أخبار عاجلةدراسات ومقالات

جمال عبد العظيم يكتب الشعر بين التماهي الروحي والتسامي الكوني في قربان لا تأكله النار لمنال رضوان

يعكس ديوان الشاعرة منال رضوان ” قربان لا تأكله النار” – خصوصية تجربتها في كيفية تلقِّي فيض مشاعرها المتناقضة ، وفي ضبط إحداثية رؤيتها لمرائي عالمها الشعري؛ فانتهجت بشاعريتها سَمْتاً مغايراً في تحديد ملامح هذا العالم ، لتنجح في بلورة تلك التجربة في شكل نصّ شعري جدير بالتأمُّل والمتعة ، فلا عجب أن نرى ديوان الشاعرة وقد انتظمته ظاهرتان :
أولاً : التماهي الروحي…
تقول في قصيدة ( المقعد الشاغر لي ص5) :
(حاولتُ تأويل رؤيايَ الغائمة ، كفّكَ التي اغترفت أوجاعي ذات صباح , مابالها تؤنس اغترابي الآن أكثر؟ )
ها هي الشاعرة تُأوِّل رؤياها كفّ المحبوب -أنيساً لها في اغترابها؛ إذ انتشلتها من عالم الأوجاع.
وتخبره في قصيدة (عصيان ص16 ) بأن مشاعرها حياله – تتجاوز مقام الحب الأرضي ، بل غدت حالة تماهً روحي أرقى في قولها :
( لستُ أحبّك ، وإنما وُلِدْتُ معك من ماء وروح، لو شِئتَ قل: إنما خُلِقْتُ من أجلك).
وتقول في قصيدة (ماذا لو؟ ص40) :
(ها أنا بين يديك , ماذا لو نخترق حدود اللمس؟ هل تمطرني غيمة سماواتك؟) ؛
لتؤكِّد حالة انتشائها روحياً ، بعد أن غادرت تخوم الحس الكثيف ؛ ترقُّباً لفيض روحي مماثل منه.
ثانياً : التسامي الكوني ..
والظاهرة الثانية ما هي سوى ردّة فعل لما بدا لها من حالة الخواء الحِسّي التي يتردّى فيها ذلك المحبوب، حال إحساس الشاعرة بالتماهي في عالمه ، إذ بدا عاجزا وجدانيا عن إدراك هذا المقام الروحي الفريد ! فما كان منها إلا عافت عالمه المتصحِّر فكراً وحسّاً ؛ لذا ! آثرت أن تتسامي كونياً بمنأى عنه ؛ لتسفر قصائدها بجلاء عن البَوْن الشاسع بين عالمين : الأول للشاعرة – وهو عالم سحريّ أخّاذ ، والآخرللمحبوب- وهوعالم سطحيّ خاوٍ .
وتلك سمة تكاد تكون غير مألوفة في شعر المرأة لدينا ، فقد يتوقّف حدود الخيال الشعري لدى بعضهنّ – إن لم يكن أكثرهنّ – عند جهامة الآخر نحوها ؛ لأنه لا يبجّل مثاليتها الشعورية إزاءه!


تقول الشاعرة في قصيدة (بوليميا ص63) :
(هاك أوراق دفترك القديم، تنتصب السطور كنصال تتأهّب، لوخزة مقامرة نزقة، لكنك فجأة ! تتقيأ لغوك العفوي, تغلق دائرتك و..ألم تفقد شراهتك ؟ حسنا ! فلتكتبْ.)
وهنا تفصح الشاعرة عمّا عليه الرجل من غفلة كونية عن منابع الجمال في الحياة ! إنه مصاب – كما يشي النصّ- بما يسمى بـالـ” بوليميا ” ، وهي في القصيدة ليست الشَّرَه الشديد للطعام – بل حالة شَرَهٍ من نوع غريب : إذ تنعى إليه بؤسه الروحي والجمالي ! فالشراهة هنا- متمثِّلة في إجهازه على لحظات الحياة ، وما بها من قيمة جوهرية للزمن ؛ لأنه أذهبها فيما لا ينبئ عن ذاتيته ووجوده .
ثم تثور منال رضوان على خرافة التضحية من أجل الحبيب ، من خلال تمردها على أسطورة العشق في قصة “جولييت ” الفتاة التي أودت بحياتها فور موت حبيبها روميو، فهي ترى ضرورة نبذ بلاهة هذه الأعراف غير الصالحة لبقاء حميمية هذه العاطفة ونُبْلها , تقول ص 24-25 :
( ترقد جولييت بحوافّها المشطوفة , مستسلمة منذ زفاف أمي ،
بداخل قبر زجاجي , فأنا ارتدت الحب بفعل الإرث, والآن ..
حان وقت تغيير الأعراف , قلب الموازين).
وفي الرسالة الخامسة “سيلفيا ” من قصيدة ( رسائل الاعتذار الأخيرص70) ، تقول :
( تلك التي تتأمّل وريقةً صفراء , بينما تهمّ برتق حروفها ثم … , ها قد توقّفت عن وخز أوراقها).
نجد الشاعرة تستشهد بالمصير المؤسف الذي انتهت إليه الكاتبة الأمريكية ( سيليفيا بلاث 1932م -1963م) ، بعد أن تشبّثت بوصية أمها بأن تحرص على الفضيلة ؛ غير أنها صُعِقت بغدر الزوج ؛ فلاذت بالانتحار !
وشاعرتنا- بهذا الاستشهاد الذي يدور في نفس الفلك- تصرّ على أنه لا جدوى من الحرص على تقاليد بالية ، هي عِلّة اغتراب الإنسان.

الأديبة منال رضوان
الأديبة منال رضوان

وفي قصيدة (تانجو ص5) – ترقى شاعرتنا إلى عالم الموسيقى المفعم بالمشاعر الصافية البعيدة عن زيف لغة البشر المعهودة ، إنها موسيقى مصحوبة برقصات التانجو التي توحي برقة الحسّ ، تقول:
( تشابكا , رقصا على وميض النجوم , فكان نورا إلى المنتهى ، لا ليل ينبت على حافة عشق).

ومن قصيدة ( ثمة أحزان صغيرة ولا شيء ص60) وفي مقطع بعنوان ” جلجثة ” تقول :
(مزدحمة طريقي إليك بالكلمات, الآلام كنقوش من أحمر قانٍ, تئنّ كتفي ، كفك تعتصرني إلى حدّ الثمالة , ولا خمر لديّ ،متسربلة بالشَّوْك أشير إليكَ ، وبنصف لعنة أُسَاقُ إلى جلجثة).
و” الجلجثة ” مكان خارج القدس القديمة ، سيق إليه المسيح عليه السلام ليصلب- فمنال رضوان تستلهم روح المكان ؛ لتنبئ ذلك الآخر الذي لم يأبه بما أهدته إياه من سخاء روحي ومدى لا نهائي من النبل الحسّي – بينما كان كلّ ذلك بمنأى عن نطاق مدركاته ؛ فقد كان يسبح في أحلامه الأرضية ، ويغطّ نوماً في تفاصيل المادّة.
وفي نهاية المطاف – نرى الشاعرة منال رضوان ذات روح مُتْرَعة بحبّ الحياة ، وهي تمتاز بالرهافة والعناد في آن واحد :
فالرهافة سمة فطرية في حواسّها كمبدعة ، بل جزء أصيل من شاعريتها . أما العناد – فهو نزعة شعورية تباغت بها لا مبالاة الآخر وعدم الاستجابة لسخائها الروحي ! فالعناد لديها ردّة فعل تعويضية لما تراه من خواء حسّي عمدي لدى الإنسان ؛ تحقيقاً لوئامها المعنوي والجمالي مع العالَم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
– بقلم / جمال الدين عبد العظيم
– (ماجستير في النقد الأدبي)- مصر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أوبرا مصر – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى