د. رضا عبد الرحيم يكتب هوايات الحكيم المفضلة وغير المكتملة !
رغم إقرار الحكيم نفسه بأنه لم يفلح فى تعلم أى هواية، فرياضته هى العقل والمشى، فعقله متحرك دائما
بالتأملات والأفكار(فهو رجل فكر ومنطق)، وقدميه متحركتين كلما أمكنه أن يحركهما، لأنه لم يكن يطيق
الجلوس كثيرا، وإن كان قد اضطر إليه لظروف صحية.
ففى كتاب إبراهيم عبد العزيز والمُعنون” الملف الشخصى لتوفيق الحكيم” يكشف لنا عن هوايات الكاتب
الكبير فى سنى عمره الأولى بادئا بحبه للموسيقى وخاصة آلة العود ،الذى كان يحبها لولا أهله الذين أبعدوه
عنها أو أساءوا توجيهة إليها ؛ بحجة أن ذلك يشغله عن دراسته..كذا لم يتعلق بحب السباحة، رغم نشأته على
شاطىء الإسكندرية ! وذلك أثر ما قام به أبوه من جذبه من يده إلى حيث يسبح هو فى الأعماق دفعة واحدة،
فخاف من البحر وأمواجه ، وأقسم ألا يضع قدمه فى ماء البحر أبدا منذ أن كان عمره عشر سنوات،
واستعاض الحكيم عن العوم فيه بالصيد منه عندما كبر، وحينما كان يزور قريبه “أبو مسعود” فى ريف
محافظة البحيرة ، لم يحدث أن وقعت سمكة فى سنارته، فكان آقرانه يجاملونه بأن يضعوا له سمكة فيها،
ليدخلوا على قلبه البهجة والسرور، لكنه كان يعلم أنه لن يفلح فى هواية أحبها.
وقد كان يحب الرسم أيضا ويجتهد لكى يبرز فيه، ولكنه لم يجد أحدا يشجعه على الاستمرار فيه، غير أن
أجمل شىء كان يجذب الحكيم فى طفولته هو “الأراجوز” حيث أن فرح الدنيا لم يكن يثير فى مشاعره ما
كانت تثيره دقات طبلته المتواضعة ..كتب فى كتاب” فن الأدب” يقول:
إذا أردت أن تعرف ما هو أروع صوت كان يهز مشاعرنا، ونحن صغار، فاعلم أنه صوت الطبلة، لا طبلة
الجيش المظفر ، يسير تحت نوافذنا منشور البنود ولا طبلة حراس” المحمل” تدق من فوق الجمال المزوقة،
ولا حتى طبلة” المسحراتى” فى ليالى رمضان الساحرة ، بل طبلة صغيرة متواضعة، هى طبلة الأراجوز
إذا اقترب من جنبنا.
وظل شغوفا بفن الأراجوز حتى بعد أن أصبح فى ” زهرة العمر” وشاهد فيه رائعة من روائع المسرح
العالمى، فيقول: شاهدت فى عام 1936 رواية”فاوست” لجوته، فى سالزبورج يخرجها المخرج العظيم
ماكس راينهارت،………………..، ثم حضرت بعد ذلك فى سالزوبرج نفسها رواية” الدكتور فاوست”
لمارلو تخرجها فرقة “أراجوز” على مسرح الكبار . لكن أى أراجوز؟! لقد كانت الدمى فيه بنصف الحجم
الطبيعى، زاهية فى ثيابها التاريخية ، تتحرك فى مناظر خلابة من أشجار يانعة وبيوت ومدن، تسلط عليها
إضاءة تحير العقول لقد كانت الجحيم التى تردى فيها فاوست تكاد ببراعة الفن، تكون جحيما حقيقة بنار ذات
لهب، والقارب الذى أوصله إلى مملكة الموت يكاد يمخر فى أمواج ذات هدير، والعفاريت بقرونهم والزبانية
بشوكاتهم. لم يترك خيالا لمشاهد، ولم يعتمد على مخيلة متفرج. ولا عجب فهو يعلم أنه يتقدم إلى نظارة من
الكبار.
ويشير محمد السيد شوشة فى كتابه عن الحكيم ” 85 شمعة فى حياة توفيق الحكيم” أنه- أى الحكيم-
لم تكن لديه أى هواية من الهوايات، أو الألعاب الرياضية ، فيما عدا لعبة عجيبة، شغل بها منذ الصغر.
فكتب يقول: لم أكن بطبعى ميالا إلى أى نوع من أنواع الألعاب. إلا لعبة محولجى السيمفور وأنا غلام،
عندما كنا نقطن فى دمنهور على شريط السكة الحديد.كانت نافذة حجرتى مجاورة لكشك الإشارات ،
فوضعت عليها من الخارج قطعة خشب كلياها بلون السيمفور فكنت إذا رأيت السيمفور الحقيقى مفتوحا
لمرور القطار، فتحت أنا سيمفورى وتنبه ذات مرة عامل الإشارات المحولجى الحيقى، على عملى
فضحك. وصار قبل أن يفتح السكة للقطارات ينظر أولا إلى نافذتى، ويغمز لى بعينه، أن خد بالك
القطر ظهر افتح له السكة .
تلك هى اللعبة التى كانت تروق لى فى صباى وتملؤنى متعة وسرورا وزهوا أن أتصور نفسى أفتح السكة
للقطار.
ولا شك أن هوايته المفضلة كانت ركوب “الجحش” حيث اشتهر فيما بعد بصداقته للحمير. وتحدث عن
الجحش رقم واحد فى حياته،فقال: ذلك الجحش الذى اشترته لى جدتى بمبلغ”بريزتين” أى ريال واحد.
لبث يمرح فى غيط البرسيم معززا مكرما ، ما لبثت أنا معه فى الريف.فما أن وليت ظهرى وغادرته، حيث
وضعوا على ظهره غبيط السباخ، وقادوه ذليلا مع غيره من الحمير، إلى أشق المهام وأقذر الأعمال.
وبعد زواج الحكيم لم تفلح زوجته من أن تجعله يتعلم لعبة الطاوله، كما فشلت ابنته فى جذبه للعبة
الكوتشينه ، فهو لم يستوعبها لاعتمادها على الأرقام التى لا يجيد قراءاتها .وإنما كان يتعلق بلعبة
البلياردو.
ومع ذلك يمكننا أن نستشف هوايته الأصيلة التى تعكس جوهر شخصيته واهتماماته الحقيقية ..فهو لا يستعمل
الجديد من الأشياء ، ولا يحب الاحتفاظ به، فنجده حريصا على استعمال ملابسه القديمة حتى بعد أن أكل
منها الزمان وشرب- وهذا ليس بدافع البخل كما اشاع هو عن نفسه- فيطلب من ابنته ترميمها . وعندما
أعطاها”جاكتته” لتستدفىء بها شتاء، وجدت أن “العتة” قد أوغلت فيها ، فطلب منها الحكيم ، أن
ترسلها”للرفة” ، فغرمت من أجل ذلك خمسة وأربعون جنيها، فقال لها: لماذا لم تشتر بها” جاكتة” أخرى
جديدة بدلا من القديمة فلم أعد أريدها؟ فتقول له: ولكنى أريدها للذكرى. وتسمى هذه الظاهرة عادة بـ” التعلق
بالأشياء القديمة” أو “التشبث بالقديم” وهى هنا لها دلالات نفسية واجتماعية مختلفة أقربها الحنين إلى
الماضى وما يتعلق به من ذكريات جميلة، مما يجعل الإنسان يفضلها على الجديد. وهذا قاسم مشترك بينه
وبين ابنته الوحيدة زينت,
فقد كان الحكيم لا يترك استعمال أدواته القديمة بسهولة، فلا يفارقها حتى تفارقه،بالاستهلاك أو عدم الصلاحية
للاستعمال، مثل ذلك القلم الرصاص الأصفر الذى منذ أن وعى حفيده على الدنيا وهو يرى جده يستعمله،
وهو متعجب من عدم ذوبانه رغم كثرة الاستعمال!