إنَّ الواقع الرومانسي الذي كان يحياهُ الشَّاعر( مهدي مساعد الناصري ) ألقى بظلالِه على إنتاجه الأدبي , وكان ذلك في مرحلة الخمسينيَّات والستينيَّات ، أي المدة التي شهِدت نُضوج الشاعر مهدي مساعد شعريَّاً , ويَلحظ قارئ شعر الشاعر أنَّ أغلب قصائده إنَّما هي قصائد حبٍّ تتأرجحُ بين التَّوق إلى امتلاك الحبيبة والظفر بها والتوسُّل إليها ، وبين الحزن والخوف والبكاء الناتج عن فقدانها ، أي أنَّ لغة الشِّعر في تلك الحقبة شهدت ظهور ألفاظ العشق والحبٍّ وما ينتج عنه من عواطف نتيجة الفقدان والأسى والبكاء والفرح فضلاً عن ألفاظ البيئة ؛ لذلك فإنَّ الشَّاعر الرومانسي مهدي مساعد غالباً ما نراه يوحِّدُ بين المرأة وذات الشاعر ,فعرض الذات والعاطفة الجياشة ومسحة الكآبة والتشاؤم والالتجاء إلى الحبيبة ومشاركتها كلها موضوعات عرفها الشعر المهجري وهي موضوعات رومانسية قديمة ,ونلمح ظهور مثل تلك الألفاظ في قصائدهِ إبَّان حقبة الخمسينيَّات والستينيَّات مثل ” أحيا , قلب , خفقان , الحان , خميلة, قسوة, جراح , منير , والمتأمِّل في قصيدة (انتظركم ) الغزلية يجد أنَّ الشَّاعر يُقيم خطاباً بينه ,وبين نفسه من باب نجوى الذات ، ولكن عن طريق خطابِ شخصٍ آخر مُجسِّداً حالةً من الانصهار الروحي بينه ,وبين الحبيبة ، فنراه يقول :
ما تجون أبقه انتظركم
عيوني أربيه الدربكم
أمنيه أتراود شعوري
البخت بلكت يردكم
روحي تعبها صبرها
ما نست لحظه سفركم
والله من يوم المشيتوا
بدلت كلشي أباسمكم
كلها منكم
توجَّهت ذاتُ الشَّاعر ( مهدي مساعد ) إلى الحبيبة بألفاظٍ رقيقةٍ وعذبةٍ تشوبها العاطفة الدافئة في انسيابيةٍ واضحةٍ تُجسِّد مرادَ الشَّاعر الذي جعلَ الهوى يجسد سلطةً عاطفيَّةً مؤثرةً عليه, إذ يصدِرُ خطابَهُ العاطفي إلى حبيبتهِ بألفاظٍ وعباراتٍ تعكسُ ما يختلجُ في نفس الشَّاعر من تباريحَ هوى العاشقين ووله ذواتهم إلى ما يُحبِّبُ نفوسهم , ويُقرِّبها من الآخَر الغزلي بغض النَّظر عمَّا إذا كان حقيقياً أم مخترعاً فالمرأة المحبوبة تتحد مع الذات في خطابٍ عاطفي يصور رغبات الأنا الحقيقية ومتخيلاتها في اللاوعي, الذي يفترض شكلاً من أشكال هذا الآخر ولكن هذه الأنا المفترضة ليست خيالية , بل معبِّرة عن متخيلات اللاوعي, لذا فإنَّ الشَّاعر مهدي مساعد لا يقوى على الرحيل وترك حبيبتِهِ بل يستمر في التودُّد إليها وكسب رضاها ووَلَهُ الشاعر بمحبوبتِهِ قادهُ إلى التَّعبير عنها بمظاهر الصَّد والاشتياق الذي تكلَّلَ بالوصف الحِسِّي لطبيعة تلك العلاقة ، ولكن مع عدم الانحراف عن الغزل الروحي إلى التغزل بمادياتٍ رخيصةٍ يمجُّها العقل , فالشَّاعر يجعل الطريق بينه وبين الآخر “المرأة” موصَداً، ولا سبيل يخرج الشاعر من معاناتِهِ وانغلاقه على ذاتِهِ إلَّا أن يمارس انفتاحه على الآخَر الغزلي الذي يكمل له ما استلبَ منهُ وكان سبباً في عزلته فالوعي الشعري لا يمكن أن يوجد إلَّا في الآخر بأن يعيش انفتاحه عليه ؛ لأنَّ هذا الانفتاح سبيله الوحيد لكي يمارس ذاته وفعاليته . إنَّ الآخر” المرأة ” يُمثِّل مشروعاً لهذه الممارسة لأنَّه مليء بالممكنات,فنراه يقول :
يأكل بروحي هجركم
عاتبت ليل السوالف
دورت وسئلت عنكم
ولا خبر منكم أجاني
ولاحلم يحجيلي عنكم
وماتت الفرحة بجفاكم
دمعة بعيوني شلتكم
سولة المحتار صفنه
جرح بجروحي أحسكم
ويلجأ الشاعر ( مهدي ساعد ) بعد ذلك إلى إحاطة حبيبته بمظاهر الاستعلاء والإعراض والهجر في سبيل كسب ودِّ الآخَر الذي يتغزَّل به ، يقابله تنازلُ ذاتِ الشَّاعر عن كل تلك الأشياء وإبدال مكابدة الحياة وتعاستها التي تحياها تلك الذات الحالمة بنظرة ودٍّ من شأنها أن تعيد كلَّ شيء إلى مكانِهِ الطبيعي, وتستمر الذات المتغزِّلة في تغليب تصورها للعالم العاطفي الذي تحياه, وذلك من خلال استمرار الشاعر في حشد الصور العاطفيَّة التي تُفصِحُ عن ذاته الوالهة لرؤية الحبيبة فنراه يقول:
أمنيه مو شرط تحصل
ينجمع شملي وشملكم
انتظركم بلكي يكعد
حظي ويسير جدمكم
باقي طول الشعر ذاك
ونظره العين وجهكم
ماهجر لحظه خيالي
إنَّ الشَّاعر مهدي مساعد المُحِبُّ هنا كان قد استعان بامرأةٍ لها وجودٌها الواقعيٌّ ، وليؤكِّد فكرتَهُ هذه يلجأ إلى توظيف المرأة الحبيبة وهي إحدى الوسائل التي يستحضرها الشَّاعر ليُعبِّر من خلالها عن الحب الأفلاطوني المفقود ؛ لإبراز صورة الحبيبة العالقة في ذهنهِ , لذلك كانت المرأة هي الصُّورة والحُلم والواقع الذي يركن إليها الشاعر في الحقيقة والخيال لتملأ عليه وجودُهُ , إذ إنَّنا أمام شاعر يتجشَّم كافة الصعوبات ويذللها في سبيل لقيا من يعتقد فيها صفات الحبيبة ، فيعمد إلى خلق مساحةٍ من التَّوافق الوجودي بينه وبين الآخر ؛ لتعويض الحرمان العاطفي الذي ترك أثرهُ في نفسهِ ، والذي تَجسَّدَ بمحبوبته الغائبة ,وحضورها معه سراباً أفلاطونياً، إذ تؤدِّي المرأةُ بفعل الحبِّ دوراً فاعلاً في الحياة من خلال ثنائيَّة الحضور والغياب، فحضورها في الحياة يملؤها عاطفةً وبهجةً , في حين يُثير غيابها أجواء الخواء والحرمان , فنراه يقول :
كلبي ما ينسه رسمكم
ومن تجون افتح أديه
بشوك مغرم حيل أشمكم
والغزلُ العذري هو استجابة روحية تجذَّرت في ذات الشَّاعر مهدي مساعد ، وإنَّ أول الشُّعور بالانجذاب نحو الآخَر يكون نتيجة تفتُّح الذات العاشقة على غيرها وعلى العالم؛ لذلك نجِدُ الشَّاعر لا يدِّخر جهداً في سبيل وصال محبوبتهِ والظفر بها والبوح بعاطفته لها , ونار الشوق هذه هي النار المتأجِّجة دوماً , لا تستكين ولا تهدأ , بل إنَّها تضطرم حتى في اللقاء فتُشير إلى صدق الحب وتفرُّدِه ,وتتوجَّه الذاتُ إلى الحبيبة بخطابٍ يستبطن معاني الألم ، واللوعة ، والرغبة في عدم الافتراق والتزام الشاعر الصمت ، إلَّا أنَّ عواطفَه جسَّدت ما يدور في مخيَّلته شعراً متخذةً بذلك من حبِّهِ الزائد للآخَر وسيلةً للكشف عن حالتِهِ النَّفسية ,وعن موقفِهِ الانفعالي.
هنا يظهر لنا الشَّاعر مهدي مساعد ألفاظٍ غزليَّةٍ تعبر عن الغزل الروحي ,والعفيف لتنقادَ إلى التَّغزل بحبه الصادق للمرأة الحبيبة الملهمة لشعره , التي تُبيح للمتلقِّي وضعَها تحت عنوان الغزل العذري , فالشاعرُ قد اختزن المرأةَ في ذاكرتهِ فهي تمتلك مخيلتهِ , وتعيش معه في أحلامهِ , الأمر الذي يعكس احتشاد النَّص وازدحامهِ بالصُّور الحية من خلال الألفاظ الدالَّة على الشكوى والألم , مثل شاكيا , الهمتني ,سرا , طيف , كذلك الألفاظ التي تدلَّ على حركة الزمن وتقلبهِ من الزمن الماضي إلى الزمن المضارع وهذا يدلُّ على تموُّج الذات وعدم استقراريتها وإبرازها بوصفها وسيلةً يستعين بها الشَّاعر على أداء المضمون الشِّعري المختمر في عقلِهِ. إذ يُشكِّل الحبُّ وجوداً حركياً في حياة الإنسان فهو يصنع المعجزات وله القدرة على مساعدة الإنسان في أن يتعرَّف على وجودهِ من خلال اعتراف الآخر به , فضلاً عن كونه الحقيقةَ الكبرى التي تُعطي الحياةَ البشرية جانباً غير قليل من قيمتها , وما ينتج عن ذلك الحب من خروج المحب من تمركُزهِ الذاتي ، وسعيهِ جاهداً في سبيل إعطاء الأولوية أو الصدارة للآخَر,وتبدو المرأةُ في حياة الشاعر مهدي مساعد حبيبةً ومعشوقةً , يجِدُ فيها صفات المرأة التي تملؤ عينَهُ وقلبَهُ , والتي كلَّما زادَ تحديقاً بها ظهرت عليها معانٍ جديدةٌ تخلع عليها سمةَ الحداثة والجمال:
تتوجَّهُ ذات الشَّاعر مهدي مساعد إلى الآخَر العذري بكمٍّ هائلٍ من المشاعر الوجدانية الممتلئة بالحركة والحيوية والانفعال , فقد عمدت إلى تصوير المرأة الحبيبة في كلِّ ما يحيط بالمشهد عموماً جسَّدتها مجموعةٌ من الأفعال في انعطاف بالدلالة التي يُثيرها التَّخيُّل والتَّأمُّل والانشغال بتلك الصور المرئيَّة التي تدل على تأثُّر الشاعر وانفعاله بمشاهداتٍ حيَّةٍ تعمُّق من تجربتهِ , وتُؤثِّر فيه فكريَّاً وعاطفيَّاً , وتُهيِّئُ السُبُلَ لميلاد القصيدة فهي ,في جميع أحوالها تأخذ بكيان الشاعر وعواطفه ومشاعرهِ ، فهي تُؤثِّر في الشاعر فكراً وخيالاً وحِسَّاً ، فتُثير في نفسِهِ أفكاراً تُشكِّل الموضوعَ الذي تدور حوله القصيدة فتُفجِّر في نفسِهِ ملكةَ الخيال والموسيقى , وتُنشِئ لها لغةً خاصةً في ألفاظها وتعابيرها .
ومنتهى القول أنَّ الخطاب الغزلي يصدرُ من ذاتٍ رومانسيةٍ محافظة حيناً ، وتوَّاقةً للخروج من بيئتها الملتزمة أحياناً أخرى , فالحِسُّ الرومانسي يُحلِّق بعيداً في فضاءات الذَّات الشَّاعرة سعياً منها إلى الارتواء العاطفي , مع وَلَه الذات وتحملها ارتدادات الصدِّ والهجران من قبل الآخَر الغزلي الحقيقي..