هوشنك أوسي يكتب المُغادر
في مقهى (Starbucks)، أنتظرُ طائرةً،
تُقلعُ مِن إحدى لوحاتِ خليل عبدالقادر.
سَتقلّني إلى عالمٍ يخلو مِن سُلطانِ الغيب.
عالمٌ؛ الزّمنُ فيهِ درّاجة هوائيّة،
أقودُها على مهلِ الحنين،
في طريقٍ ترابيّة،
تشقُّ حقولَ قمحٍ، متراميةِ الأوجاع.
شرقُها صلاةُ أمُّي، وغربُها ضريحا أبي وأخي.
قمحٌ لا يمرُّ بهِ صيف،
لا مَناجلَ تَحصدُهُ.
قمحٌ يغتابهُ السّحرةُ والمشعوذون،
القَتَلةُ والمنبوذون، وقباطنةُ الطّائرات والسُّفن،
الذين يسكنون قصائدي.
*
كالمشاهدِ الرّومانسيّة البائسة، مِن فيلمٍ قديمٍ بالأبيض والأسود،
أمرُّ مِن تحت شرفتها،
مراهقًا جريحًا، عائدًا من حربٍ ثوريّةٍ جريحةٍ.
بندقيّتي محطّمة، كبريائي محطّم.
قلبي منفضةُ سجائر.
ما عدتُ أراها واقفةً في الشُّرفة،
ترشرشُ سُمسمَ ابتساماتها،
وأرزَّ صدرها على المارَّة.
نافذتها مغلقة، وجراحي مفتوحة،
كفناجين قهوة، تهذي وتثرثر.
رصيدي حتّى الآن؛
رصاصتان في الظّهر،
ثلاثٌ في الصّدر.
رصاصةٌ في الحلق،
أخرى في العين اليسرى.
أمَّا رأسي، فألبوم صورٍ قديمةٍ لبشرٍ،
لا أعرفهم، ولم ألتقِ بهم.
لا يشبهونني، وأشبههم.
*
طويتُ عمرًا صعلوكًا، كجريدةٍ قديمةٍ، فوقَ مقعدٍ في قطار،
تعاقبت على قراءتها صبايا ومتزوّجات،
أراملُ ومطلّقات.
قطارٌ فشلَ في مغادرةِ الحياة، للمرّةِ الألف بعد الألف،
ونجحَ في أن يكونَ بارًا للفارّين مِن أحكامٍ بالإعدام.
لذا، لم يَتبقَّ لي شيءِ؛ سوى الانتهاء مّنِّي.
لم يُبقِ الرّحيلُ مِنّي شيئًا،
سوى عنوانٍ بريدي قديم،
لن يستدلَّ إليهِ أحد.
يؤسفني أنّني تأخَّرت.
يُسعدني أنَّني مُغادر.
ويُسعدني أكثر؛
عدمُ معرفتي الوِجهة، وموعدُ الرّحيل.
*
يُطالبني الألمُ بالمزيدِ مِن النّحتِ في الصّمت.
تعاتبني أسئلتي وكلامي،
على إقفاليَ أبوابَ الطّيشِ والتّهوّرِ خلفي.
تقول: ما تزالُ أمامَكَ الكثيرُ من الحروب،
الكثيرُ من الهزائم، النّزوح، الجراح، والمقابر الجماعيّة،
والقليلُ من الحيوات المحفوفةِ بعطورِ النّساء.
ولم يتبقَّ لديكَ الكثيرُ من الوقتِ
كي تصرفهُ في كتابةِ،
المزيدِ من القصائدِ والرّسائلِ لعشيقاتكَ.
*
يضاعفني التّأمُّلُ أوطانًا واغتراباتٍ،
ويستضعفني الصَّمتُ.
لا أعرفُ؛ لماذا؟
هل تعرفون؟
أنا المهدورُ دمُهُ، المغدورُ،
المنهوبُ خيالهُ، الممهورُ
بختمِ المغضوب عليه،
الميؤسُ منه.
أنا وحي أسئلةٍ قاتلةٍ، وويحها.
طينٌ مجنونٌ، مجبولٌ بعرقِ الثكالى ودمعهنَّ،
تلاعبهُ شياطينُ الشِّعر،
وتتلاعبُ بهِ شياطينُ النّساء.
*
بالكتابة لهُ، أخفِّفُ عنهُ أرقهُ وحزنهُ.
أراهُ شغوفًا بتقليبِ أوراقِ روزناماتِ أعوامِ الطّفولة،
ولا يراني.
يُقلِّمُ أغصانَ الذّكرياتِ، كأنَّه يُقَلِّمُ داليةَ عِنَب.
يضربُ بمعولِ ندمهِ أرضًا،
ورِثَها عن جدِّهِ، ولم يطأها خياله.
أرضٌ؛ رمَّلتها الحربُ، وأفقَرَها الحنينُ،
كامرأةٍ فاتنةٍ، لم تهنأ بعمرها وكنوزها.
قبل مغاردتهِ، قال لي:
هذا شارعٌ فلسطيني؛ أعماهُ الخذلانُ والدّمعُ،
ممنوعٌ التّجوالُ فيه.
وذلك شارعٌ كوردي، دامي الكبد،
ممنوعٌ الفرحُ فيه.
هذا بيتٌ أرمني، نهبَ البرابرة أعمارَ ساكنيهِ.
وذلك بيتٌ يهودي، بلا جدران، يكادُ أن يختنق.
ضلَّلتهُ نجمة داوود، ويكرهُ “أرضَ الميعاد”.
هذا نبيذٌ سرياني، هرَّبهُ رهبانٌ مِن “مديات” إلى “أورشليم”.
وتلك سُبحَةُ الحُسين، انقطعَ خيطُها،
وتناثرَ خرزها مآتمَ ومعابد.
لا تخترْ مِنها، ما يوصيكَ بهِ الحِبرُ.
لا تهجرْ مِنها، ما تُمليهِ عليكَ الحربُ.
لا تسهُ عمَّا سها عنهُ البحرُ،
ونَمْ في قصيدتكَ، نومَ يوسفَ في الجُبّ.
بالكتابةِ لهُ، أخفِّفُ عنهُ أرقهُ وحزنهُ،
ذلك اللّيلُ الذي غَدرَ بي،
بأنْ غادرني، دونَ وداع.
31/10/2023
أوستند – بلجيكا