د. صبري زمزم يكتب أم العواجز ل.. يحيى حقي محاكاة فنية واقعية للشخصية المصرية.
الأستاذ يحيى حقي أديب مصري عظيم ولد عام ١٩٠٥ القاهرة، حيث نشأ وترعرع في منطقة السيدة زينب، وظل أسيرا لها، تلك المنطقة الساحرة ذات العبق التاريخي والجو الروحاني الذي يشعر به كل من يمر بشوارعها وحواريها فما بالك بمن نشأ وترعرع فيها، وجال بين أزقتها وتنسم هواءها العاطر وتعلم في مدارسها العريقة فليس غريبا أن يدور الأستاذ يحيى حقي في فلك السيدة زينب كحي ومقام ومسجد وأناس، لدرجة أن يؤلف «قنديل أم هاشم» و«أم العواجز» تأثرا بالسيدة زينب كحي شعبي أصيل وأنا سعيد لأني قد تشرفت بأن التقيت بأستاذنا الكبير يحيى حقي عام 1987 في معرض القاهرة الدولي للكتاب معرض القاهرة للكتاب لأول مرة في حياتي، حيث استشهد ببيت شعر لشاعر الهند الشهير طاغور بقوله:«نحن كالموج إذا سكنا متنا»
واتخذ من هذا البيت شعارا لحياته وعنوانا لندوته كدعوة للحيوية والحركة بكل أنواعها، سواء الجسمية أو الذهنية بإعمال العقل وتشغيله وعدم الركود والتوقف عن الإبداع أو التفكير والنشاط، ليبث في كل الحاضرين الذين كانوا جميعا يصغرونه في السن روحا نشطة وأملا وثابا في حياة مليئة بالنشاط الفكري والذهني، ولمست أيضاً من اخلاقه السامية تواضعه الجم شأن كل العظماء الحقيقيين لا المدعين، فتعلمت منه درسا في الحياه والأخلاق والأدب كيف يواجه الناس وكيف يحتضن من هم أصغر منه، بصوته الهادئ وكيف أقنعهم بأفكاره.
* وفي مجموعته القصصية (أم العواجز ) نجد الروح المصرية الأصيلة النابعة من حي السيدة زينب الملهم وبدأها بقصة أم العواجز حيث عشنا فيها أجواء السيدة زينب بشوارعها ومسجدها وشخصياتها من خلال إبراهيم أبو خليل بائع الفجل والجرجير على أحد أرصفة الميدان، المتنقل بين اشغال شتى ما بين بيع الترمس وبيع الدبابيس أو الإبر وخلافه متنقلا بين وسائل المواصلات خصوصا الترام، فهو يعيش وحيدا بلا أسرة ويعاني شظف العيش، فقد نشأ يتيما فقيرا ضائعا وتقاذفته الحياة من درجة الى درجة أسفل منها إلى أن يصبح في النهاية متسولا على باب مسجد السيدة زينب، ومن وبين هذا وذاك أبرز لنا علاقته ببدر بائعه الفجل المنافسه له والتقارب التدريجي بين مشنتيهما للدلالة على التقارب الوجداني بينهما إلى أن عاد زوجها الذي كان مسافرا لمدة طويلة فعادا مرة أخرى إلى التباعد.
* وفي قصه «صورة» يعرض لنا فكره تفاعل الإنسان مع الصورة من خلال رجل مغرم بصورة فتاة رآها معلقة في فاترينة أحد أستوديوهات التصوير بشوارع القاهرة وكل يوم يمر على الصوره ويتابع ما فيها من تغيير وبدأ يتفاعل معها مع تغير نظرتها، ثم ملابسها ثم شعرها، وكأنها كائن حي يتغير كل يوم إلى أن مر عليها يوما فوجد الصورة فيها نظرة غريبة قد تكون ضجرة وفي اليوم التالي مر بها فوجدها منكسرة الزجاج والزجاج متناثر حولها وكأنها انتحرت من شدة الضجر.
* في مقابل ذلك له قصه مشابهة بعنوان «ذكريات دكان» حيث يبدع الأستاذ يحيى حقي في بقصه موازية ولكنها أكثر إيلاما عندما يعرض لصاحب محل بيع مخلفات الحروب من بدل عسكرية وخوذات وخلافه أثناء الحرب العالمية الثانية وتتغير حياته عندما يذهب ابنه إلى الحرب مع الإنجليز فيشتري اب تمثالا على شكل شاب ويضعه في دكانه ويتخيله ابنه ويدور حوله كل يوم ويكلمه وتحت تأثير الأفيون الذي يدمنه يعتبره ابنه بالفعل، وعندما يفتح الدكان في يوم من الأيام يجد التمثال ساقطا على الأرض فإذا به يصيح ويبكي ويصرخ ويقول إن ابنه قد مات، وطبعا لم يصدقه جيرانه ولكن ما هي إلا أيام قليلة ويأتيه خبر وفاة ابنه في الحرب بالفعل وبالرغم من ذلك يظل مهتما بالتمثال، بل يزيد اهتمامه به أكثر ويحتضنه بل إنه نزل في ليلة ممطرة شديدة البرد، ليغطيه ويدفئه ليقيه من البرد والمطر، ويأخذه في حضنه ويحدثه وكأنه ابنه بالفعل في صورة إنسانية مأساوية.
ومن الشخصيات التي أجاد رسمها شخصية زليخة تلك المرأة العجوز الشديدة البخل التي عاشت في فقر مدقع رغم أنها تملك أرضا زراعية تدر عليها دخلا مستمرا، ثم تتزوج ولكنها تنهي الزواج سريعا، لأن زوجها عبء عليها ويأخذ أموالها ثم يعثر عليها قتيلة في حجرتها فقد قتلها اللصوص طمعا في مالها، وعندما يفتش البوليس حجرتها يجدون فيها ثروة هائلة من الأموال مخبأة، فلا هي استفادت بها في حياتها، ولا اللصوص القتلة توصلوا إليها بعد قتلها.
*وفي قصه (عقرب افندي)يقدم لنا قصه كوميدية فعقرب افندي هو مدرس في إحدى المدارس ولكنه كان شخصيه ساديا يتلذذ بتعذيب تلاميذه بوحشية، جعلتهم يكرهون التعليم ومنهم راوي القصة، وعندما التقى المدرس بأحد تلاميذه النابهين الذين أفلحوا وجده طبيب أسنان ناجحا، فأراد أن يستفيد منه ولكن كان تلميذه قد أصابه من من بطش أستاذه عقدة فأراد ان ينتقم منه، فخلع له كل ضروسه وأذاقه من الألم ما جعله ينتقم منه بتوجعه وتألمه بهذا يكون التلميذ أصيب بعقدة من أستاذه جعلته إنسانا مشوها يتلذذ بالانتقام من ذلك المدرس السادي والطريف في هذه القصة أن الراوي رفض عندما سمع إلى هذه القصة من زميله أن يعالج عنده مخافه أن يكون قد أغضبه يوما من الأيام فينتقم منه، كما انتقم من أستاذه وهي قصه مؤلمة جدا وإن كانت ساخرة تحذر المعلمين من ذلك السلوك السيئ وأثره على تلاميذهم ومن ثم عليهم في مقبل الأيام.
*وفي قصه (احتجاج )يقدم لنا نموذجا بشريا مهمشا منسيا كأنه غير موجود بالمرة وهي الخادمة بومبة التي تعيش في كنف أسرة بسيطه ورثتها بعد أمها التي كانت خادمة عندهم فاستمرت في دور أمها منذ صغرها وكبرت وكبرت دون ان يشعر بها أحد من أصحاب البيت فهي مجرد خادمة دءوبة الحركة تخدم الكبار وتلاعب الصغار وتلعب معهم أيضا إلى أن جاء الأسطى حسن المنجد الذي يؤجر دكانا في منزل الأسرة، وبدأت تتودد إليه وتحادثه، وتعرض عليه أن تغسل له ملابسه إلى أن طلب من أهل المنزل البحث له عن عروسة مناسبة فظنت أن تكون هي تلك العروسة ولكن أفراد تلك الاسره ظلوا يقترحون أسماء وأسماء على مسامعها لعرائس محتملات وهي تمني النفس أن تكون إحدى المرشحات ولكنهم يتجاهلونها تماما كما لو لم تكن أنثى ومن حقها أن تتزوج مثل كل من رشحوهن لذلك، وعندما تحتج على ذلك يسخرون منها بسبب تقدمها في السن وعدم تمتعها بالجمال الذي يجعل هذا العريس يرضى بها، فتبتلع هذا الاحتجاج بشكل صامت وتواصل الحياة مرغمة على العنوسة، وقد استحوذت على تعاطف القارئ معها لأنها أولا وأخيرا أنثى حتى لو لم يلتفتوا إلى ذلك.
*في المقابل نجد في قصه (إفلاس خاطبة) تلك المرأة التي تعمل بمهنه الخاطبة التي تتشاغل بالتوفيق بين الرجال والنساء بشكل شرعي عن نفسها إلى أن جاءها رجل يبحث عن عروس فعاملته باعتباره زبونا واتفقت معه على أجرة، وعرضت عليه صورا لعرائس على مرات وفترات، تردد فيها عليها أكثر من مرة وفي كل مرة يزداد الرفض، بينما يزداد قبولها عنده إلى أن وجد فيها ضالته المفقودة ولا سيما أنها ذات مال وجمال فخطبها وتزوجها، وبرغم ذلك لم تنس أن تطلب منه أجرتها كخاطبة وهي الأجرة التي اتفقت عليها معه منذ البداية، فهي أدت المطلوب منها على خير وجه ووجد عروسة بالفعل، وبقي أن يفي هو بما اتفقا عليه من الأجرة في مفارقه مضحكة ساخرة رسمها يحيى حقي على شفاه قرائه في النهاية السعيدة.
* وفي قصه أخرى بعنوان (قصة في عرض حال) يعرض لنا قصة طريفة لرجل من أغنياء الحرب بدأ حياته ماسحا للأحذية ثم تاجر جلود، ثم أصبح من الأغنياء بسبب الأسعار والظروف التي أحدثتها الحرب، فتلعب معه الأموال لعبتها التي تقوده إلى ملهى ليلي ليتعرف على راقصة يعشقها ثم يتزوجها لترقص له وحده، وتقبل بسبب غناه وسيارته ومسكنه الفاخر ولكنها تغار عليه من خادمته، فأراد أن يتخلص من هذه الغيره بفكرة غريبة، وهي أن اتفق مع سائق أنيق حسن المظهر أن يعمل عنده ويقيم بجوار الخادمة في حديقة الفيلا أملا في أن يشغلها عنه، ليرضي زوجته الغيور، ولكنه فجاه يهرب السائق بالسيارة ولكن بدلا من أن يهرب بالخادمة كما رتب إذا به يهرب بزوجته، ويتركه وحيدا فريسة للمرض مجردا من سيارته ومن زوجته التي أساء اختيارها من البداية ليدفع ثمن هذه الغلطة من ماله وصحته وكرامته.
*وفي قصة (في السينما) يكشف لنا يحيى حقي عن جو مصر في الاربعينيات حيث كان يعيش في مصر المسلمون والمسيحيون واليهود كشعب واحد لا تفرقة بينهم لدرجة ان دور السينما كانت تعرض أفلاما سينمائية دينية لليهود في مناسباتهم الدينية، وهذا ما فوجئ به بطل القصه الذي ذهب إلى السينما ليستمتع رغم مرضه بفيلم من الأفلام التي يتابع سلسلتها بشغف فإذا بالبرنامج يعدل ويفاجأ بفيلم يهودي وكان ذلك صدمة شديدة له، ليس لأن الفيلم يهودي، ولكن فقط لأن الفيلم ليس هو الفيلم الذي خرج من بيته وتحدى المرض في فتره النقاهة من أجله.
… وبالطبع هذه بعض القصص وليست كلها وقد صاغها الأستاذ يحيى حقي بأسلوب أدبي جميل وبسيط وإن كان باللغة العربية الفصحى، وقد تخللها بعض الكلمات باللغة العامية في وقت الضرورة خصوصا في بعض الجمل الحوارية، وطبعا هذا شيء جميل من الأستاذ يحيى حقي فقد صنع نسيجا جميلا من لغة بسيطة وصحيحة وممتعة في الوقت نفسه.
د.صبري زمزم
مدير تحرير جريدة الأهرام
ناقد أدبي وفني وشاعر