أخبار عاجلةدراسات ومقالات

سليم النجار يكتب “وجوه من التاريخ”

رواية أولاد الناس (ثلاثية المماليك) للروائية "ريم بسيوني" دار نهضة مصر - مصر- ٢٠١٨

إنّ الرواية لا تمنحنا الحنين إلى مرحلة من مراحل التاريخ -وهو حنين مبتذل- بقدر ما تمنحنا الحنين إلى التعبير عن هذه المراحل. إنّ الرواية تقدِّم لنا صوراً كان علينا تخيّلها خلال “الرغبة الدفينة” إنّ الصورة بهذا المعنى، تولِّد شعوراً لدى المتلقي أنّه يمارس حرفة حفر بسيط على الخشب، تدعونا إلى التخيّل مرّة أخرى. إنّها تعود إلينا مناطق من الوجود، بيوتاً يتمركز فيها الوجود الإنساني، ويتكوّن خلال هذا، لدينا انطباع بأنّنا حين نعيش في صور كهذه، في صور باعثة على التساؤل، فإنّنا نصبح قادرين على بدء قراءة جديدة، قراءة هي ملكنا، تنتمي إلينا في أعمق أعماقنا.
هذا التساؤل الذي يدفعنا إلى القول لماذا؟
إذا انتقلنا من هذه الصور وهي كلّها ضوء وتوهُّج، إلى تلك الصوَر التي ترغمنا على تذكّر تاريخ ماضينا الأكثر بعداً، عنها نعرف تساؤل لماذا، كما فعلت الروائية ريم بسيوني في روايتها “أولاد ناس” عندها علينا أنْ نتعلّم درساً من الرواية هو أنّ الحكايا التي فقدناها إلى الأبد، أو على الأقل نتصوّرها كذلك، هي في حقيقة الأمر تظلّ حيّة في داخلنا وهي تلِّح علينا لأنّها تعاود الحياة وكأنّها تتوّقع منّا أنْ نمنحها تكملة لما ينقصها من حياة.
اللافت في رواية “أولاد ناس” أنّ العنوان مستوحى من وقائعَ وأحداثٍ، وما يحتويه العنوان من معانٍ مكثفة يدور داخل النسيج الحكائي السردي، كما أنّ هناك تواصلاً فلسفياً تاريخياً بين العنوان ودلالات النصّ، خاصّة إذا كانت هذه الدلالات نفسها تسمح لرؤية الكاتبة ريم بسيوني ونسق تفكيرها ومتخليّها في التعبير عن واقع تاريخي سياسي محدّد: “المماليك”، وبأحداث مختلطة، والعالم الروائي؛ تمّثل قدرة العنوان عند الروائية ريم على أنّها شكلت من هذا العنوان – ليس مدخلاً للنص فقط، بل اشتبكت مع المكان أيضا- “القاهرة”، أيّ الفضاء الذي دارت فيه التفاصيل والصراعات المتعدِّدة للشخصيات الروائية، مع التركيز بشكل اختفائي، قد يبدو مبالغ فيه لعادات وتقاليد المماليك للمتلقي، ومن جهة ثانية تمّ من خلال توجيه المتلقّي لطرح الأسئلة والبحث عن أصول المماليك، هذا بالمعنى الظاهري، كمدخل لمعرفة المعنى الباطني. بعد أنْ جعلت من عتبة العنوان “أولاد ناس”، عتبةً أساسية وكان هذا بمثابة الطعم الذي يقود المتلقي صوب جهة تأويليَّة مرسومة له سلفاً.
فعلى سبيل المثال سنقف عند أبرز ملامح تشكيلها السردي وأوّلها ما نطلق عليه التمثيل السردي للدلالة، حيث تتمثّل الدلالات الاجتماعية في بنى السرد ومعمار النص.


فعلى مستوى الشخصيات الروائية تبرز دلالات “الخوف” و”الوعي المبتور” و”الظلم”، وتلك الدلالات تتمثّل على الشكل الآتي “عندما يتعدّى العامة على الجنود ماذا يحدث؟”، فكلّ دلالة تمثِّل لافتة وعنوانًا وحياة “هذه وصيتي الأخيرة. انشري الرواية، واذهبي إلى المسجد وابحثي عن الاسم في أركانه، موجود، كالمدينة التي تبتلع وتصهر وتبدع وتُبعث كل يوم ص٨”.
ونجد العزلة على مستوى العلاقات الإنسانية في أبشع صورها “دفع بها إلى السرير، واغمضت عينها، وتجمد جسدها وكأنه انفصل عن روحها انفصالاً تامًّا، وأصبح جثة لا تشعر ولا تعترض ص٢٥”.
هذه الصور الروائية تدور في حلقة مفرغة، لا تؤدّي لخلاص أو انفصال زماني أو مكاني “كتب عبدالكريم خطبة ثالثة يدعو فيها لأمراء المماليك ويشيد بجهادهم خارج البلاد، وأمجاده، والتضحية بالروح والعمر في سبيل ردّ الصلبيين والمغول ص١٨”.
إنّنا أمام مشهد سينمائي استهلالي بارع رصدت الكاتبة صورها الروائية من خلال علبة التاريخ، تحمل تاريخ القاهرة وشيئا من تاريخ العرب إبّان حكم المماليك.
صحيح أنّ الرواية سرد تصويري، رمزي بالضرورة، لتأريخ التاريخ الماضي، وذلك من خلال وجهة نظر لا تفارق قلم الكاتبة ريم في تشكيل الأحداث التاريخية كخيال له القدرة على تخليق علاقات جديدة بين الأحداث، أو تخلق شخصياتٍ وأحداثا ووقائعَ قد لا يكون لها صلة بالواقع، وتبع الخيال في صنع الأحداث مستلهمة من رحم التاريخ رؤى مبتكرة على صعيد اللغة، والتي تتجاوز التاريخ الاجتماعي في النصّ، فاللغة هنا جسر للحاضر وللمستقبل للمتلقي؛ كما هي عملية تواصل مع التاريخ، فالمتلقي يشعر أنّه أمام ووقائعَ يعيشها، كقيمة معمارية اجتماعية سياسية، تتجدّد على مختلف العصور، سواء على صعيد الشكل أو المضمون.
أدركت الكاتبة ماهيّة “لعبة المكان” من بين سطور الرواية، عن طريق كونها لعبة الأساس، أي أنّ الحياة في مفهومها الدرامي بروايتها ستكون بالتالي “لعبة” أيضا، ومنها عادت إلى تحقيق التوازن من جديد عن طريق خلق علاقة إشكالية بين الحياة والموت، “الوباء عبث بالقاهرة كما عبث المغول ببغداد، فلم يترك بيتًا بلا حزن، ولا شارعًا بلا نعوش، لا حفرة بلا جثث ص١٤٢”.
ثم بدخولها اللعبة وتناولها جرعة كبيرة من التساؤل، تعترف بكلّ شيء، فتنشأ المفارقات على مستويات عدّة في السرد. كما ترسم الفضاءات الروائية بإشارة السؤال بين كلّ جملة وأخرى، “أتساءل دائمًا: ماذا يحدث لأولاد الناس في هذه المدينة ص١٥٢”. ومثلما طغى “هامش” من الأحداث على مركزيَّة “الرواية” لمحاولة تحقيق عنصر كوميديا، التنقل بين الماضي والحاضر، طغى أيضاً “هامش” شخصيَّة على مركزية الدراما الروائية، حيث تعدّ شخصيَّة “حفيدة الدكتور صلاح” كعابرة للتاريخ والتي التزمت هامشها الفضائي الروائي، بلا تأثير واضح داخل بنية النص، وإذا تمّ الاستغناء عنها لم يختل النصّ بشيء، لكن ذلك لا ينفي أنّها أضافت لمسة إنسانية محببة، “قرأت حفيدة الدكتور صلاح الرواية، لم تزلْ تقضي يوم السبت داخل مسجد السلطان حسن فتستمع إلى الابتهالات وتصلي في أحد أركانه ص١٦٢”.
رغم وعي الكاتبة بفضائي المركز والهامش وأثرهما القوي على الأحداث. إلاّ أنّها أسّست فضاءً مكانيا بكامل أدواته، حيث يعدّ بعد ذلك المكان بمثابة مكان عابر لا يحتمل أنْ يُصمَّم له فضاء كامل بل مشهد اجتماعي، يميل أكثر إلى ماهيَّة الفضاءات الهامشيَّة التي تؤثر في النص، “قال بلا: تفكير بل أقيمه على كلّ أولاد الناس! وقفوا مع يلبغا ومنطاش وخانوا لا أمل فيهم، أولاد المماليك ص٢٢٨”.
ومثلما طغى “هامش” من الأحداث على مركزيّة “الصورة” الروائية لمحاولة تحقيق عنصر كوميديا، طغى أيضاً “هامش” شخصيَّة المكان على مركزيَّة النص، “القاهرة ليس بها ضباع تطرد الأرواح الشريرة ص٢٧١”.
لم تكن الكتابة النصيَّة في رواية “أولاد ناس” خارج سياق التاريخ، بقدر ما كانت دافعة له وموجودة فيها بشكل رئيس، فهي التي عبرها تمّ خلق مشروعيَّة جمالية البناء الدرامي، فالكتابة النصيَّة هي التي كانت ماسكة للوثائق والحبكة التي بها تمّ شدُّ مفاصل النصّ؛ لهذا جاء النصّ في الرواية مبنياً على المونولوج بالأساس. وهذا نابع من كون البنية التي تأسّست عليها الحكاية في رواية “أولاد ناس” قد جاءت لخدمة المكان، “القاهرة استسلمت لنا في يوم أو بعض يوم يا أبا البركات ص٣٧٥”. وهذا عائد إلى النسيج الدرامي الذي يميِّز الرواية، التي كانت محبوكة ومحاكة بعناية شديدة، فكلّ المشاهد الروائية تنزل علينا بوصفها ضربا من التحقيق للتاريخ، “في التاريخ يكمن الأمان، فلا فجيعة تفزع بعد قراءته ولا انتصار يدعو للفخر ص٤٤٧”.
رواية “أولاد ناس” تدفعنا لاكتشاف كلّ تناقضات التاريخ الاجتماعي لحياة شخصيات الرواية، لذلك لا يمكن أنْ نقبض على شخصيَّة مركزية ومحوريَّة. وهذا يعني أنّنا أمام رواية تمثِّل شخصياته دون استثناء القلب النابض لعمليتَيْ السرد والعرض.

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى