في مجموعتها القصصية الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” في عمّان تحت عنوان “أضاعوني” تعيد الكاتبة الكبيرة والمؤرخة الدكتورة هند أبو الشعر رصف الحكايات، وترتيب الحنين إلى الماضي على رفوف الزمن، مشعلة فينا الحنين إلى أزمان مضت.
الكاتبة أبو الشعر التي تمتلك مهارات الإبداع والتجلّي أخذتنا في هذه المجموعة إلى محطات مهمة من تاريخنا الذي ضاع في مفاصل الزمن ولم يعد من يهتم به أو يلتقط حكاياته، فقدمت من خلال هذه المجموعة قصص خفيفة الظل تعيد توثيق علاقتنا بما مضى، أو كنا نعتقد أنه مضى، فمنذ أبو فراس الحمداني في قصة “أضاعوني” مرورا بالجد الذي حمل على ظهره كل الآلام والخيبات في قصة “البيت”، وصولا إلى “حوار.. حوار.. وحوار” وهي تفتح الجروح الغائرة وتعيد كيّها، تارة من أجل الشفاء من داء الحنين، وتارة من أجل الخوف من استشراء الداء، في استباق لما هو قادم.
المجموعة القصصية التي اشتملت على العديد من القصص هي: أضاعوني، البيت، التوقف عن العدّ!، الحيطان لها أذان، الفتات، زيوس يا كبير الآلهة!، ضباب.. محض ضباب!، العيون الباهتة، قطط.. قطط، لا.. لا.. لا!، الجائحة، طلب صداقة. والتي انطلقت بـ “أضاعوني”، تكشف عن وعي كبير يحمله المؤرخ الذي يتقيّد بقواعد الكتابة التاريخية وصرامة البحث لكنه لا يخلو من موقف منحاز أحيانا لا يمتلك إظهاره في البحث التاريخي، لكنه سرعان ما يظهر ويتجلّى بوضوع عند الانفلات من قواعد الكتابة الصارمة والذهاب إلى الأدب الذي يحرر الكاتب من كل القيود.
مجموعة “أضاعوني” القصصية هي رأي وموقف وحضور واثق في الحياة لكاتبة أنجزت العشرات من الأبحاث التاريخية الصارمة، ورغم أنها تكتب ضمن معاييير الكتابة التاريخية إلا ان القارئ يشتم رائحة موقفها الثقافي الانجز ورؤيتها للأشياء من خلال الكتابة التاريخية رغم الالتزام بقواعد البحث العلمي.
صرخ أبو فراس الحمداني في وجوهنا، توقفنا، كنا نحمل سيوفنا بأغمادها، ونرفع المشاعل، تردّد صوته في الكون كله، كانت جدران قلعة حلب عالية تصل إلى السماء ونحن نحتمي بها، تجمهرنا في القاعة الكبيرة، كنا نتشاور في أمر تسليم القلعة بأصوات مهزومة، والليل يجتاح الفضاء ويسدّ الطرقات، صمتنا كلنا بوجوه مخذولة، وصرخ فينا من جديد:
- أضاعوني!
كان صوته يتردد في أعلى جدران القلعة، لم نقل شيئا، فقط تحركت أقدام البعض نحو الخلف قليلا، وبأيدينا تتراقص حركات المشاعل، وتنعكس على الجدران مثل فرسان مشلولة الأطراف، دفَعَنا الفتى، خرج من بيننا مثل سهم مجنون، كان أطول من نخلة، وأصلب من رمح، اندفع نحوه وصاح بصوت هزّ صمتنا الخائف:
- أضعتَ نفسك أيها العمّ.. وأضعتنا معك!
كعادتها تعيد نفخ الحياة في الحكاية التاريخية لتغدو متماهية مع حالتنا وترسم فيها لوحة تعبّر عن موقفها.
وترى الباحثة نوارة جاسم الفواعرة في دراسة لها عن القصة القصيرة عند هند أبو الشعر أنها تحيزت بشكل ملحوظ إلى المرأة، فجعلت شخصياتها الرئيسة شخصيات أنثوية، تحمل الحدث و تعرضه على المتلقي، و لكن تحيزها كان تحيزا مبررا عند الباحثة إذ أن القاصة تطالب بأنصاف المرأة، و تخفيف وطأة الظلم الثنائي الذي تتعرض له، بكونها إنسان بالدرجة الأولى، و بكونها أنثى بالدرجة الثانية. وأنها بنَت قصصها على جمالية الربط بين الثنائيات الضدية، فقد كان هناك تذبذب ملحوظ ما بين استرجاع الماضي و الحاضر، وبين سوداوية الحياة وإشراقة الأمل، والموت والحياة، والغنى والفقر، والغياب والحضور. وأنها ابتعدت في مجموعاتها عن النمطية والتقليد للقصة العربية، واتجهت نحو أساليب الحداثة و التجديد.
ومن الجدير ذكره أن هند أبو الشعر كاتبة وأكاديمية ومؤرخة أردنية، تكتب القصة القصيرة، والنصوص، والمقالات الصحفية، والدراسات التاريخية. أستاذة جامعية، شاركت في العديد من المؤتمرات والندوات التاريخية والأدبية في الأردن والبلاد العربية، وأشرفت على العديد من الرسائل الجامعية وشاركت في عشرات المناقشات لرسائل الماجستير والدكتوراة في الجامعات الأردنية والعربية. لها 86 كتابا منشورا بين القصص والدراسات التاريخية والكتب الوثائقية، حصلت على وسام الملك عبدالله الثاني ابن الحسين للتميز والإبداع عام 2016 م، حصلت على جائزة الدولة التقديرية عام 2021 م عن مجمل أعمالها في حقل العلوم الاجتماعية وتاريخ الأردن.