ومطلوب منه الخدمة داخل أحد الخنادق تحت جوف اﻷرض، لم تتناول الكاتبة تفاصيل وﻻ مجرد اشارات لملامح المهمة المناط بها الحراسة سوى مكوثه في الخندق يمضى الليل يأكل ويشرب وينام ويقرأ القرآن وكفى.
وسعد شخصية طيبة محبوبة من الجميع، هادئ الطبع والملامح، يبتعد عن الصراعات، حساس جدا، لديه وازع ديني متميز وشعور مرتفع بتحمل المسئولية، اﻷمر الذي اضطره الى اﻻكتفاء بالتعليم المتوسط (دبلوم صنايع) بديﻻ عن التعليم الجامعي عقب وفاة الوالد اختصارا لطريق التعليم والعمل لمساعدة والدته في مصاريف المعيشة.
هذه الشخصية الرومانسية البالغة الطيبة الهشاشة والضعف من منظور نفسي إذا ما اصطدمت بواقع صلب يتطلب قدر مناسب من الصلابة النفسية في مواجهة موجات عاتية من التحديات والصراع. تنكسر بسهولة ويخلفها أعراض اكتئابية ومظاهر مرضية أخرى ان شخصية بهذه الخصال حينما تواجه بأثقال وهموم تمثل مجمل الضغوط الواقعة فوق رأسه على سبيل المثال ما يتعرض له من حوادث وأحداث أثناء تأديته لمهمته الوطنية، وغيابه ايام أو أسابيع طويلة عن أمه في الغربة الواسعة، وخدمته في موقعه داخل خندق تحت اﻷرض في ظلمة حالكة وما تخفيه هذه الظلمة من أشياء مرئية وغير مرئية أو عوالم يختزنها عقله اللاواعي منذ طفولته، وحواديت الجن والعفاريت والحيوانات التي تتلبسها وتتمثل في اشكالها ، كل هذه الظروف الصعبة طرقت رأسه وخلقت ممرا لعقله الباطن الى عقله الواعي أن يستحضر من مكنون حكاياته القديمة ذلك القط اﻷسود الذي طفق يموء بشده نتيجة حشره في الصخرة داخل الخندق والذي اتضح له ﻻحقا انه جني مثلما تتبع خطوات اعتقاده في هذا اﻷمر ، والنتيجة دخوله في نوبات جسمانية حقيقية من الهلع والخوف واعراض جسدية أخرى استدعت دخوله المستشفى وحصوله على اجازة ، وتردده على الدجالين مع والدته ، وعودته ومحاوﻻته المستميته للنقل من مكان خدمته إلى وحدة أخرى ليس فيها انعزالية عن الناس، وتعنت مثير للدهشة واﻻستغراب من القيادة في رفض طلباته باستمرار من دون تقصي أو تفهم لطلباته المستمرة خاصة أن دخوله المستشفى أمر ﻻفت ، وفي هذا اﻷمر أدانه صريحة للمؤسسة العسكرية في تعاملها المتعنت من جنود فقراء يؤدون خدمة إجبارية وطنية وﻻ اعتبار أو تفهم لظروفهم المرضية الصعبة، اﻷمر الذي اضطر سعد الى الهرب من الكتيبة خشية الذهاب الى الخندق . والقبض عليه وإيداعه ﻻحقاء في السجن الحربي.
ثالثا: إن شخصية اسامة ضابط اﻻحتياط المجند تعتبر المعادل الموضوعي لشخصية اسامة ، تلك الشخصية التي اعتمدتها الكاتبة في الولوج إلى احشاء النص وكشف دهاليزه ومنحنياته ، أسامة أيضا مثل سعد شاب صغير يمضي فترة تجنيده اﻻجبارية ومتناغم مع شخصية سعد في خصاله الشخصية ، استخدمته الكاتبة مرحليا وفق تقنية الفلاش باك أو اﻻسترجاع الزمني لحكاية سعد وظروفه وقصة القطة الجنية اﻷميرة المصرة على عشقه واصرار سعد على رفض عشقها والصراع الدائر في هذا الصدد حتى خروجه من السجن بعد حصوله على عفو عن بقية المدة نتيجة لسلوكه الحسن في احدى المناسبات .
ان ذلك التوحد الحاصل بين اسامة وسعد والدعم النفسي القوي الذي تلقاه سعد من الضابط أسامة حقق لسعد توازنا نفسيا فارقا أثناء فترة سجنه وترك أثرا داﻻ لدى سعد ﻻينمحي ويؤكد انهما كانا وجهين لعملة واحدة في التفكير والمشاعر مع فارق واسع في اﻻمكانيات والمهارات والتوفيق بالطبع لصالح سعد . وتأكد هذا اﻷمرفي اللقاء اﻷخير بينهما في نهاية الرواية عندما انصرفا لحالهم وتمني أسامة ان يلتقي جنية أمرأة مثل سعد تغير حياته البائسة إلى ثراء وراحة مادية مثل سعد :
رابعا: إن رحلة الكفاح التي واصلها سعد مع الريس عليوه صاحب المطعم الصغير في البلدة بلوغا الى افتتاح سلسلة مطاعم فخمة في باريس ولندن ﻻبمكن اعتمادها نتاج لعمل اﻻميرة الجنية كشهنار بقدر ما هي رحلة كفاح وصبر وعراك مع الواقع الحي ﻻ الوهمي لسعد ورفيقه الريس عليوه وأوﻻده الأوفيا . وفي هذا السياق يتضح أن سعد استفاق في أعقاب تحرره من السجن وانقضاء عقوبة هروبه من الخدمة العسكرية ، بمعنى تحرره من مشاعر الذنب نتيجة هروبه ثم تنفيذ عقوبته المستحقة عليه، وخﻻصه من التهديد بالعودة إلى عالم اﻻنعزاليه والخوف من الخندق والقطة السوداء التي نغصت عليه حياته . وبدأ في استخدم مهاراته وقدراته الخاصة المميزة في تطوير ديكورات المطاعم وادارتها بكفاءة بالغة نتج عنها افتتاح فروع في انحاء البﻻد وكذالك استفاد من خبرة ومهارات والدته أم سعد في طبخ الوان خاصة من الطعام، وافتتاح مطاعم عليها ﻻفتات “ام سعد” راجت كثيرا في انحاء البﻻد،. قبل ان يقرر أن يفتتح سلسلة مطاعم في الدول الأوربية.
خامسا: نحن إذن بصدد تركيبة شخصية مميزة لرجل اﻻعمال سعد تمكنت الكاتبة من تضفيرها بمهارة بتوابل من عالم الجن والتفكير الخرافي الوهمي وسارت في هذا اﻷمر الى النهاية للاسف ، لكن القراءة المتأنية غير المتعجلة للرواية ربما تؤدي بنا إلى أن مستوى اﻻثارة واﻻستثارة الذي تحقق على مدار الرواية ونجحت الكاتبة في إقحامه داخل قلوبنا وعقولنا ﻻيعنى بالضرورة السير عبر نفس المسار المفروش بالتفكير الخرافي وآثار أفكار عالم الف ليلة وليلة، وعوالم القرون الوسطى بدليل ان دهاء الكاتبة وفقها في اختيار الفتاة اﻻوربية الجميلة ساندرا التي التقاها سعد في باريس وفتن بها حتى الثمالة معادﻻ موضوعيا لسعد نفسه في صبره وذكائه وولعه بالبيزنس وتشاركا معا في اعمال البيزنس وتزوجها مخالفة لشروط اميرة الجان كشهنار ووالدها الملك ماهي سوى اميرة الجن كشهنار وقد تحولت في صورة فتاة اوربية فائقة الحسن والجمال لخداعه واجباره على مخالفة التعوذة .
ثم أخيرا اكتفاء اميرة الجن أو القطة .السوداء مما حصلت عليه من متعة من سعد وانصرافها عنه وتركه لحاله وحياته . هذه الصيغة السردية ربما تؤكد لنا أن سعد كان شابا طيبا، كما كان مكافحا غنيا بالمهارات والقدرات النفسية ولديه في مخازن عقله الباطن من الصور والحكايات ما يخرجها وقت أن تشتد به الخطوب وتهاجمة اﻻحداث الجسام ويشعر بالضعف والمهانة واﻻنسحاق ، عندها يخرج عقله الباطن كل المطلوب لكي يخرج من عزلته وأزمته ويخلد للراحة واﻻنسجام والهدوء ويصنع مملكته الواقعية على اﻷرض في مصر وفي اوربا أيضا.