أحمد الباسوسي يكتب الرحلة إلى أداجيو ودنيا الملائكة والخيال
قراءة في رواية أداجيو للأديب الكبير إبراهيم عبد المجيد
1. ترى ما لذي جعل الكاتب إبراهيم عبد المجيد يحلق باسطورته ريم مع نغمات اداجيو الساحرة في ذلك الفضاء من السحر ومتعة الروح الشفيفة وتلك العاصفة من رقة المشاعر وذلك العطاء اللا محدود بمختلف تفاصيله وظروفه وأشكاله.
إن اداجيو هي تلك المقطوعة الموسيقية التي استوحاها الموسيقي الإيطالي ريمو جيازوتو في خمسينيات القرن الماضي من الموسيقي العظيم تومازو البينوني الذي عاش في فينيسيا في القرن الثامن عشر؟، وظل شغوفا به لدرجة استغراقه في كتابة سيرته الشخصية.
ويخرج تساؤل من عمق اﻷفق يطرح نفسه بإلحاح لماذا فعل إبراهيم عبد المجيد الكاتب المقتدر هذا اﻷمر اﻵن ؟، هل لمجرد شغفه وعشقه للموسيقى (وذلك أمر يعلمه جميع زملائه وأصدقائه المبدعين)؟ .
أم أن اﻷمر يتجاوز كل هذا العشق الكلاسيكي إلى محاولته خلق عالم مواز لحياته الخاصة السابقة، أراد من خلاله السباحة في بحر الذكريات الحميمة، والرغبة في اﻻنفصال عن هذا العالم المزعج المسكون باﻻضطرابات والتوترات واﻷكاذيب والتسلط، وحتمية السير على أوتار مشدودة دائما، بالولوج إلى عالم الحياة الناعمة مع معشوقته وملهمته التي كانت قبل أن تتوارى خلف الغمام في لحظة مسكونة باﻷلم واﻻكتئاب؟.
إذا كان عنوان النص “اداجيو” وهو عنوان إحدى المقطوعات الموسيقية الشهيرة كما ذكرنا يفتح الطريق سريعا لقارئه أنه أمام حالة من الرومانسية تكاد تكون (فريدة ومطلقة)، من تناغم اﻷوراح وانصهارها والتحليق في السماوات البعيدة في صحبة ملائكة الأساطير والكتب المقدسة، فإنه يمثل أيضا ذلك التماهي الروحي /اﻻنساني الذي يمشي عبر مسارات النص المختلفة، وقادت أنغام الموسيقى هذا التماهي بامتياز من خلال مقدرتها الخلابة على تشكيل الوجدان البشري بكل ما هو حب للحياة، وللانسان، وللواقع بمختلف تجلياته من دون غضب أو خصام
ربما كانت رحلة سيارة اﻻسعاف التي يسكنها جسد “ريم” السيدة الموسيقة العظيمة المشهورة في ربوع الوطن، والمسجون بشبكة من الأنابيب البلاستيكية من أجهزة بالخارج إلى الجسد الضئيل تمنحه اﻷمل وقبلة الحياة، البداية الهادئة التمهيدية للمعزوفة قبل أن تتفرع تنوعاتها وتتعدد وتتشابك وتجأر بالصوت وصداه ونستفيق على مفارقتها المدهشة وهي استفاقتنا على واقع أيامنا المؤلم غير القابل للاندماج أو التعايش داخله مثلما قرر بالضبط سامر وغادة صديقة ريم المقربة، أو ربما نعتبرها (غادة) نسخة ريم اﻷخرى في معزوفة الكاتب الموسيقية.
إن ريم المسجاة فاقدة الوعي تماما داخل السيارة هي معشوقة سامر المليونير الشهير وصاحب مصانع الموبيليا المطعمة بالصدف والمنحوتات الفنية من الخزف فائقة الجودة الفنية، وهو أمر يكشف لنا عن مليونير بدرجة فنان، ويجلس حولها عامل سيارة اﻻسعاف وزوجها سامر تحت قيادة سائق تبدو عليه علامات الحيرة والفضول الصاخب مثل صاحبه العامل. انها بداية مثل بدايات اﻻفلام السينمائية أو الروايات التي تتخذ طابع اﻻثارة منهج وحدوته نتابعها ﻻحقا، لكن الكاتب وقائد اﻻوركسترا يؤكد على طبيعته اﻻوركسترالية في فن العزف وطبيعة البدايات. بداية اﻻنطلاق من القاهرة إلى منطقة العجمي باﻻسكندرية واهتزازات السيارة فوق الطريق ومنحنياته وكثرة التواءاته والتعاريج وطفح المياه وغضبها الصاخب من المكوث في باطن اﻷرض، واﻻختراق إلى فوقها في حالة غضب من اﻻهمال طويل اﻷمد، وفضول رفاق الرحلة، وصدمتهم بسبب وجودهم في هذا المكان المهجور من الناس والغارق في مياه الصرف، وماذا تفعل هذه السيدة المسكينة الميئوس من حالتها، والبعيدة بأميال عن تﻻمسها مع الواقع والذين من حولها وقد أخرجوها توا من المستشفى إلى هذا المكان الخالي من البشر، وﻻينعشه سوى قطرات المطر التي استقبلتهم باحتفالية كأنها تخص ريم وحدها، انها بداية محيرة لمعزوفة تكاد تفصح عن مبلغ الشجن في ثناياها
وتكشف عن براعة واقتدار كاتب وقائد أوركسترالي نجح في نثر عبير تلك المعزوفة في اﻻفق خلال المسافة بين تلك المستشفى الفارهة بالقاهرة التي كان جدرانها يحتوي جسد ريم النحيل الذي تمزقت اوردته وشرايينه بفضل ما حاق به من ثقوب الحقن والكيميائي واﻻشعاعي، وهاهي محطة المستقر اﻷخير في في العجمي الغارقة في مياه الصرف والخواء واﻷلم
لم يكن لقاء سامر عاشق وزوج ريم ورجل اﻷعمال الفنان الذي قذف نفسه في أتون مجهول ليواجه مصيره مع معشوقته مريضة سرطان اللوكيميا في مرحلة النهاية بسائق التاكسي عثمان صاحب نفس التجربة التي يمر بها سامر في تلك المرحلة، وصاحب نفس شخصية سامر في اﻻيثار والعطاء والتفاني في عشق المحبوب سوى اشارة مهمة تؤكد وحدانية الكون ، وأن المليونير الشهير يمر بنفس الوجع الذي عايشه سائق التاكسي الفقير الذي يقتاد رزقه تحت أمطار السماء الغاضبة ، وان اﻻثنين المتوجعين تسيطر عليهما نفس قيم الحب والعشق واﻻنسانية السامية .
إن الزمن في الرواية يتخلخل ويتداخل في نعومة مدهشة لدى سامر الكائن العاشق للموسيقارة العبقرية ريم الشابة الجميلة التي اختطفته تماما في مساء إحدى لياليها الموسيقية على مسرح اﻻوبرا ، حينها لم يرى ولم يتحدث الى غيرها من نساء اﻷرض. الفضاء لم يتسع لسواهما ، حتى صديقتها وزميلتها في الأوركسترا ورقم اثنين في الفرقة غادة الجميلة أيضا والتي أحبته حبا عظيما صامتا لم يراها أو يستشعرها .
زمن العشق تداخل مع زمن العطاء والوله واﻻندفاع نحو عمل المستحيل من أجل استعادتها لبريقها الذي كان في زمن ريم وأيام ريم والعشق . انفاسها التي خمدت اﻻ قليلا ﻻتزال مؤنسة لوحشته ، تزيده إصرارا وطاقة وتساند مثابرته في استعادة بريق ريم والفيلا ، حاول عدة مرات إيقاف جموح مياه الصرف عن الخروج من أحشاء اﻷرض ليغرق ارضية الفيلا، لكن اصرار القدر مواز دائما ﻻصرار المرض على إخفاء ريم من عالمه ومن زمنه الذي يعشه.
كأنها حالة غريبة من تآمر القدر على معشوقته . لم يعد يملك من خيال سوى الولوج ولحظات الهيام في رحلة باريس وأيامهما الرائعة الجميلة في لاورشيل هذه المدينة التاريخية الجميلة المستقرة في وجدان الكاتب بجلاء وتقع على الساحل الغربي الفرنسي على المحيط اﻻطلسي
ينساب التداعي بنعومة وتلقائية مدهشة حينما يلتقي الشابان العاشقان وجها لوجه بشخصية سائح مصري تبين انه أحد المبدعين المصريين المشهورين يمضي اجازته مع زوجته وكان يغرس صنارة الصيد في أرض المحيط المتراجعة مياهه بفعل جزر هذه اﻷيام، وسط دهشة مشاهدينهم من الفرنسيين ، سألوا الرجل عن سبب ذلك أخبرهم أنه يفعل ليوهم نفسه انه اصطاد من المحيط بالفعل .
ليكن هذا الرجل إبراهيم عبد المجيد نفسه وقد انفصل في تلك اللحظة عن ذاته المتخيلة ، وقرر تسجيل لحظة فارقة حقيقية لذاته الحقيقية ولقاء مع ذاته المتخيلة على طريقة المخرج اﻻنجليزي الكبير الفرد هيتشكوك حينما كان يتعمد الظهور في لقطة من كل فيلم له ، وتبعه المخرج المصري الكبير حسن اﻻمام على هذا المنوال
ان رغبة سامر ﻻتقتصر على منح ذاته لجثمان ريم المسجي جواره وتحقيق كل متطلباته البيولوجية واﻻجتماعية والمعرفية والروحية بمنتهى اﻻريحية والسماح والعشق فحسب، بل ارادته الداخلية انتجت له صورا وأصوات وصراخ أحيانا لمعشوقته ريم تشق فضاء الفيﻻ في صخب مميز لحضورها الواقعي يسمعه وبراه أحيانا ، ويسمعه ويراه اﻵخرون أيضا من العمال الذي استدعاهم للقيام ببعض الاعمال أحيانا أخرى، وظهور الغراب يدق على بيانو ريم والعصفور الصغير …الخ من الظواهر المثيرة التي تحدت فضاءات المنطق والعقل في طريقة مدهشة لتواصل ريم وسامر أو سامر وريم حتى اﻻستفاقة اﻷخيرة لريم ﻷقل من الثانية سؤالها عن يوم خمستاشر وفهم منها انها النهاية. كأنه تدفق مدهش للافكار في عقل الراوي وكاتب النص ، ومن ثم سارع على الفور في استدعاء ابنتهما الجميلة الملهوفة على أمها والمقيمة في المانيا للدراسة، وابلغته بانها في الطريق بالفعل بعد ان بلغ بها القلق على امها مبلغه .
لم يكن حضور غادة صديقة ريم الحميمة والعاشقة لسامر في الخفاء الى الفيلا للاطمئنان على صديقتها الوحيدة مجرد زيارة فحسب ، بل كان حضورا ذا مغزى معنوي للعاشق سامر الذي ثابر الى حد اﻻنهاك وﻻ يزال مثابر في رعاية ريم ، وكان على ريم مكافأته ومكافأة نفسها قبل الرحيل عن عالم سامر الى اﻷبد . ان اﻻندماج الجسدي الروحي الذي حدث ﻻحقا مع حضور غادة والذي عزف الكاتب لحظاتها بدقة مدهشة عكس خلالها فرحة طفلية عظيمة بين العاشقين لم يكن اندماجا بين سامر وغادة الحقيقية التي طالما حاولت مهاتفة سامر أثناء رحلته تلك لتطمئن على ريم صديقتها، لكنه لم يرد عليها، بل كانت لحظات بين سامر وريم ذات نفسها التي تقمصت نفس الصورة الجسدية والمعنوية لغادة ومنحت لنفسها ولسامر تلك المكافأة التي يستحقونها معا قبل أن ترحل وتختفى في قاع مقابر البساتين بالقاهرة،
إن نجاح الكاتب في احداث هذه المفارقة وخداع قارئه المجزوع يؤكد مقدرة الكاتب المدهشة على اختراق حجب الوعي والتأكيد على ان غادة أدت مهمتها في العقل الواعي المنطقى في النص ورحلت بعد ان خاب املها في الحصول على سامر، وان ريم استغلتها لكي تكافئ سامر ونفسها قبل ان ترحل مطمئنة الى عالمها البعيد. ، .
إن العقل الباطن أو مخزون ما تجمع لدى سامر من أفكار وخبرات وصور وأحداث على مدى أزمنة توحد العاشقين بعضهما البعض ظهر جليا خلال تلك الرحلة الزمكانية (الزمانية/المكانية) ومن خلال ما يسمى باستراتيجية تيار الوعي، ونتلمس نجاح الكاتب باقتدار في تسييل أفكاره، وأفكار معشوقته ريم المسجاة من دون حركة ووعي، واختراق غمامة الوعي الطبيعي المنطقي واحداث تلك الحالة من الغمام والحيرة وصنع تلك اللوحة المنسجمة مع حالة دوران العزف لموسيقى اداجيو بواسطة فرقة ريم الموسيقية التي حضرت من القاهرة لتعزفها في حضرة نزول جثمانها درج سلم فيلا العجمي قبل أن يرحل ليدفن في مقابر البساتين كما أوصت من قبل.