مي مختار تكتب: أول مرتب
أول مرتب ٢٦ يناير ١٩٨٩
في بدايات التسعينات وقفت أمام صراف البنك اتسلم راتبي الاول داخل مظروف ابيض يحمل اسمي واسم القطاع المصرفي الذي اعمل به، انتابتني مشاعر متضاربه مابين الفرحه والتوتر والقلق والحزن وانا اتسلمه وأعود به خلف مكتبي، ظللت لدقائق انظر إلى المظروف المغلق، ذهب خيالي الي ماهو ابعد من النقود، إلى الطفله التي عاشت في حضن جدتها سنوات طفولتها ومراهقتها وشبابها رغم قسوتها احيانا كثيره ولكن كان لديها أسبابها، ذهب خيالي لمريلة المدرسه النظيفه وشرائط شعري البيضاء، وحذائي اللامع بالورنيش، وكوب الحليب عند النوم ، والسهر حتي الصباح للاطمئنان علي انخافض درجة حرارتي ، والفتاه المراهقه وشعرها المرفوع ذيل حصان لأعلى ودرجات تفوقها، والجامعيه التي عكفت على دراستها وابتعدت عن الصداقات والعلاقات بالأمر، رأيت شريط حياتي كلها معها داخل المظروف فلولاها ما أصبح لي كيان ووجود، لولاها ما أصبح لي ملف شخصي بأسمي في إدارة شئون العاملين بالبنك.
فتحت المظروف، لمحت مديرتي وقتها متعها الله بالصحه والعافيه دموعي وبحنو الام قامت من وراء مكتبها واخذتني في حضنها انفجرت انا بعدها في البكاء، وسألتني
بتعيطي ليه، حد يبقا لسه قابض ويعيط “، ياسيدتي انا ابكي لأنني فخوره بنفسي ولما وصلت اليه، كنت انتظر تلك اللحظه لاقف أمام المرآه واقول أمامها” انت أقوى من اي كسر ”
ماذا ابتاع لجدتي نظير كل مافعلته وضحت به من أجلي، اعلم انها لا تقبل عطايا من احد، كانت تترفع في قبولها العطايا، اتذكر يوما انها طلبت من ابنها شراء بكرتين لماكينة الخياطه واصرت ان تدفع له قيمتهما وعندما رفض نقودها إعادتهما اليه ” محبش حد يبقاله جميل عليا حتى لو ابني ”
وضعت المظروف في حقيبتي وانا اتشاور مع عقلي عن هديه لها عرفانا وردا لجميلها الذي يطوق عنقي طول العمر، في طريق عودتي للمنزل وقفت أمام حلواني ” اُميه” أشهر حلواني وقتها في شارع الدقي وقمت بشراء كعكة الشيكولاته التي تعشقها، حملتها إليها في سعاده، في طريقي للمنزل قررت أن اساهم بجزء من راتبي معها في مصروفات المنزل حتى أشعر انني كبرت ويمكنها الاعتماد على.
أمام باب الشقه وضعت اصبعي على الجرس أحدث صخبا شديدا وجاءت هي مسرعه من المطبخ توبخني ” هو انا واقفه ورا الباب، متسربعه ليه”، ابتسمت في وجهها ووضعت الكعكه جانبا وفتحت لها ذراعاي لأحتضنها، وكعادتها لم تفتحهما لكنها تركتني أضع قبلتي على خدها وطوقت عنقها بذراعي ” انا قبضت النهارده اول مرتب واشتريت لك كيكه شيكولاته”، اشاحت بوجهها غاضبه وعادت الي المطبخ، هرولت خلفها ” هو انتي مش بتحبي كيكة الشيكولاته، انا فرحانه عشان اول مره اشتريلك حاجه بفلوسي”، كانت تجهز لإعداد الفته وتقوم بتقشير التوم لتضعه في الهون النحاسي، رفعت راسها نحوي ونظرت لي نظره اخافتني وبلغة تحمل التهديد
” حسك عينك تشتريلي حاجه تاني بفلوسك، وحسك عينك تفتكري انك كبرتي عليا ” ، جئتكِ احمل لك كعكتي وسعادتي مع اول راتب احصل عليه في حياتي، انا لا استحق منك ذلك، ولم اتوقعه منك، وتحولت ابتسامتي الي دموع وعدت الي حجرتي، وهربت تحت الغطاء ابكي، لم اقصد اهانتها ابدا، كنت أريد أن اعبر عن امتناني وحبي لها ولكنها ابدا ماكانت تفهم مشاعري وتستوعبها وماذا يعيب في حمل الكعكه لها، وماذا يعيب في مساهمتي في مصاريف المنزل، اقدر صنيعك ياجدتي فلماذا حرمتيني متعة الحكي عن فرحتي بأول راتب لتشاركيني التفاصيل، كانت لدي الرغبه ان نتناول الكعكه معا وتشاركيني رغبتي في شراء بلوزه جديده من راتبي وأشياء أخرى، اول راتب لم يكن مصدر للبهجه لي ابدا بل كان مصدر للألم.
مي مختار