أخبار عاجلةدراسات ومقالات

أ.د ربيع عبد العزيز يكتب نفسية المتنبي

  دكتور / ربيع عبد العزيز

أستاذ النقد الأدبي – كلية دار العلوم – الفيوم

 

  في باب آداب الشاعر من كتاب العمدة يلفتنا ابن رشيق القيرواني إلى ما ينبغي على الشاعر أن يتحلى به من الخلال؛ كحلاوة الشمائل، وطلاقة الوجه، وشرف النفس، ولطافة الحس، ونظافة البزة، وسماحة اليد، وكونه مأمون الجانب؛ فإن شاعرا يتحلى بمثل هذه الخلال لخليق بأن يكون محبوبا عند الناس، قريبا من قلوبهم، مهابا من عامتهم، معدودا في جملة خاصتهم.(1)

     والمتنبي من الشعراء الذين تجتمع فيهم هذه الخلال ونقائضها؛ ذلك أن له من شرف النفس والأنفة والهيبة من العامة حظًّا كبيرا ، كما كان معدودا من الخاصة؛ يدلك على شرف نفسه أنه شرط على سيف الدولة أن يلقي قصائده في مجلسه قاعدا، وألا يُقَبِّلَ الأرض بين يديه(2)، بخلاف ما جرت به عادة الشعراء من تقبيل أرض الممدوح وإلقاء المدائح وهم وقوف بين يديه. 

     ومن أنفة المتنبي أنه كان ذات يوم يساجل ابن خالويه في مجلس سيف الدولة، فأخذ يفند رأيه، ويظهر خطأه ويبين له وجه الصواب، فلما اغتاظ منه ابن خالويه قذفه بمفتاح من حديد كان في يده، ولكن سيف الدولة لم يبد امتعاضا من صنيع ابن خالويه مع شاعره الأثير بحيث بدا في عيني المتنبي وكأنه يتشفى فيه، فلم يكن من المتنبي إلا مغادرة حلب؛ انتصارا لكرامته وأنفة من ذل الرضا بالبقاء في مجلس يهان فيه.

     أما ما في المتنبي من خلال تناقض ما عدده ابن رشيق؛ فمنها أنه لم يكن رجلا مأمون الجانب؛ ذلك أنه لازم سيف الدولة زهاء ثمان سنوات أغدق عليه خلالها بروائع من قصائده السيفيات، وكان سيف الدولة يعطيه في كل عام ثلاثة آلاف دينار؛ فلما غادر حلب مغاضبا سيف الدولة لم يجد أدنى غضاضة في أن يُشَهِّرَ به؛ سالبا إياه فضيلة الكرم وصون عرض الجار، ملصقا به نقيصة المن بالعطايا:(3)

              رأيتكم لا يصون العِرْضَ جارُكُمُ     ولا يُـدَرُّ عـلـى مرعـاكــم اللــبنُ

              جــــزاءُ كــلِّ قرِيــب منكُــمُ مَـلَلٌ     وحـظُّ كــلِّ مُحِـبِّ منكُـمُ ضَغَــنُ

              وتغضبـون علـى من نـال رفـدكمُ     حتى يعـاقـبَــهُ التنغيـصُ والمِـنَنُ

إن المتنبي يخادعنا عن نفسه بمثل هذا الهجاء. نعم لقد كان مثخنا بالجراح، مهزوما في صديقه سيف الدولة، ولكن لماذا لم يكتشف نقائص سيف الدولة بعد مضي عام أو عامين من حلوله بمجلسه؟ أو بالأحرى: لماذا لم يكتشف هذه النقائص إلا بعد مضي ثمانية أعوام وأكثر قليلا من إقامته في حلب! أم تراه كان عارفا بها ولكن حرصه على ملازمة سيف الدولة، وإيثاره لما ينال من عطاياه حالا دون رؤية نقائصه! هذه الأسئلة تظهرنا على جانب من نفسية المتنبي.

     كذلك لم يكن المتنبي سمح اليد، بل كان بخيلا على كثرة أمواله. وهناك شهادات عن بخله في يتيمة الدهر والصبح المنبي وذكرى أبي الطيب بعد ألف عام؛ قال الثعالبي: ” سمعت الخوارزمي يقول: كان أبو الطيب المتنبي قاعدا تحت قول الشاعر:(4)

                  وإن أحق الناس بالبخل شاعر     يلوم على البخلِ الرجالَ ويبخلُ 

     وإذا صح ما ورد عن بخله من أخبار فهذا يتناقض مع ذمه البخل والبخلاء بمثل قوله:(5)

             ومن ينفق الساعات في جمع ماله     مخافـة الفقـر فـالذي فعـل الفقـر

     حقا لم يولد المتنبي بخيلا بفطرته، وأن بخله وثيق الصلة بما تركته في نفسه سنوات الفقر في صباه، من آثار لم يبرأ منها حتى بعد أن أثرى وأصبح يرتحل من مكان إلى آخر في قافلة مملوءة بالإبل والجياد والأغنام والرعاة فضلا عن الحراس والأسلحة والكتب، غير أن هذا الثراء لو صادف نفسا راضية، محبة للخير، واثقة من أن الله هو الرزاق، لكان هذا أدعى إلى أن تخليها عن البخل وتحليها بالكرم؛ وعندئذ يصبح فعل المتنبي متسقا مع اعتقاده بأن من يتكالب على جمع المال مخافة الفقر فإن تكالبه  ليس إلا الفقر بعينه.

     وطبقا للشاعر الناقد ابن رشيق القيرواني لا يجوز للشاعر أن يكون معجبا بنفسه، مثنيا على شعره وإن كان جيدا في ذاته، حسنَا عند سامعه(6). وحقا كان للمتنبي حظ موفور من جياد القصائد ومن الشهرة الواسعة التي تبعث على الإعجاب، ولكن كان الأحرى به أن يدع النقاد والشعراء يثنون على جياد قصائده، وأن يتواضع كي يكون ألوفا، محبوبا عند الناس، غير أن إعجابه بنفسه، وكثرة زهوه بشعره، وتهميشه لمعاصريه من الشعراء؛ كل أولئك ضاعف من خصومه، وكل أولئك آثر عنده من حب الناس؛ أما دلائل إعجابه بنفسه فمنه قوله:(7)

                   إن أكُنْ مُعْجَبًا فَعُجْبُ عجيبِ     لم يجـد فـوق نفسـه من مَـزِيـدِ

     وهو لا يجد حرجا في أن يضفي على نفسه خيرية لا مثيل لها في أحد من أهل زمانه؛ يقول قبيل مغادرة حلب:(8)

                 سيعلم الجمع ممن ضم مجلسُنَا     بأنني خير من تسعى به قَــدَمُ

     وأما زهوه بشعره فمن دلائله قوله في إحدى سيفياته:(9)

                 أنا السابق الهادي إلى ما أقوله     إذ القـولُ قبْـلَ القائلين مقــولُ

     ومنه قوله في إحدى سيفياته أيضا:(10)

                 أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي      وأسمعت كلماتي من به صمم

     ولقد كان لإعجابه المفرط بنفسه وشعره أثر واضح في تعبيره الشعري؛ يتجلى هذا في إكثاره من الضمير أنا في العديد من قصائده؛ فمن ذلك قوله:(11)

           ما أبعد العيب والنقصان من شرفي      أنا الثريا وذان الشيب والهَرَمِ

     ومنه قوله:(12)

                   ومـا أنـا إلا سَمْهَرِيٌّ حملتَهُ      فزَيَّنَ معرُوضا وراعَ مُسَدَّدا

     وكذلك قوله:(13)

                   أنا ترب الندى ورب القوافي     وسمام العدى وغيظ الحسود

     بل إن عاطفة الإعجاب بنفسه وشعره تبعثه على الإسراف في تكرار الضمير أنا مع غيره من الألفاظ الدالة على هذه العاطفة؛ كما في قوله:(14)

              أنا ابنُ اللِّقَــــاء، أنا ابنُ السَّخـــاءِ     أنا ابن الضِّرَابِ، أنا ابن الطِّعَان

              أنا ابن الفيــافي ، أنا ابن القـوافي     أنا ابنُ السُّـرُوج أنا ابن الرِّعــان

              طـويلُ النِّجــاد ، طــويـل العِمــادِ     طويـلُ القنــــاةِ طـويـلُ السِّنـــان

فقد كرر الضمير أنا مضافا إلى الدال ابن ثماني مرات موزعة بالتساوي على بيتين، وكرر لفظ طويل أربع مرات موزعة بالتساوي على مصراعي البيت الثالث؛ وليس هذا سوى دليل على أننا أمام  ذات متعالية، يفعمها الحس بتضخم الأنا.

     ويتلازم مع تضخم الأنا شعور الذات باغترابها، وهكذا كان المتنبي قوي الشعور باغترابه النفسي؛ فهو تارة يرى نفسه كالذهب لا يوجد إلا وسط التراب:(15)

                     وما أنا منهم بالعيش فيهم     ولكن مَعْدِنُ الذَّهَبِ الرَّغَـامُ

     وهو تارة أخرى يتجاوز التشبه بوجود الذهب وسط التراب إلى التشبه بنبي الله صالح بين قومه من الثموديين:(16)

                        أنا في أمة تداركها الله     غريبٌ كصالحِ في ثمودِ

     وهو يبدو في كثير من قصائده رجلا طموحا إلى أبعد الحدود، قوي العزم على تحقيق تطلعاته؛ يقول:(17)

            ومن يبغِ ما أبغي من المجد والعلى     تسـاوى المَحَايى عنـدهُ والمقاتـلُ

     وشبيه بما سبق قوله:(18)

                   ليس التعلل بالآمال من أَرَبي     ولا القناعـة بالإقلال من شيمي

     ولكن هذا الرجل المفعم طموحا وتفاؤلا وإقبالا على الحياة، لا يلبث أن يبدو مفعم الحس بالتشاؤم والقلق؛ وها هو يقول:(19)

                      أَبَنِي أَبِيْنَا نحن أهل منازل     أبدا غراب البَينِ فيها ينعقُ

     كما نجده أحيانا خائب الأمل، ساخطا على الناس كلهم؛ ناعتا إياهم بكونهم مجموعة من الأغنام، فاقدي المروءة، يتشدقون بالجود قولا لا فعلا:(20)

               أرى أناسًا ومحصولي على غنمِ     وذِكْرَ جُودِ ومحصولي على الكَلِمِ

     بل إن استحصاد سخطه يبعثه على تقزيم من حوله وازدراء أهيل زمانه، ووصف أفضلهم بأحط الصفات: (21) 

                    أذم إلى هــذا الزمــان أُهَيـله     فأعلمهم فـدم، وأحزمهم وغد

                    وأكرمهم كلب وأبصرهم عـمِ    وأسهدهم فهد، وأشجعهم قرد

     ويعد الوصف بانقطاع النظير من الأوصاف التي تظهرنا على جانب من نفسية المتنبي؛ فهو يغلو في إسباغها على نفسه وممدوحيه غلوا يصل به إلى حد التناقض، وإنه لينكر أن يكون فيمن حوله من يفوقه أو يماثله:(22)

                     أمِطْ عنك تشبيهي بما وكأنه     فما أحد فوقي ولا أحد مثلي

     وبينما نجده يصف نفسه بالتفرد واللانظير، نجده يصف عبد الله بن يحيى البحتري بأنه لا شبيه له ولا يقاربه أحد:(23)

                 فكن كما شئت يا من لا شبيه له     وكيف شئت فمـا خلق يدانيكا

     كما  نجده يدعي أن أبا المنتصر: شجاع بن محمد  بن الرضا الأزدي لم يخلق الله له مثيلا:(24)

                     أَمُرِيدَ مثلَ محمدِ في عصرنا     لا تَبْلُنا بِطِلاب مـا لا يُلْحَقُ

                     لم يخلق الرحمنُ مثـل محمـدِ     أحــدًا وظني أنــه لا يَخْلُـقُ

    وهو يصف شجاع بن محمد الطائي المنبجي بكونه أوحد من على الأرض:(25)

                 كن حيث شئت تسِرْ إليك رِكابُنا      فالأرض واحـدةٌ وأنت الأوحـدُ

     ويصف بدر بن عمار بأنه لا مثيل له:(26)

                         مثلك يا بدر لا يكون ولا     تصلح إلا لمثلك الـدول

     كما يصف سيف الدولة بأن الدهور لم تشهد له مثيلا:(27)

                  مضت الدهور وما أتين بمثله      ولقد أتى فعجزن عن نظرائـه

     وهو يرائي كافور؛ مدعيا أنه الأول الذي لن يقضي الله بأن يكون له ثان:(28)

                    قضى الله يا كافور أنك أول     وليس بقاض أن يُرى لك ثان

    وإذ يهرب من كافور لا يلبث أن يصف عضد الدولة البويهي بكونه ما له في الناس ثان:(29)

                     فقلت إذا رأيت أبـا شجــاع     سلوتُ عن العباد وذا المكان

                     فـإن النـاس والدنيـا طريـقٌ     إلى من ما له في النـاس ثـان

وفي تكرار وصف الممدوحين بكونهم منقطعي النظير ما يشف عن نفس لا تثبت على مبدأ؛ فهو يخاتل ممدوحيه بهذا الوصف الساحر حتى إذا ترك أحدهم خاتل بالوصف نفسه ممدوحا غيره. وهكذا تعدد الموصوفون بأنهم بلا نظير، وبدا المتنبي وكأنه يدرك أن ممدوحيه لا يعنيهم في شيء أن يصفهم بما وصف به غيرهم، بل يعنيهم أن ينالوا شرف الوصف بانقطاع النظير من شاعر ذائع الصيت مثله ، وكأن لسان حاله يقول لهم: كفاكم شرفا أن يمدحكم شاعر يردد الدهر قصائده. واللافت أن شاعرا مثله له حظ من المعرفة بالمنطق والفلسفة لم يكن ليخفى عليه أن تكرار الوصف بانقطاع النظير إثبات للنظير؛ مما يعني في المحصلة الأخيرة أنه لم يعد هناك أحد منقطع النظير لا المتنبي نفسه ولا من أسبغ عليهم هذا الوصف من ممدوحيه!

     وبين شواهد الوصف بانقطاع النظير ما يشف عن نفس لا تبالي بالتجرؤ على المقدس؛ كقوله في وصف كافور:” وليس بقاض أن يُرى لك ثان”، وقوله في وصف شجاع بن محمد  بن الرضا الأزدي: ” وظني أنه لا يَخْلُقُ “. ولقد كان بوسعه ألا يستثير سخط حساده بمثل هذه الصياغة، وخاصة أنه كان قابضا على زمام اللغة ولا يعجزه العثور على صياغة تستنفد إحساسه دون التورط في الكذب والتجرؤ على المقدس، ولكن حرصه على أن يغيظ حساده ويملأ الدنيا دويا ويشغل الناس بأمره، كان أقوى بكثير من حرصه على الاعتدال في التعبير وإسقاط الأبيات التي تبعث على الشك في قوة تدينه .

     المتنبي نفس حائرة، متحدية، مفعمة بالمتناقضات. وهو شخصية درامية بالغة التركيب والتعقيد؛ تارة يروقك بإصراره على الصعود، بإرادة حديدية، من قيعان البؤس والشقاء إلى قمة الثراء والمجد. وهو يمتعك بكبريائه وأنفته حين يقول مغادرا حلب:

                 سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا     بأنني خير من تسعى به قدم

     وتارة أخرى يفعمك بالأسى والإشفاق عليه حين تسمعه يستجدي عبدا -كافور- أوتي الحكم في غفلة من الزمان، ويخاطبه ذليلا أو كالذليل بقوله:(30)

           أبا المسك هل في الكأس فضلٌ أنالُه     فإني أغني منـذ حين وتشـرب

     وعلى أية حال فسوف يظل شعره مرآة لنفسه، وسوف يظل المتنبي قادرا لآماد طويلة على إثارة الدهشة، وبعث الأقلام على الكتابة عنه بوصفه شخصية درامية، والكتابة عن شعره بوصفه من أخصب ما جادت به قرائح الشعراء العرب.

=============

الهوامش:

  1- ابن رشيق القيرواني، العمدة 1/ 136،316، تحقيق: د. النبوي شعلان، ط: مكتبة الخانجي، القاهرة.

  2- البديعي، الصبح المنبي عن حيثية المتنبي، ص71، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، ط: دار المعارف، القاهرة 1977م.

  3- ناصيف اليازجي، العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب 2/ 344، ط: دار صادر للطباعة والنشر، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت 1384هـ -1964م.

  4- الثعالبي، يتيمة الدهر1/ 182. عبد الوهاب عزام، ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام، ص 229، ط:مؤسسة هنداوي، القاهرة 2014م. وفي رواية المصراع الأول تغيير طفيف، وهو:”  وإن أخلق الناس باللوم شاعر”  العمدة 1/ 136.

  5- العرف الطيب 1/ 370

  6- العمدة 1/ 322

  7-أبو العلاء المعري، معجز أحمد 1/ 82، تحقيق: د. عبد المجيد دياب، ط: الثانية، دار المعارف، القاهرة 1413ه- 1992م.

  8- العرف الطيب 2/120

  9- السابق 2/ 166.

  10- نفسه 2/ 184.

  11- نفسه 2/120.

  12- نفسه 2/ 122

  13- معجز أحمد 1/ 82- 83.

  14- السابق 1/122

  15- نفسه 1/357.

  16- نفسه1/83.

  17- نفسه 1/ 128

  18- نفسه 1/ 135.

  19- نفسه 1/103.

  20- نفسه 1/ 136.

  21- العرف الطيب 1/383.

  22- السابق 1/ 105

  23- نفسه 1/ 174

  24- معجز أحمد 1/ 18

  25- السابق 1/ 184 وانظر نموذجا آخر يصف فيه المتنبي شجاع بن محمد الطائي المنبجي بكونه واحد الناس في الناس. معجز أحمد 1/ 179.

  26- العرف الطيب1/289.

  27- السابق 2/155

  28- نفسه 2/ 351

  29- نفسه 2/455

  30- نفسه 2/ 338.

أوبرا مصر – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى