أ.د ربيع عبد العزيز يكتب الأسرات الشاعرة

في تراثنا العربي أسرات نبغ فيها شعراء عديدون، شكلوا فيما بينهم سلاسل تمتد من جيل إلى آخر. ونستطيع أن نميز من تلك السلاسل ثلاثة أصناف؛ الأول: يضم أسرات اتصل فيها الشعر من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد فصاعدا، والثاني: يضم أسرات اتصل فيها الشعر من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد فحسب، والأخير: يضم أسرات لم يتصل فيها الشعر إلا من الآباء إلى الأبناء أو البنات فحسب.
أما الصنف الأول فإن ابن قتيبة الدينوري(ت. نحو276هـ) يعد من أوائل النقاد؛ الذين لفتوا الأنظار إلى هذا الصنف؛ ففي ترجمته لزهير بن أبي سلمى أخذ يتحدث عن زهير وأبيه وأبنائه وأحفاده وأبناء أحفاده، ثم يعقب بقوله:” فهؤلاء خمسة شعراء في نسق: العوام بن عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى”( ). وهو يؤكد في ثقة كبيرة أن الشعر لم يتصل في أسرة من أسرات العصر الجاهلي كما اتصل في أسرة ربيعة المشهور بأبي سلمى.( )
وفي عدد وأسماء الشعراء والشواعر الذين أنجبتهم أسرة أبي سلمى اختلف النقاد؛ فبينما يقتصر ابن قتيبة على ذكر أسماء خمسة شعراء وهم: زهير وابناه: كعب وبجير، وحفيده: عقبة بن كعب، ثم العوام بن عقبة بن كعب( )، يصل ابن رشيق القيرواني بعدد أسماء شعراء وشواعر تلك الأسرة إلى ثمانية، وهم: أبو سلمى، وابنه زهير، وابنتاه: سلمى والخنساء، وحفيداه: كعب وبجير، وعقبة بن كعب، والعوام بن عقبة بن كعب.((
وإلى جانب أسرة أبي سلمى هناك أسرات أخرى اتصل فيها الشعر من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد فصاعدا؛ منها أسرة حسان ابن ثابت؛ التي انحدر من أصلابها سبعة شعراء وشواعر؛ إذ كان حسان وأبوه وجده وأبو جده شعراء، وكان ابنه: عبد الرحمن شاعرا، وله ابنة شاعرة أشار إليها ابن قتيبة وذكر أبياتا من شعرها، ولكنه لم يذكر اسمها( )، وله حفيد يدعى: سعيد بن عبد الرحمن كان- أيضا- شاعرا.( )
وفي العصر الإسلامي اتصل الشعر في أسرة جرير كما لم يتصل في غيرها من أسرات العصر نفسه( )؛ فقد انحدرت من أصلابها كوكبة من الشعراء؛ الذين شكلوا أكبر سلسلة متصلة في تاريخ الشعر العربي. وكما اختلف النقاد في عدد وأسماء أسرة أبي سلمى، اختلفوا أيضا في عدد وأسماء أسرة جرير؛ فابن قتيبة يؤكد أن لجريرعشرة من الولد، فيهم ثمانية ذكور، كان بلال أفضلهم وأشعرهم( )، غير أنه لم يذكر من الذكور إلا بلالا ونوحا وعكرمة، ولم يذكر من الأحفاد إلا عُمارة بن عقيل بن بلال.( ) أما ابن رشيق القيرواني فقد ذكر أسماء ثمانية ذكور من شعراء تلك الأسرة وهم: جرير وأبوه: عطية، وجده: حذيفة الخَطَفي، وابناه: نوح وبلال، وحفيداه: حَجْنَاء بن نوح وعقيل بن بلال، وأخيرا: عمارة بن عقيل ابن بلال.((
وبإمعان النظر في أسماء من ذكرهم ابن قتيبة وابن رشيق من شعراء أسرة جرير، نلاحظ أن ابن قتيبة فاته أن يذكر ثلاثة من شعراء الأسرة، وهم أبو جرير(عطية)، وجده(الخطفي)، وحفيده(حَجْنَاء بن نوح)، كما فات ابن رشيق أن يذكر عكرمة بن جرير.
ومن إشارة ابن قتيبة إلى أن لجرير عشرة من الولد، فيهم ثمانية ذكور كان بلال أشعرهم، نلاحظ أن هذه الإشارة مفادها أن الذكور الثمانية كانوا- على أقل تقدير- شعراء، فإذا أضفنا إليهم جريرا، وأباه، وجده، وابنه عكرمة، وحفيديه: حَجْنَاء بن نوح، وعقيل بن بلال، وعمارة بن عقيل بن بلال، يصبح عدد الذكور فقط خمسة عشر شاعرا، وهو عدد أظنه لم يتحقق في الأسرات العربية الشاعرة قديما وحديثا.
ومن أسرات العصر العباسي؛ التي اتصل فيها الشعر من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد فصاعدا، أسرة اللاحقيين؛ فقد انحدر من أصلابها أربعة شعر، وهم أَبَان بن عبد الحميد اللاحقي، وأبوه، وجده، وابنه: حمدان، بل كان أكثر أهل ذلك البيت شعراء.( )
أما الصنف الثاني؛ الذي اتصل الشعر في أسراته من الأجداد إلى الآباء ثم الأحفاد؛ فمنه أسرة أبي الشيص؛ إذ كان عبد الله بن رَزِين، وابنه أبو الشيص، وحفيده عبد الله بن أبي الشيص شعراء.( )
وأما الصنف الثالث والأخير؛ الذي اتصل الشعر في أسراته من الآباء إلى الأبناء والبنات؛ فمنه أبو أُناس بن زُنَيم وابنه أَنَس ( )، ومنه لَقيط بن زُرَارة وابنته دَخْنَتُوس.( )
وكان لظهور سلاسل من الشعراء في الأسرات السابقة أثر قوي في حركة المصطلح النقدي؛ فقد تمكن ابن رشيق القيرواني في القرن الخامس الهجري من سك ثلاثة مصطلحات وترسيم حدودها بحيث يطلق المصطلح على أسر أو عدد من الأسرات الشاعر وفق حدود منضبطة، وهذه المصطلحات هي:
أولا: مصطلح المُعْرِقِيْن ويطلقه ابن رشيق على الأسرات التي اتصل فيها الشعر من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد فصاعدا( )؛ كأسرة زهير بن أبي سلمى، وأسرة حسان بن ثابت، وأسرة جرير بن عطية، وأسرة أَبَان اللاحقي.
ثانيا: مصطلح ذوي البيت وقد سكَّهُ ابن رشيق للدلالة على الأسرات التي اتصل فيها الشعر من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد فحسب؛ كأسرة( )؛أسرة أبي الشيص.
ثالثا: مصطلح “الثُّنْيان”( )، وقد سكَّهُ ابن رشيق على الأسرات التي اتصل فيها الشعر من الأب إلى ابنه أو ابنته فحسب؛ كأسرة لَقِيط بن زُرَارة.
وسواء أكان شعراء الأسرات من المُعْرِقِيْن، أم من ذوي البيت، أم من الثُّنْيان، فإن انحدارهم من أصلاب شعراء أثار- ولم يزل- اهتمام المعنيين بالأنساب وعلم النفس والعبقرية وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والهندسة الوراثية، وفرض أسئلة بالغة الإلحاح عما إذا كانت الموهبة الشعرية تورث، وإذا كانت تورث فهل تكفي الوراثة لتفسير عبقرية الشاعر، أم أن الموهبة تحتاج إلى حوافز بيئية، واستعدادات أخرى؟ وهل يمكن للهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي أن يتحكما الآن أو مستقبلا في جينات الأجنة ويتدخلان في مصير الشعر والشعراء؟
منذ القدم انصب اهتمام أغلب الفلاسفة والأدباء والنقاد على البحث عن تفسير للموهبة بوصفها النواة الأولى للعبقرية، غير أن العنصر الوراثي لم يكن له في بحوثهم كبير نصيب، وربما يرجع ذلك إلى أن تعاقب سلاسل متصلة من الشعراء المنحدرين من أصلاب شعراء لم يكن بالأمر الملموس الذي يلفت أنظار أوائل الرواد؛ من أمثال بندار وأرسطو. كما أن الأدب الإغريقي المبكر ساد فيه الاعتقاد بأن ربات الفنون هي التي تلهم الشاعر، وأن المقدرة الشعرية براعة تأتي من الآلهة، ولا يمكن أن تُعَلَّمَ.( ) وحين يتأخر ظهور سلاسل الشعراء المنحدرين من أصلاب شعراء، ويسود الاعتقاد بأن ربات الفنون هي التي تلهم الشاعر، يصبح من المبكر جدا أن يفكر أوائل الرواد من أدباء ونقاد الإغريق واليونان والعرب في أثر العناصر الوراثية في الموهبة الشعرية.
بل لقد أنكر أفلاطون أن يكون الشاعر كائنا موهوبا، ونظر إلى الشعر بوصفه نوعا من الهوس، وإلى الشعراء بوصفهم مجموعة من المجانين( ). وحاول جهده تقويض دور الشعراء( )، وشدد على ضرورة إقصائهم من جمهوريته. ومادام أفلاطون ينظر إلى الشعر والشعراء هذه النظرة فمن الطبعي ألا يعير العناصر الورائية أي اهتمام.
وخلافا لأفلاطون نظر أرسطو إلى الشعر بوصفه عمل رجل موهوب بالفطرة، أكثر من كونه عمل رجل مجنون؛ فالموهوبون قابلون للتكيف، بينما المجانين غائبو العقول( )، لكن أرسطو اكتفى بالإشارة إلى الموهبة، ولم يعط تأثير العناصر الوراثية في موهبة الشاعر ما تستحق من اهتمام. وهو موقف نقدر بواعثه وعلى رأسها أن العديد من الشعراء العباقرة لم ينحدروا من أصلاب شعراء.
وأما في تراثنا العربي فقد ذاعت فكرة أن لكل شاعر فحل شيطانا يوحي إليه الشعر( ) ، ويذلل له أعصى القوافي. وهي فكرة شبيهة بفكرة ربات الفنون التي شاعت في الأدب الإغريقي واليوناني؛ فكان لامريء القيس شيطان يدعى لافظ بن لاحظ، وللأعشى شيطان يدعى مسحل. وظل شعراء العرب من امريء القيس في العصر الجاهلي حتى بشار بن برد(96هـ: 168هـ) يعتقدون أن لكل منهم شيطانا، بل لقد كان الراجز الأموي أبو النجم العجلي يباهي بانفراده بكون شيطانه ذكرا، في حين أن شياطين غيره من الشعراء كانوا إناثا؛ مما يضفي على أشعاره قوة لا مثيل لها في شعر الشعراء الذين كانت شياطينهم إناثا؛ يقول:( )
إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
وبدلا من أن ينظر جرير إلى اتصال الشعر في أسرته على نحو لا نظير له في غيرها من أسرات العصر الإسلامي، تشاغل بالحديث عن شعره بوصفه رقى الشياطين، وبأن شيطانه كان له راقيا:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راقيا
وهكذا استقر في وعي الشعراء أن أشعارهم من وحي شياطينهم، وبدا أن الحرص على تأكيد اتصال الشاعر بقوى غيبية، وأن ارتباط الشياطين في الذاكرة العربية بالأعاجيب وكل ما هو مذهل ومخيف، كان إشباعا لجانب من الحاجات النفسية للشعراء، وكل هذا كان كافيا لكي يصرف الشعراء الذين اتصل الشعر في أسراتهم-بصفة خاصة- عن النظر في مصدر النواة الأولى لمواهبهم، وعن التفكير فيما إذا كان للعناصر الوراثية أثرها في تكوين مواهبهم، وعن التغني بكونهم شعراء من أصلاب شعراء.
ومن اللافت أن أوائل النقاد؛ من أمثال أبي عمرو بن العلاء وتلميذه الأصمعي، اهتموا كثيرا بأنساب الشعراء والمختارات والدواوين والقصائد والشواهد، ولم يهتموا بأثر الأنساب في اتصال الشعر في أسرة زهير وأسرة حسان وأسرة جرير، وكأن أبا عمرو والأصمعي مقتنعان بأن الشعر وحي شياطين، وما دام لكل شاعر شيطانه فليس هناك داع للتفكير فيما إذا كان هناك فرق بين مواهب الشعراء المنحدرين من أصلاب شعراء، ومواهب المنحدرين من أصلاب غير الشعراء. وظل الأمر كذلك حتى انقضى القرن الثاني الهجري دون أن يلتفت ناقد إلى اتصال الشعر في بعض الأسرات العربية.
نعم؛ لقد عرفت البشرية، في تاريخها الطويل، آلاف الشعراء المنحدرين من أصلاب غير الشعراء، وعرفت العرب مبكرا ثلاثة شعراء لأب واحد لم يكن شاعرا، وهم: الشماخ بن ضرار الذبياني، وأخواه: مُزَرِّدٌ وجَزْءٌ ( )؛ وكل ذلك يؤكد أن الموهبة الشعرية لا تورث، ولكن الحقيقة التي لا مفر من مواجهتها هي أنه لا يمكن أن يكون من قبيل الصدفة أن تنفرد أسرة زهير وأسرة حسان وأسرة جرير وأسرة أبان اللاحقي بإنجاب سلاسل من الشعراء تمتد من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد وأبناء الأحفاد فصاعدا. ولا يمكن- أيضا- أن يتصل الشعر بمحض الصدفة في أبي الشيص، وأبيه، وابنه.
نعم؛ قد ينجب الشاعر شاعرا أو شاعرة بمحض الصدفة، أما أن تنجب أسرة زهير ثمانية من الشعراء والشواعر، وأن تنجب أسرة حسان سبعة من الشعراء والشواعر، وأن تنجب أسرة جرير خمسة عشر شاعرا، فذلك مما لا يمكن أن يكون محض صدفة، ولابد أن يكون للعناصر الوراثية أثرها في اتصال تلك السلاسل. ألم تقل العرب قديما إن العرق دساس.؟ بلى، ولكن هذا القول تنوسي أمام اتصال الشعر، في أكثر من أسرة عربية، من الأجداد إلى الآباء والأحفاد وأبناء الأحفاد فصاعدا!
والذي لا شك فيه أن الجنين حين يتخلق في بطن أمه يحمل بعض الجينات الوراثية لقرابته الأدنين: آباء كانوا أو أعماما أو أخوالا؛ فإذا كان في قرابته الأدنين شاعرا أو شاعرة فلا غرابة في أن يولد حاملا موهبة الشعر. وقد توصلت الدراسات النفسية الحديثة إلى أن العناصر الوراثية لها أثرها في الموهبة الشعرية، ولكن هذه الدراسات نظرت إلى العناصر الوراثية بوصفها مجرد بداية، أو هي كأعواد الثقاب لحظة اشتعالها( )؛ فكما أن العود المشتعل لن يلبث أن ينطفيء إذا لم يجد على مقربة منه موادا قابلة للاشتعال، كذلك لا تلبث العناصر الوراثية؛ التي يولد بها الموهوب، أن تذبل وتنطفيء إذا لم تجد في البيئة القريبة منها موادا قابلة للاشتعال.
لقد تجاوز الزمن أفكار أفلاطون المعادية للشعر والشعراء، وأصبحت فكرة ربات الفنون وشياطين الشعراء مجرد ذكرى، وأصبح في حكم المؤكد أن الجينات الوراثية هي النواة الأولى للمواهب الشعرية التي اتصلت في أسرات زهير وحسان وجرير وأبان اللاحقي وأبي الشيص، وأن البيئات التي ينشأ فيها الموهوبون المنحدرون من أصلاب شعراء هي الأم الرءوم التي تتولى تربية مواهبهم وإنضاجها وإمدادها بالخبرات.
والخبرات التي يكتسبها الموهوبون من أبناء الأسرات الشاعرة، تختلف من بيئة إلى أخرى؛ فالبيئة التي نشأ فيها كعب بن زهير غير البيئة التي نشأ فيها أبان اللاحقي؛ أما كعب فقد نشأ في بيئة تغلب الفصاحة على ألسنة أهلها، وتتردد فيها قصائد زهير وبشامة بن الغدير وأوس بن حجر وهم من كبار فحول الشعراء وقتذاك. وأما أبان فقد نشأ في بيئة من الموالي، وعاش في البصرة وهي وقتذاك تحتضن العديد من الموالي؛ الذين لم تكن العربية لغتهم الأم. ولو نشأ أبان في بيئة كعب، ونشأ كعب في بيئة أبان، لكان رجحان كفة أبان في موازين النقد احتمالا قويًّا.
كذلك تختلف الخبرات التي يكتسبها الموهوبون من أسراتهم باختلاف المراحل العمرية لكل موهوب؛ ففي مرحلة الصبا يتم تأهيل الموهبة بما يتردد على مسامع الموهوب من قصائد أقربائه الأدنين: الآباء والأعمام والأخوال وأزواج الأمهات، وتُقصُ عليه أخبار وأمثال سائرة. وفي مرحلة تالية يُطلب إليه أن يحفظ ويروي قصائد أقربائه، فإذا بلغ مرحلة الشباب، وتمكن من الحفظ والرواية، يُكلف بالنظم على غرار الأبيات التي تلقى على مسامعه أو يحفظها في نفس وزنها وقافيتها، فيما اصطلح على تسميته الإجازة. وعلى هذا النحو مضى زهير في تربية مواهب كعب وبجير والحطيئة.
ولقد تتوفر الموهبة، ويتوفر الإطار الشعري الذي يحتضن الموهوب، ولكن الموهوب إذا لم يكن مهيئا للتفاعل مع إطاره وبيئته، قادرا على هضم محفوظه، راغبا في التغريد بصوته الشعري الخاص، فسوف تقل جدوى الموهبة وجدوى الإطار الذي يحضن الموهوب.
وإذا اتخذنا زهيرا عينة نختبر في ضوئها مبدأ التهيؤ للتفاعل بين الموهوب وإطاره الشعري من جهة، ومدى تهيؤه لهضم محفوظه وتغريده بصوته الخاص من جهة أخرى، نجده نشأ في كنف خاله: بشامة بن الغدير فتفاعل مع شعره حفظا ورواية، كما تفاعل مع أشعار زوج أمه: أوس بن حجر( )، فعكف عليها حفظا ورواية، ثم عمد إلى توسعة إطاره الشعري فحفظ أشعار طفيل الغنوي.( )
كذلك كان زهير قادرا على هضم محفوظه من أشعار بشامة وأوس وطفيل، مؤهلا للتغريد بصوته الشعري الخاص؛ يؤكد هذا أنه تمرس بطريقة أستاذيه: أوس وطفيل الغنوي في وصف الوحش والصيد، ولكنه اختط لنفسه طريقة خاصة في وصف الوحش والصيد؛ بحيث أصبح معدودا في الطليعة من شعراء الجاهلية في هذا الباب؛ إذ كان له من دقة الخيال ما ساعده على تجسيم الصور وتمثيل الحيوان بكل ما يتصل به من منظر وهيئة وحركة؛ كقوله يصف بقر الوحش والظباء:
بها العِيْنُ والآرامُ يمشين خِلْفَةً وأطلاؤُها ينهضن من كل مَجْثِمِ
ففي بيت واحد يعرض علينا إقفار دار المحبوبة إلا من العِين/ بقر الوحش، والآرام/الظباء خالصة البياض، والأطلاء/ ولد البقرة والظبية الناهضة من مرابضها، في منظر يجمع بين اللون والحركة، بحيث نتمثل هذه الحيوانات وهي تمشي في جهات متضادة، و أبناؤها تنتثر هنا وهناك.( )
وعُرِفَ زهير بكونه مصورا بارعا، يصور موصوفاته بما فيها من الهيئات الجسدية والأحوال النفسية، وكأنما كانت له عين كبيرة تعرف كيف تلتقط قسمات الجسد، وكيف تنفذ إلى سرائر النفس، لا نفس الإنسان فحسب بل- أيضا- أنفس الحيوان وما يلم بها جميعا من وساوس وهواجس.( )
كما انفرد بمعان لم يسبقه إليها شاعر؛ كقوله: ( )
هو الجواد الذي يعطيك نائله عَفْوًا ويُظْلَمُ أحيانًا فينْظَلِمُ
ومما انفرد به-أيضا- قوله: ( )
فإن الحق مقْطَعُهُ ثلاثٌ يمينٌ أو نِفَارٌ أو جِلاءُ
وبرغم أن زهيرا كان تلميذا لأوس بن حجر فإن تهيؤه لهضم محفوظه الشعري والتغريد بصوته الخاص جعله ينافس أَوْسًا في جدارة الالتحاق بالطبقة الأولى من فحول شعراء الجاهلية، ليضع محمد بن سلام الجمحي في حرج نقدي عند تَخَيُّرِه فحول شعراء الطبقة الأولى؛ إذ اضطرار إلى تأخير أوس- وليس زهيرا- إلى الطبقة الثانية من فحول شعراء الجاهلية برغم إقراره بأن أَوْسًا كان نظير الشعراء الأربعة الذين تألفت منهم الطبقة الأولى من فحول الجاهلية؛ نعنى امرأ القيس وزهير والأعشى ونابغة بني ذبيان.( )
وإذا كان زهير تمكن من تحقيق التفاعل المثمر بين موهبته وإطاره الشعري، ومن هَضْمِ محفوظه الشعري والتهيؤ للتغريد بصوته الخاص ومنافسة أستاذه أوس في اعتلاء الطبقة الأولى من فحول الجاهلية، بل التقدم على خاله بشامة وطفيل الغنوي في طبقات الفحول أيضا، فإن لشعراء الأسرات حظوظا متفاوتة مما تهيأ لزهير، بل إن شعراء الأسرة الواحدة تتفاوت حظوظهم من القدرة على تحقيق ما تحقق لزهير؛ فالتفاوت كبير بين حسان وغيره من شعراء أسرته؛ فهو أقدرهم على التفاعل مع إطاره الشعري، وأكثرهم حرصا على تطوير موهبته وإثبات جدارته بالتفوق والشهرة؛ بدليل كثرة نتاجه الشعري وجودته وتعدد أغراضه. أما أبوه وجده وابنته وحفيده فإن حظوظهم مما حقق حسان كانت قليلة؛ بدليل قِلَّة أشعارهم إلى حد أنه يندر أن نجد لهم قصائد أو شواهد شعرية في مصنفات النقاد والبلاغيين وأصحاب المختارات الشعرية. وبينما طبقت شهرة حسان الآفاق العربية خَمُلَ ذكر أبيه وجده وابنته وحفيده.
وما مُنيَ به جد حسان وأبوه وابنته وحفيده من خمول الذكر- برغم توفر الموهبة والإطار الشعري- مُنيَ به عديدون من الشعراء والشواعر المنحدرين من أصلاب شعراء؛ فقد خلت كتب الطبقات والتراجم والمختارات من أشعار سلمى والخنساء أختي زهير، وأشعار عكرمة بن جرير، وحجناء بن نوح بن جرير، ودختنوس ابنة لقيط بن زُرَارة، وعبد الله بن أبي الشيص، وأنس بن أبي أناس.
بل لقد أنجبت أسرة زهير ثمانية من الشعراء والشواعر ولم يرق منهم إلى مرتبة الفحول إلا زهير وابنه كعب. وأنجبت أسرة جرير خمسة عشر شاعرا ولم يرق منهم إلى مستوى الفحول إلا جرير. وأنجبت أسرة اللاحقيين أكثر من أربعة شعراء ليس منهم شاعر معدود بين الفحول.
واللافت أن الأسرات الشاعرة أنجبت شاعرين تبوأ كلاهما الطبقة الأرفع بين فحول شعراء عصره؛ الأول: زهير الذي تبوأ الطبقة الأولى من فحول الجاهلية، والآخر: جرير الذي تبوأ الطبقة الأولى من فحول شعراء الإسلام.
صحيح أن في طبقة زهير ثلاثة شعراء يشاركونه الفحولة وهم: امرؤ القيس والنابغة الذبياني والأعشى، لم ينحدر أحدهم من أصلاب شعراء كما انحدر زهير، ولم يتصل الشعر في أسراتهم كما اتصل في أسرة زهير. وصحيح أن في طبقة جرير ثلاثة من الفحول: الفرزدق والأخطل والراعي النميري، لم ينحدر أحدهم من أصلاب شعراء كما انحدر جرير، ولم يتصل الشعر في أسراتهم كما اتصل في أسرة جرير. وصحيح أنه باستثناء زهير وكعب وحسان وجرير فإن الفحول؛ الذين ترجم لهم ابن سلام الجمحي في كتابه طبقات فحول الشعراء، لم ينحدروا من أصلاب شعراء، ولم يتصل الشعر في أسراتهم، ولكن هناك أكثر من ثمانين شاعرا منهم لم يتمكنوا من ارتقاء الطبقة الأولى التي ارتقاها شاعران منحدران من صلب شاعرين: زهير وجرير!
وإلى الأسرات الشاعرة يرجع الفضل في ظهور أول مدرسة شعرية في تاريخ الأدب العربي، وهي المدرسة التي امتدت لأكثر من قرن من الزمان؛ إذ بدأت من أوس بن حجر وبشامة بن الغدير وزهير في العصر الجاهلي، واستمرت حتى وفاة كُثَيِّر عام(105هـ). وذائع أن زهيرا كان راوية خاله: بشامة وزوج أمه: أوس( )، وعن زهير أخذ ابناه: كعب وبُجَيْر. كما كان الحطيئة تلميذ زهير وراوية شعره، وعن الحطيئة روى جميل، وعن جميل روى كُثَيِّر. وفي شعر تلك المدرسة مجال خصب لدراسات تستفيد بمعطيات علم النفس، وعلم الاجتماع الأدبي، والإحصائية الأسلوبية، في البحث عن أوجه التشابه والاختلاف بين شعرائها.
ومن الآثار السلبية؛ التي أفرزتها وحدة النشأة عند شعراء الأسرات، أن من أشعارهم ما يلتبس نسبه على النقاد؛ فما ينسبه ناقد إلى زهير ينسبه ناقد آخر إلى كعب بن زهير؛ فمن ذلك أن البيت التالي:
ولأنت أشجع من أسامة إذ دُعٍيَ النزالُ ولُجَّ في الذُّعْرِ
ينسبه ابن قتيبة إلى زهير( ) ، وينسبه ابن رشيق إلى أوس بن حجر؛ متعللا بأن زهيرا كان يتوكأ على أوس في كثير من شعره.( )
ومن ذلك أن ابن قتيبة توقف بإزاء البيتين التاليين:
وليــس لمـن لــم يركـب الهَــوْلَ بُغْيَـة وليـس لرَحْـل حطَّـهُ اللهُ حـامـِلُ
إذا أنت لـم تُعْرِضْ عـن الجهـل والخَنَا أصبتَ حلِيمًـا أو أصابك جـاهـلُ
ولم يستطع ابن قتيبة أن يقطع بنسبة البيتين إلى زهير وحده، ولا إلى كعب وحده.( ) وما يقال عن اضطراب نسبة بعض الأشعار بين زهير وأوس، أو بين زهير وابنه كعب، يقال-أيضا- عن اضطراب نسبة بعض الأشعار إلى حسان وابنه عبد الرحمن.
وأما الهندسـة الوراثية فلن تستطيع أن تتحكم في الأجنة المنحدرة من أصلاب شعراء أو شواعر. نعم يمكنها أن تتحكم في لون عيني الجنين وشَعْرِه، أما أن تتحكم في ملكاته ومواهبه فذلك أمر مستبعد الآن أو مستقبلا.
ومهما يكن من أمر فإن تفاعل زهير مع إطاره الشعري، وحرصه على أن يحفظ ويروي أشعار بشامة وأوس وطفيل الغنوي، وعلى إنضاج الموهبة الشعرية لتلاميذه: كعب وبجير والحطيئة، يعكس بواكير وعي نقدي بأن الموهوب يحتاج إلى إطار شعري يحتضن موهبته، وإلى مادة شعرية يحفظها ويرويها ويمرن على تقليدها وهضمها هضما جيدا حتى لا تستعبد موهبته، وهذا بخلاف ما ذهب إليه الناقد الفرنسي هيبوليت تين من أن الفن بعكس العلم لا يحتاج إلى تراث ثقافي لأنه يخاطب الحواس والقلب.( ) كما أن الأسرات الشاعرة لم تنقرض في راهن عصرنا وإن كانت حالات تكاد تكون نادرة؛ كأسرة عبد الله الأنور فواز في سوهاج؛ فقد كان الأب شاعرا، وامتد الشعر في أبنائه وبناته: فولاذ عبد الله الأنور، ومشهور عبد الله الأنور، وأوفى عبد الله الأنور، والسماح عبد الله الأنور، وعزيمة عبد الله الأنور.
أ.د ربيع عبد العزيز أستاذ النقد الأدبي كلية دار العلوم – جامعة الفيوم