د. إسراء بدوي تكتب المرئي واللامرئي
قراءة فى رواية (المنسيون بين ماءين) للكاتبة ليلى المطوع
كيف تستطيع الميثولوجيا أن تبنى الوعى والدين المرئى,وكيف يمنحنا السرد السؤال حول المجهول فى الموت والميلاد والإيمان بالحقيقة اللامرئية للبحر؟
تبدأ رواية ” المنسيون بين ماءين” بترتيب إنثربولوجي من الأسطورة إلى الأديان إلى الحداثة, استطاعت الكاتبة ليلى المطوع من خلال هذا الترتيب طرح يوتوبيا المقدس والمدنس فى الرؤية للمرأة من جهة وللطبيعة المعادل الموضوعي لها من جهة أخرى.
تبدأ الرواية بشخصية ” سليمة ” التى تأخذ من البحر ازرقاقه وتمنحنا طقوس التضحية ,وكيف كان الوعى القديم أكثر اتصالا ببيولوجيا العالم والكون من حوله .
تمر سليمة عبر الماء الذى يسلبها الأمان لكن يمنحها التجدد والولادة وهى فى وعيها تتذكر الاثنتى عشر حفرة التى وضعت فى أحدها أبنتها من أجل أن يفيض الماء, وهى تحمل الرضوخ لليأس فى أحيان, والتمرد والتمزق على صلب زوجها فى أحيان أخرى .
تبدو”سليمة ” سلطة عليا عند البحر ,تجعل الجسد من خلالها بوتقة وجودية ترفض سلطات الواقع عليها رغم قسوته,كما أن الجسد يحمل الخطاب الابستمولوجى النسوى لميتافيزيقا الخطاب الجمعى الحقيقي لروابط البحر, بوصفه لغة سيرورة يتوالى ظهورها .
كما أن التضحية بالبنات من خلال الكاهنات كانت تجربة زمنية للتعرف على ماوراء المقدس, لنبصر جوهر الحقيقة فى طعم الماء الذى يتحول بطعم هؤلاء الأطفال ليفيض نبع ” العذارى”.
ولكن هذا المرئي يحاورنا النص من خلاله لنرى اللا مرئى عبر الاتصال الداخلى العميق للماء, لنتبعه فى جملة اللاوعى التى تتردد فى السرد كله “اتبعى.. الماء” حتى نقيم داخل إنسانيتنا تاريخ الذاكرة, وماضى النخلة, وحاضر البحر فى مجموعة ولادات لا تكتمل مثل النهاية عند “سليمة” حتى بعد وطء دم شريف.
وكما تبدأ المخاتلة السردية من سليمة تظهر انزلالق السيادة فى عوالم الأسطورة من المرأة و البحر ثم تعود السيادة مرة أخرى فى شخصية “ناديا” التى تربط الأحداث من الصمت إلى الصخب كالماء العذب وسط البحر .
تتخلل “ناديا” بين أروقة السرد شاهدة على زمنية الحاضر من اللازمن, وهى مفتاح الولوج لهذه الرواية فهى الحدث الكبير الذى ينسج من أحداث صغري .
” لا تقرأ إن لم يكن دمك نخلاويا” وعى ” ناديا “هنا يفرض خطابه الحر ,ويطرح أيديولوجيته ,فتلك اللحظة التى تقرأ فيها (أدبيات أهل الجزر) فهى تصارع الواقع التى تسعى إلى الخروج من أسره ,ذلك عبر بناء أيدلوجية جمعية تستطيع أن تقف بموازة العالم وما يحمله من متناقضات من بحر يحمل ينابيع عذبة إلى, وأد كامل و وعى فردى رافضاً فى الوقت ذات سلبية الواقع المتحجر مع رؤية الزمن الحاضر وقصوره الإدراكى من بعض المنشأت الحديثة وبجزر صناعية تشبه ” الليغو” .
فى الواقعة الأولى يظهر الراوي” إيا ناصر” “يقول كن فيتحول التراب ماء” ص70
ما بين حضور وغياب الإله “سيان” وهو يأمر البحر بالتراجع يقص علينا ” سارد دو ما خ” تلاوة ميلاد النخلة وموت إيا ناصر فى محاكمة من الكاهن “كيدو”.
كيف يمنح السرد هنا القدرة على التبادل الرمزى الأسطورى مع عوالم الطبيعة المتعددة؟
إن خطة التصور الكونى للطبيعة داخل البناء السردى تتأثر بتغير إدراك الكاتب لعالمه .
فالطبيعة وما تحمله من أبعاد وعناصر سيميائية تحمل الطابع المقدس في أحيان ,والطابع الرمزى الأسطورى في أحيانٍ أخرى ,تقدم للوعى خبرة جمالية لا ترتكز على مفهوم الحضور فى المكان السردى فقط.بل إنها تشارك فى اللحظة الأولى التى يلج من خلالها الكاتب إلى عوالمه الممكنة ,وتؤسس العلاقة الحية بين الطبيعة والذات .
فمن نسج إنانا ودموزي نسجت الكاتبة شخصياتها الأسطورية فهى لم تحاكى الأسطورة فقط, بل خلقت لنفسها أسطورة خاصة .
تمخضت عن نشوة روحية عارمة حتى فى وجه الموت واليأس فى شخصية ” نعمة ” التى ترمز إلى الخصوبة برغم صورتها من العدم والفناء.
تريد الكاتبة أن تكسر النمط المتدين فى التفكير لجسد المرأة وتوحيد كيانات الطبيعة كالبحر والنخل والجزر والماء.
وبتوحيد السرد فى سيكولوجية الجنس يبدو (الجنس) طرح وجودى نتجاوز من خلاله المأزق فى ما بين الذات والموضوع .
كما أن الطبيعة فى النص تبدأ من كوجيتو” سوريالية البحر” الذى لا يسيطر على الحضور النصى فحسب,وإنما يظهر فى خبرة العقل الجماعى بالوجود فى العالم ,وعن طريق تلك الخبرة يشتق إدراك الذات لوعيها ,وإدراك الأخر فى مجال الخبرة الذاتية المتبادلة .
“نانشي ” تعايش (البغايا المقدسات) عابدات القمر فا الأنثى الألهية الخالدة لايمكن إدراكها وجلاؤها بصورة كاملة ,بالمفاهيم السيكولوجية فقط ,بل أنها ترتسم على حائط ذاكرة الوعى الجمعى وفى باطنه ,وعبر ذكرياته اليقظة لتمثل مخططات تحتية لحضارات وثقافات تبنى النص السردى حتى ينمو شعرها مجددا .
فالجسد هنا يتوحد مع الطبيعة مع الأرض مع البحر حتى يصبح هو الآخر ذاكرة وتاريخ , المرأة شكلت كينونة يشاهده المشهد الذكورى فى الروايه من خلال ذاته الواحدة وذواتها المتعددة التى يتوحد فيها عالم الحركة واللاحركة فى جسده, ويتسع وجوده ليرى بعينه الخاصة عالمه الميتافيزيقى ما لايراه فى واقعه المعاش ,فتلك الأنثى تحيط بكيانات الخير والشر داخله ,ولكى ندرك تلك التجربة الإنسانية الميتافيزيقية داخل الواقع السردى بين أروقة النص,علينا ان ندرك تجلى البحر من خلالها لتصل إلى ذروة معاناة الموت والتناهى والمصير المحتوم.
ويظهر ذلك فى رؤية “إيا ناصر” لوالدته, محاولا عبور البحر وعبور الفكرة ” هنا غاض جلجامش وتحت الماء المالح والماء العذب, وتتفجر مئات من الينابيع النقية , يوسون لك الشيطان إذ ما تطأها, لعلك تفعلها,ألا يبتغي الإنسان الخلود,ولو كان الثمن دفع ألهته وتحوله إلى شبيه؟”.ص118
لعبة السرد تتأرجح بين التشظي والمأساوي ويساعدنا على التقاط امكانات السؤال ماهو المرئى وماهو اللامرئى ما الخلود؟ وما الخطيئة؟وأين الخلاص؟ وعلى الرغم من عدم الاستدلال بطريقة عقلية ” لا أجمل من خطيئة يرتبكها الإنسان لتحرره”.ص121
وما بين الماضى والحاضر تحتل ذاكرة النخل فكما يقول الكاهن ” إذا رأيت رؤوس النخل أحرقت , أعلم ان هذه الأرض اغتصبت”ص147.
تمازج الكاتبة بين ماءين القديم والحديث وتعيد قراءة إشكالية الطبيعة , بوصفها مجمع لمتناقضات الإنسان التى يحاول بها إختراق الحاجز الكامن فى ماهيات الجسد,و الوجود عبر مختلف أزمانه.
وفى تراتب إنثربولوجي تتبع الكاتبة فرضية التاريخ بوصفه مساحة فاعلة موجهة إنها تخبرنا ما علينا فعله وهى تستشهد بالتاريخ من الأسطورة إلى الأديان عبر سميائية الأسماء فى الوقائع المصورة ( سليمة, إيا ناصر, يعقوب, درويش, مهنا) تماما مثل قواعد لعبة الحائط التى تبدو لنا مربكة حتى نبدأ باللعب “تبدلت الأديان فى هذه الأرض, الماء يأتى بكل شى, لكن لاماء على الساحل ,أيعنى هذا أن لا دين قادم ليذوب فى الماء؟أتوقفت الأديان مع حركة البحر وموته, المشاعر نفسها, الرجاء نفسه, المطالب نفسها, لكن الرب تغير, هو يقبع فى السماء, وكلنا نرجوه”.ص204
الواقعة الثانية فى أدبيات أهل الجزر هى “يعقوب” إنا من الماء, وإنا له لعائدون
يبدو أن الإنسان هو ذاك الذى ينقصه صورة كما يقول (باسكال كينكار) فى كتابه “الجنس والفزع”, يعقوب راوى يتخذ سميوطيقا القناع كحتمية وجودية لكينونة المقدس التى يتجلى من خلال مركزية وجوده المتخفى ,لما يمتلكه من حيازة الحرية والاختيار ,وشمولية الإرادة ,وتنعكس فضاءات ذلك القناع بوصفه حضوراً غير مباشر ,يتبدى من خلاله التحقق المراوغ لقابلية الحضور الأنثوى فى تلك القديسة التى مارست الحب وأنجبت الماء .
الواقعة الرابعة من أدبيات أهل الجزيزة” درويش”(يلبس جلد الأرض”.
درويش الحجر صياغة وجودية توقعنا فى فخها الكاتبة تخبرنا فيها أن الحقيقة- كل الحقيقة- ليست واحدة وليست نهائية .
بين هند ودرويش جسد كتب عليه طلاسم الشعر لكن البحر مارس سلطته بين المنع والمنح, بين الفقد والاستعادة , بين الموت والولادة.
كما ان “رمله” حمارته سطرت تجسيد الطبيعة بوصفها مرحلة هامة من مراحل الوعى الإدراكى المباشر, بحيث يظهر الوجود كله متحد مع البحر هنا منفصل عن الوعى ومتحد معه فى آن واحد .
الواقعة الخامسة من أدبيات أهل الجزيزة”مهنا”(الناظرون نحو الجنوب) هل اللؤلو هو ميكانيزم المعرفة, هل هو الاغتراب المعاصر,أم هو محاورة من الكاتبة لنشهد على عصر الأزمات ؟
مهنا سمع ميلاد النخلة وأنبت فسيلتها, مهنا أحيا النخلة ومات فى محبة الدانة, الكاتبة صاغت القضية ببراعة فى هذا الفصل السردى ومن هذا يتضح أن البحث عن اللؤلو هى رغبة فى تحقق الأنا يحمل ميكانيزمات المعرفة المزيفة للوصول إلى الخلاص هذا من جانب ,أما على الجانب الآخر يتبدى اللؤلؤ كونه كينونة تستبق الحضور الميتافيزيقى الفاعل لعلاقة مهنا بالبحر وغير المشروط واقعياً ,فبنية الحقيقة تتغير لكنها فى صيرورة أبدية تتمرد على الموت لأنها تصنعها ,ومن خلال تجليات البحر يبقى الأفق الغيبى يسهم فى مراوغة الدلالة السردية ,التى أن نالها الفناء تحقق وجودها دائماً .
ذاكرة النخلة
النخلة ” ناديا”.. لطالما عرفت النخلة بشجرة الحياة في
الزخارف الرمزية التي شاع استعمالها في العراق القديم، خاصة في عصر الآشوريين. وقد فرضت شريعة حمواربي غرامة كبيرة على من يقطع نخلة، و وجدت رسوما للنخيل وأرواقة المعابد في حضارة وادي النيل منحوتة على جدران وأعمدة المعابد التي تعود إلى العصور الفرعونية.
وقد نص القوانين فى شريعة حمورابى فى القديم على أصول المغارسة بين البستاني وكذلك على تجريم قطع النخل, كانت كذلك دائمة الحضور كجزء من قرابين إله القمر” سين”.
وهنا نتتبع ذاكرة النخلة عند الكاتبة ليلى المطوع , النخلة هى الشاهد على التاريخ , وعبر التتابع الزمنى الكرنولوجي كانت “ناديا” هى النخلة الشاهدة على كل هذه العصور, كانت شاهدة على الموت والميلاد, على القربان والأضحية , على الجنس والبحر, وكانت شاهدة عليه فى التاريخ الحديث بالهدم والدمار.
كما انها تمثل نسيج من الواقع, والإمكان يحاك على نوال الآزمنة المتعددة فى الحضور النصى”وها نحن البشر بطاقة سحرية شريرة حولنا كل الأشياء التى رأت حقيقتنا إلى حجر وتراب”ص397 .
النخلة تجربة سردية تزامنت مع العالم الغافى الممتد على ناصية البحر وهى تحمل وعينا, وتخوم ذكرتنا التى عادت مع مسنين الواقع الذين فقدوا الذاكرة لأنهم لا يريدون بصر الواقع بل بصيرة الماضي. فلم يقل لنا النص إن ردم الماء قد كسر قشرة الوعى والاتزان ,ولم يخبرنا أيهما أصدق وأقرب إلى ينابيع الحياة الماء المالح أم الماء العذب ؟.
هنا كانت النخلة طوال السرد ذاكرة حياة تمثل نموذج العالم الذى يحاول الجسد اختراقه بهدف الكشف عن طبيعته (من نسلك ستعمر الأرض بالنخلات”ص402
قطعنا النخل فقطعت ذاكرة الزمن, النخلة بحث عن الوجود الأخر والموجود الممكن برغم من تأكيد الهوية بالمعرفة ,وتدخل عناصر الطبيعة فى السرد مع العالم المحيط, ييقيم الاتصال بكل موجود كى يعبر عن تحقق الكينونة الذاتية ,فالبحر ,الينابيع وكل ماهو نابت وأخضر تلك الرموز التى تغلف بها الحكايا لتخلق فرضية وجودها وطريقة تواصلها مع الإنسانية ,تمنح المقدرة المميزة لإيقاظ الوعى الإنسانى العميق .
البحر (الراوى العليم):
البحر رحلة للمجهول فى مختلف الثقافات الإنسانية أو كما قال عنه (كارل يونج )هو اللاوعى الجمعى للنفس الإنسانية.,واتخذت سميائية (البحر) فى الميثولوجيا من عدة حضارات والذى كان يستخدم فى مراسم التربية الروحية والجنائزية , وتقديم النذور والقرابين, وقد تشكلت رؤية البحر فى عدة ملاحم وسير بداية من ” الأوديسة “,مرورا بتاريخ وحقب كثيرة (سيرة ترستان) والجزر الأسطورية فيه ثم بعد ذلك استلهم البحر فى عدة فنون عبر قصائد قديمة وحديثة , والموسيقي الكلاسيكية , والفن التشكيلى على نحو ما نجد فى قصائد “كولريدج” , و(أوبرا الهولندى الطائر) للموسيقي” ريتشارد فاجنر”.
وبعد ذلك كان له نصيب فى المرويات الدينية كتاريخ”أدم البريمنى” لرؤساء أساقفة هامبورغ التى تناص فيها مع الكتاب المقدس, وطوفان نوح, وسيرة البحر فى الإسلام بكونه جند من جنود الله .
كذلك ألهم البحر الكثير من الروائيين على سبيل المثال رواية (موبي دك) ل” لهيرمان ملفيل” وغيرها الكثير من الروايات التى عبرت عن رحلة البحر وما فيه من غموض وكائنات بحرية مخيفة, وعوالم لا ندرك كنهها.
وبالعودة إلى رواية ” المنسيون بين ماءين ” يطالعنا البحر بكونه خطاب إبداعى فى قالب مقدس من الماء فهو الراوى العليم الذى يتخلل جميع شخوص الرواية , بوصفه رمزاً من رموز الطهارة والحماية, وأحيانا كقربان, وأحيانا عدو قاتل ومادة سردية غالباً ما تقع برداً وسلاماً على الرواة كما حدث مع هند زوجة “درويش” وبقية النسوة. .
وبالرغم من تعدد الرواة أو أن الرواية تنتمى لما يعرف ” “بالرواية البولوفينية” متعددة الأصوات .
إلا أن البحر هو الراوى العليم الخفى والذى يحمل تناقض أخر,يمثل فيه البحر الخالق المجهول ,والخطاب المقدس للخيار الشبقى الامثل لتحقيق الامتياز الوجودى فى مقابل ذوات أخرى ممسوخة ومقولبة .
يختزل البحر فى تحققه نموذج أخر للحق ترغب سلطة الجسد بتشكلاتها فى اعتماده بهدف السيطرة على جملة الموجودات وقولبتها فى شيئية جسدية منمطة , فالسلطة الروحية له توظف أجساد شخوص الرواية كبقية موجودات العالم فى شكل علاقات إنتاجية مادية ,فالجسد لا يصبح قوة نافعة الإ إذا كان تحت قوة خاضعة وكبيرة .
وتشكلت عوالم البحر بين ماءين عذب فرات وملج أجاج, ووضعت الكاتبة السياق السردى داخل النص عبر سرد “السير” بوصفها متصل زمكانى أو لنقل عتبة لبناء الحدث, وتترتب عليها تحولات مهمة تصب كلها فى وقائع شخصية ” ناديا” الذاكرة الجمعية .
فى السيرة الأولى(وأد الماءين, سيرة مالك الحزين , وأمنية لبحر لم تعد تعنى شيئا).
صنعت الكاتبة جدلية تناقضية مهمة بين الموت والحياة, ويظهر ذلك من الاقتباسات الفلكلور الشعبى وأغنيته” هو يابيه, للموت هلا بيه , الموت بس يختار , جان ضحيت بنفسى أنا”ص53.
و(فى سيرة عين لم تدرك أمومتها إلا متاخرا) ربطت الكاتبة بين نذور الماء من الأطفال التى تشتاق إليها وبين البحر بكونه المنصة الذكورية مقابل ذلك الحضور الكلى لفعل الشبق مما يعد تجليات للوعى الجسدى للذات الحرة التى تكافىء قوانين الواقع عن طريق استدراك نموذج الجنس واتصاله بالطبيعة, ولاسيما البحر ليصبح وسيلة الغرق والعبور فى الوقت ذاته إلى عالم الشخصية, والنذور المفقودة فى خضم تلاطم أمواجه العنيفة تبدو كظل ثقيل الحجر رازح فى جوف الوعى يغرقه تحت الماء ولا يطفو أبداً, فالصراع الوجودى بين البحر باعتباره الخالق الممكن للمجهول ,والذات باعتبارها سياق تاريخى وأسطورى للجسد يجعل الحدث السردي المتمثل فى الجنس قدرة دلالية لاستيعاب العالم بتقابلاته وتوافقاته .
لذلك يبدو أن النسق التاريخي لردم الماء كان فى بداية الرواية كون “عيون الماء فى الجزيرة نساء رغبن بالأمومة, فأدركن رغباتهن بشكل متأخر” ص56.
ماذا تريد أن تخبرنا الكاتبة ؟ هى تمنحنا اللا وعى تنسخ قضايا الخطاب النسوي فينا براوى عليم يتغير ويتحول, ثم يختفى ويذهب, ثم يعود مرة أخرى.
كما نجد فى ( سيرة عين أسمها حوز, والعناق الأبدي) هى تشكل العين هذه المرة باامرأة تستلب عقل الرجل كنوع التأطير الدلالى التام للبعد الإبداعى فى توظيف قدرة البحر المالح ,ليس فقط العبور للوصول إلى امكانات الجسد مهما تعددت موجوداته واتسعت مفاهيمه ,ولكن أيضاً مقابل العين العذبة لتفعيل البعد الوجودى الذى يتماهى فيه جسد النص فى نص الجسد عبر فصل (يابسة اغتصبت).
ونجد ان سير العين تنتهى دائما بالفقد أو العودة لانه كما قالت الكاتبة فى ص222 ” إن هويتنا هى الماء”.
وتزامن هذا النذر بالعودة مع “ألاء” الطفلة أبنة ناديا فهى الحدث الذى تقاطع فيه زمن الكتابة والزمن المرجع فى الحدث.
هل انتهى زمن الحكايات القديمة؟ يتغلل السرد كالماء فينا عبر مقاطع مشهدية قصيرة (صياد فقد بحره, كيف مات النخل واقفا؟,شجار العوائل على دفن العين,إذا سمعته فلا تلتفت,قاع العميان)
عبر الخطاب السردى عن أيدلوجية الألم وهى تحمل غموض البحر الخالق الذى يمنح اللذة والمرارة فى آن واحد ,مرارة النذر والفقد,ولذة ارتعاشته,ومأساة ردمه بسيادة خطاب قائم رافض لا يعترف بإمكانية المغايرة وفرضية التجدد ,ويسعى إلى التهديد المستمر من خلال فعل الجسد والخالق المجهول بحر الأبدية ,الذى يجعله قادر على تحقيق كينونة عالم الحاضر وسن قوانين الطبيعة النمطية التى تحاول التأكيد على فردية وجوده ومطلق معرفته .
وبناء على ذلك نجد الكاتبة قامت ببناء الحدث المركزي مع حكايات العالم المرجعى لتمنح المتلقى حكاية مفتوحة الحدث , حبلى بوقائع جديدة لم ولن تنتهى, هو خطاب مفتوح الدلالة كما تظهره شخصية الجدة “نجوى” زمن مفتوح يجتاز فضاءات الحدث ليفصح عن عمدة الحدث لتمحي الفواصل ونرى ما وراء الوعى .
وكما يبدأ الإهداء للنورس ينتهى كذلك بالنورس هوة مفتوحة للرؤية النورس الذي شهد الوقائع ببصيرة حية فيخلق من الحكاية بأسرها مسرحاً لصراع ذاته مع الماضى الخالد تارة ,ومع استراتيجيات الوصول لمعرفة الحاضر تارة آخرى, يتخطى العالم المحدود لشخصية الكاتبة التي منحت النورس سيرة ذاتية لل.. “منسيون بين ماءين” .