أخبار عاجلةدراسات ومقالات

وداد أبوشنب تكتب خيبة الانتظار ما بين الغرائبية والواقعية في “سجون خاصّة”

للقاصّة "فوز أبو سنينة"

“سجون خاصّة” العتبة العنوان، وليس في المجموعة قصّة بهذا العنوان، فهو يحتوي كلَّ قصّةٍ من المجموعة ولكلّ حالة سجنها الخاصّ، سجن المسكوت عنه في قهر المرأة وسجن ظلم المجتمع الذكوري للمرأة وسجن الاستيطان وسجن الأسرى وسجن أبناء العائلة المنفصلة عاطفيا وسجن المرض جسدياً كان أو نفسياً وسجن الحروب وسجن انتهاك الطفولة وسجن الذّات..، كلّ هذه السّجون خاصّة لا تشبه بعضها إلّا في الوظيفة؛ هي سجون وشت بها أنساق متنوّعة كالنّسق التّاريخي والاجتماعي والسّياسي والاقتصادي والصّحي والإنساني..
وتأتي المجموعة القصصية الصّادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في 138 صفحةً، تتقاسمها تسعَ عشرةَ قصّةً ومفتتحٌ وإهداءٌ، من القصص ما كان ملغوماً بهاجس نسوي، ومنها أولى القصص وعددها خمسٌ، إضافة إلى قصّتَيْ “هبوط اضطراري” و”شروق مختلف للشمس”، كانت تلك القصص ملغومةً بهاجس نسوي -كما قلنا – وصوتٍ يحاول التحرّر من المسكوت عنه بالبوح حيناً وبالفعل حينا آخر، كانت القاصّة تقود قارئها إلى آخر نفق الحكاية راسمة له أفق انتظار يتوقّعه مرّة ويخيب مرّة أخرى، فتفاجئ القارئ بنهاية مؤلمة شافية متوقَّعة كأنْ تقتل الشّخصيةُ أو الضّحيةُ المغتصِبَ بعد خروجه من السّجن في “رحلة شفاء”، ولم يحرّر ذلك القتل الرّوح المفجوعة التي غُدرت في شرفها، كانت النّهاية طبيعيّة جدّا رغم تمرّد الشّخصية وثورتِها على المجرم، بينما في “هبوط اضطراري” رسمت القاصّة فوز أبو سنينة نهاية غرائبية خيّبت أفق انتظار المتلقّي وأخرجت منه دهشة قويّة إلى نهاية غيرِ متوقَّعة لقصّة عادية جدّا مساراها: السّردي والحكائي طبيعيان جدّا، وذلك بأنْ جعلت المضيفةَ تركض باتجاه التّراب بعيدا عن المهبِط وهي تمسكه بكلتا يديها، وعند محاولة رجال الأمن إعادتها إلى الاِسفلت، أو المهبِط نبتت من أصابعها جذور متينة، وتجذّرت أطرافها في التّراب ثم تحجّرت واستحالت تمثالا يرمز إلى النّجاة والسّلامة، ولحقها بعد ذلك ركّابٌ كثر تحنّطوا مثلها وتحجّروا، هكذا كان التطهير من خطيئة الهجرة!! أمّا نهاية نصّ “سكر” فكان بالإمكان رسم الغرائبية فيه بجعل مجموعة القطط تنهش المجرم هشام وتحيله إلى قطّ معاق مثلا، أو نهايةٌ تفاجئ القارئ وتخرجه عن النّمط التقليدي لنهايات القصص التّقليدية التي تعالج المسكوت عنه في مجتمع ذكوريّ تتواطأ فيه نسوة غير طبيعيات نفسيا (مثل السيِّدة ميسون) ضدّ بنات جنسهن مع ذكور غير طبيعيين (السيِّد هشام)، وهنا قد يصنع القارئ نهاياتٍ مختلفةً يتّفق فيها مع القاصّة أو يختلف معها إذ يشاركها عن طريق التأويل أو بناء الأحداث المسبق إيرادها والمبنية على معطيات سابقة في النّص، يشاركها على حدّ قول “آيزر” في صناعة النّص ليصبح بدوره منتِجاً له. وفي هذه القصّة لم تتحرّر روح الشّخصية الرّئيسية إلّا بالموت!
تتحوّل شخصية قصّة “عشرة كاملة” إلى امرأة قويّة جدّا تجمع مكافآت ضعفها وخنوعها (الخواتم ذات الأحجار الكريمة الملوّنة بلون نوع الاضطهاد الذي مارسه زوجها عليها) في يد وتمسك بسلاح بوحها (القلم) باليد الأخرى، وتلكم المجرم (زوجَها) بالمصاغ، وتطعنه بالقلم، فكان الثّأر بالحرف المكتوب سابقا، وبالفعل: الضرب والطّعن! نهاية طبيعية لكنها كسرت أفق انتظار المتلقّي وأثارت دهشته! فهل تحرّرت الشّخصية؟!


تبرع القاصّة في صناعة الدهشة، ومهما تواطأت مع متلقّيها بإرسال دلائل أو أدلة بين الفينة والأخرى إلّا أنّها تكسر أفق انتظاره بخاتمة غير متوقَّعة نحو قصّة “احتضار” حيث يدور حوار بين الموت وبين صوت آخر يعطي مبررات لطلب الموت، وفي كلّ مرّة يقتنع الموت بقوّة التبرير لكنّه ينكر أنّه الأكثر قوّة، فهناك من لديه مبرّر أقوى للرّحيل فيوليه الدور، إلى أنْ يُصدم المتلقّي في آخر جملة من القصّة، وفي المجموعة أيضاً، كما حدث معي، عندما كشف صاحب الصوت عن هويته قائلا: “أنا لست سوى خيمة مسكينة للنازحين في رفح” (المجموعة القصصية، ص134)!؛ في هذه القصّة أنسنت فوز أبو سنينة الخيمة، كما أنسنت القيثارة التي تئنّ في قصّة “أشياء جميلة”، وأنسنت أيضاً الشّجرة والشمس والريح في “سنّة الحياة” وأنسنت أعضاء الجسم وخاصّة الذراعين في “نيران صديقة”؛ إنّ أنسنة الشيء أو أنسنة المكان تضفي على النصّ بعدا حميميا يقرّب الفكرة إلى القارئ ويجعله يتعاطف معها ويتبنّاها.
وعلى هامش مفارقات الغرائبية على متن هذه المجموعة تجدر بنا الإشارة إلى السّارد الذي تبنّته القاصّة ليعرض مواضيعها، فيأتي على ضميرين: المفرد المتكلِّم (أنا) والغائب (هو أو هي)، والإشكالية تكمن في ضمير المتكلِّم حيث فصَلت القاصّةُ الساردَ تماماً عن أناها، فلم يعد هناك مجال للّبس عند القارئ أثناء التأويل فلا يحيل النصّ إلى أنا المرسل المؤنثة لأنّ في المجموعة أنا مرسل مذكرة أيضاً وقد أجادت القاصّة تقمّص الأنيَيْن: ذكر وأنثى، هنا يدرك القارئ أنّ مسألة الكتابة لدى فوز أبو سنينة تتجاوز مبدأ الإسقاطات وهاجس الصوت النِّسوي، فيشتغل على النّص بأنساقه حسب السّياق المطروح؛ ويتجلّى إبداع المتلقّي في التّأويل كلٌّ حسب ثقافته وجنسه وعرقه وأيديولوجيته وبيئته ومرجعيته الدّينية… فمثلا في “إعادة تدوير” هناك من يرى البطل بطلاً وعصامياً يصنع حياته من الصّفر أو من تحت الصّفر، فهو الذي يعيش من بقايا الآخر ليسدّ رمقه في انتظار الشهادة التي ستخرجه من عقر النّفايات إلى منتجعات الحياة، أو على الأقلّ إلى الحياة السوية، فيما يراه آخرون قذراً ومتسلِّقاً وفضولياً ومستغلاً ومجردَ طفيليّ يعبث بما خلّفه الآخرون وراءهم، تلك الرّسالة التي أرسلها جامع النفايات تفتح أبواباً متنوّعة للتّأويل فهي عالية اللّغة، صاحبها لبق في الطلب، ومثقّف يحسن الحديث، ويراه آخر مجرّدَ ثرثار ومتسوِّل من طراز رفيع..
ومن بين التّقنيات التي أفضت إلى دهشة صارخة في قصّة “شروق مختلف للشّمس” تقنية الكرونومتر التي تمثّلت في العدّ التّنازلي للزّمن (العدّ بالدّقائق) ليتلوه العدّ التّصاعديّ (العدّ بالسّاعات)، حيث بدأت بسرد روتين الحاجّة أم عبدالله اليائسة والحزينة ذات القلب المكسور بسبب الاستيلاء على منزلها الذي وُلدت ووَلدت فيه، وكان العدّ التنازليّ بالدّقائق دلالة على السّرعة، ثمّ سرد احتلال (استيطان) البيت ورحيل الحاجّين إلى رحمة الله، والعدّ التصاعدي بالساعات إلى أنْ ينتهي قبل نهاية اليوم الرّابع بشروق شمس 7 أكتوبر! هذه الّتقنية تشدّ القارئ ليتتبعّ لحظة بلحظة الأحداث، فيؤلمه رحيل العجوزين، ويدهشه فرحةً شروق شمس السّابع من أكتوبر التي طال انتظارها (لذا كان العدّ بالسّاعات)!!
وللحديث في هذه المجموعة شجون، لا سيّما تلك القصص ذات الطّابع الإنسانيّ: “مفلسو الأحلام” -عل سبيل المثال- والتي لم أتطرّق إليها لغرض عدم الإطالة، والقصص النفسيّة مثل “تسونامي” و”هدوء عظيم”. وختاماً لا يسعني إلّا أنْ أقول إنّ القاصّة فوز أبو سنينة أبحرت في السّرد والقصّ وصناعة الدّهشة واقعاً وغرائبيةً، لتبدع في ذلك وتخلق آفاقاً من الانتظار لقارئها الذي يشكِّل في لحظة معيّنة أفقاً جديداً يصنعه في لحظة تغيير الرسالة من المتوقَّع إلى ما وصله (انظر: حميد لحمداني، الفكر النقدي الأدبي المعاصر، مطبعة أنفويرانت، ط:3، 2014، ص 166)، فتُفتح له أبوابُ التّأويل على مصاريعها فيتواطأ معها (القاصّة) في صناعة الحدث كما تواطأ معها في توقّع النّهايات الذي خاب حينا ووافق العمل أحيانا.

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى