الأديبة فاطمة البسريني تكتب قصة قصيرة (ليس هناك وقت)
إذا كنت أريد أن أنام ، فببساطة لأنها اللحظات الوحيدة التي أستطيع فيها أن أطفئ أفكاري المتأججة ، وأجعل الوقت يمر دون أن أعيشه وأتحمله .
أشعر أن وقتي يضيع مني ، الوقت يخيفني كثيرا ، في بعض الأحيان أحس أنه يبتلعني ، وفي بعض الأحيان الأخرى فإنه يفر من بين أصابعي كالماء .
إنني أحس بفزع كبير من الوقت ، وبأنني سجينته التي يراقبها ، وبأنه أقوى مني ، يملي علي أفعالي ، وحركاتي وسكناتي ، يعطيني الأوامر دون رحمة ، لا أستطيع أن أتحكم فيه ، أحتاجه كثيرا ، أريده أن يبقى ، أن يذهب ، وفي بعض الأحيان أن يتوقف .
أخشى ألا يكون هناك وقت ، أو القليل منه ، أو ألا يكون نهائيا .
أخشى دائما أنه ليس لدي الوقت للأشياء التي تملأ دماغي ، كل الأشياء التي تأتي بسرعة ، والتي إن لم أسرع فكل شيء سيذهب سدى ويروح مني ، إنني دائما أجري وراء الوقت، إنه دائما يسبقني .
لابد أن أقوم بكل شيء مطلوب مني في الوقت المحدد ، لا يهم كيف ؟ قد أبكي ، قد أسقط ، قد أتعثر ، لكن يجب أن أحترم عقارب الساعة التي لا تدور أبدا إلى الخلف ، من الواجب علي أن أقوم بكل التزاماتي في وقتها ، أن أكون في الموعد ، وألا أتأخر أبدا ، سباق دائم فاشل ، أحس أن هذا الوقت اللعين دائم السخرية مني ، فكلما خفت منه كلما تأخرت أكثر ، أو توقفت نهائيا .
لا وقت أبدا لأفكر في نفسي ، بل أين هي نفسي ؟ هل أخذها الوقت مني؟.
أنا واعية تماما أن الزمن أو الوقت هو قيد في يدي وفي رجلي ، أخاف أن أتحرك ضده ، فيخونني ، بل أنا أشعر بالرعب ، أنظر إليه يجري ، ويجري ، فلا أستطيع الإمساك به .
ـــ أسرعي .. إننا في يناير .. والوقت سيمر …
إنه أمر جنوني ، فها هو الوقت يمر بسرعة البرق منذ شهر ماي الماضي بطرطقة أصابع ، وكل شيء مازال على حاله ، كل طموحاتي مكتوبة تنتظر ، وقد مر الوقت في غفلة مني .
لا … لا ، إنني لست قادرة ، إن الوقت يبتلع كل شيء حولي وأنا لا أشعر بنفسي وسط دوامته .
أريد أن أقول لكل ذلك توقف ، للأشياء التي تدور حولي ، توقفي ..أريد أن أجد نفسي بين طياتك ؟
أريد أن أقول للوقت توقف ، أنا لا أخافك ، يجب أن أجد نفسي ، أن أشيخ معها ، أريد أن أتحكم بنفسي فيك ، يكفي … يكفي …
لكن هل يتوقف الوقت ؟
تقول لي وقد أصابتك الحيرة :
ــ ابدئي حياتك من جديد ..
ــ الحياة لا نعيدها من جديد .. لا يمكن … بل مستحيل ، إننا نستمر فقط ولأنني أخشى الوقت ,خاصة الذي يمضي منه ، فأنا أتعامل مع الوقت في المستقبل ، هذا المستقبل الذي يتحول بدوره إلى ماضي وعلى التو لا أكون لا في الماضي ولا في المستقبل ، أنظر إلى الحاضر يمر بسرعة لا أتحملها .
الوقت في هذه الآونة الأخيرة أضحى العملة التي نتعامل بها ، ليس هناك وقت … ليس لدي وقت ..
لقد تمت هندستنا وراثيا ليعيش الوقت فينا أو نعيش فيه ، فهو عملة صعبة ، ذات وجهين ..
حياتنا أصبحت منوطة بين كسب الوقت وكيفية قضائه ، والركض لتداركه ، المشكل الحقيقي أننا لا نعرف كم من الوقت أعطي لنا لنعيشه ومتى سينتهي أمرنا لو نفذ منا .
من يتسنى لهم عيش سنوات عمرهم هم الأغنياء ، فهم لا يضطرون إلى الركض وراء الزمن ووراء لقمة العيش .
أنا مجبرة على وضع برامج تلو الأخرى لأتمكن من الاستيقاظ صباحا وفي متناولي الوقت الكافي لكل الأشغال وإنهائها دون تأخير ،حتى يمر يومي بخير .
في هذا الصباح ، نهضت وأنا لا أعرف كم أملك من الوقت لأقضي كل المصالح المتوجبة علي دون هفوات ، ودون تأخير او اضطراب ..
لا أعرف كم سيلزمني للتوجه إلى البنك ولآداء فواتير الماء والكهرباء ، والأنترنيت ، وهل سأتمكن من القيام بعملي المكتبي في الوقت المحدد ، وكم من الوقت يلزمني للأكل .. وهل بعد أن أعتني بأختي المريضة وأقوم عنها بكل التزامات العيش ومن تمكينها من تناول غذائها، هل سيتبقى لي وقت لتلك الطفلة التي تنتظر زيارتي لها بمستشفى السرطان؟
..والتي ستموت بين لحظة وأخرى من هذا الزمن اللعين … لكنها لن تموت إلا في الوقت المحدد لذلك ، ويجب أن تقتات من وقتي بين الحين والآخر لمواجهة مرضها المميت ، علما أن الموت عدو للوقت ، فهو يغافله على الدوام ويتحايل عليه ، فلا أحد يعرف متى سيموت وينتهي بذلك وقته .
ـــ الكثيرون يقتلهم الوقت ــ تقول ــ أمام أعين الجميع ـ.
ـ نعم ـ أنا أول المخلوقات التي يقتلها ويدمرها الوقت …
أعطيت من عمري الكثير ، بل كله تقريبا … رغم تحذيرات كثيرة ممن يعرفونني ، بأنني أخسر وقتي ، وأخسر بالمقابل حياتي ..
ـــ إنهم سيقتلونك وهم يأخذون من وقتك ..
ــ كيف ؟ ومن هؤلاء ؟
ــ أنت تعرفين .. ولكنك متهورة بكل شيء .. ستندمين لأنك لا تستغلين وقتك لنفسك … يوما ما ستدركين أن العمر قصير جدا وستندمين …
ـــ من قال أنني أريد وقتا …وماذا أفعل به ؟.
انظري مازلت في ريعان الشباب .. أنت لا تعرفين أنه لا وقت خاص بي، محكومة أنا بعيش زمن الآخرين ، لقد تسللوا منذ ولدت إلى زمني واستعمروه ، أرهقوني بوقتهم الذي ينفي وقتي فأقضيه في تلبية طلباتهم وقضاء حاجياتهم ، لقد نسيت زمني وعمري الحقيقي ..
ـــ أنا في أمس الحاجة الآن إلى الموت ، فهو منقذي الوحيد من الوقت.
إنني أشعر أنني عشت لقرون خلت من الوقت ، طبعا وقت الناس الآخرين ، ولم أعش وقتي ، هدرت سنين كثيرة من عمري وأنا الآن في مرحلة الشيخوخة ، عجوزا لا تعرف ماذا تفعل بنفسها لكنني مازلت أعيش ومازال هناك وقت لأعيشه فماذا عساي أن أفعل ؟
ما أتعس الخلق عندما يسلب منه زمنه وحياته ، أه إنني أتمنى الموت ..
فأنا أدور في فراغ ، مثل ريشة في مهب الزمن ،
طالما نصحني الآخرون بتدارك الزمن والركض ، لكنني تخليت عن ذلك من زمان بعيد ، فما الفائدة والنهاية قريبة مني جدا ..
ففي حدود الستين من عمري الحقيقي لم أعد أركض ، أتمنى لو استطعت أن أعطي أحدهم ما تبقى من زمني .
قد انتهى وقت من أحبهم وذهبوا وبقيت أنا ، وبكيت لأنني لم أستطع أن أمنحهم ولو دقيقة من وقتي بعد ..ومازلت هنا ..
أتعرفين أنني منذ البداية وأنا أعيش في انتظار أن تحين ساعتي ، لكنني لم أعش ولو لحظات من عمري الحقيقي ..
فكيف تشعرون أنتم يامن عشتم عمركم ووقتكم ؟ وربما أخذتم من وقت الآخرين … أخبروني ؟
ــ اصمتي ، أظنك لا تعرفين أن هناك من يحسدك على حياتك التي لم تعيشيها ، رغم أن ذلك شيء محير فعلا ..
ــ طبعا ، لأنهم لا يرون روحي ، بل ينظرون إلي من الخارج فقط ، فأنا أبدو وكأنني في الثلاثين من العمر ..
ــــ أراك دائما فيلسوفة تستمتعين بالتناقضات …
ــ الأمر ليس كما تظنين ، أريد فقط يوما واحدا لي .. أريد يوما واحدا فقط … نستطيع أن نفعل الكثير في يوم واحد .