يوتوبيا الحكمة قراءة فى رواية “العملة البيضاء” للكاتب أحمد عاطف درة

الخيال لغة أخري للوعي يمارس بها الواقع سلطته وهذا يجعلنا ندخل إلى عالم أحمد عاطف الدرة بكاميرا بانورامية كى نحاول البحث عن العملة البيضاء.
وكذلك نبحث عن الحكمة التى تهدينا إياها البديهيات المتكورة فى السيادة الفردية والجمعية فى الحضارات السردية التى تجاوز بها الواقع .
فيهدمه أحمد عاطف درة ويشكل زواية بما تحمله اللغة من طاقة متفجرة تعيد بناء البشرية وتولد مرة أخرى من أنين رحم مرتعد إلى ثقافة ضوء خيالى يحبس أنفاس الحقيقة القديمة ويخلق العالم لأول مرة .
فنجد الراوي فى الرواية يكشف عن العلاقة بين جدلية الواقع والمتخيل فهي مغامرة سردية قائمة بين الوعى الذاتي أو الحقيقة الواقعية ,وبين المتخيل الفلسفي باعتباره واقع ممكن فسر فيه الخيال شفرات النص .
لازمان لامكان بعد فناء العالم بسبب موجة قطعت كل التكنولوجيا ولكنها قطعت كذلك العوالم عن بعضها وجعلتنا نعيد اكتشاف ذواتنا.
حاول الراوي فى لعبة الخيال العلمي الهدم والبناء بداية من العنوان مسار الرحلة السردية لنمتزج بشظايا متراكمة فى نظام يكاد من فرط عقلانيته أن يتجاوز العقلانية إلي ما وراءها ,خالقاً نسقاً حداثياً يمنح النص توتر دائم .
عشرة أشخاص يحاولون بناء نظام للعالم بعد فناء البشرية وظهور مسوخ كائنات فى حبكة روائية وحركة زمنية فى واقع بلا زمن وهو ما جعلنا نطرح السؤال كيف استطاع الكاتب يفرض حبكة الخيال العلنى فى بنية سردية ويثبت بها ركائزتجربة “صحف الحكمة” فى محاولة البحث عن العملة البيضاء؟.
ولإجابة هذا السؤال سننطلق لحيثيات الشخصيات فى الرواية الرواية تتكون من سبعة فصول حاول الراوي فيه أن يخلق الزمن والمكان ومحور العوالم المتعددة .
وكل فصل من فصول الرواية يمثل استحضار لجوانب من الوقع المألوف في إطار فانتازيا تحمل الصبغة الفلسفية والسيكولوجية فى شخوصها وأحداثها .
عشرة من الأشخاص الشاعر قمر الزمان,والمخرج أمل صافي, ويوجين عالم بيطرى , مانجاه راقصة أداء تعبيري,نجيبة عالمة بيولوجية, روح الخيال فيلسوفة, ماري كوري عالمة كيمياء, لودفيج موسيقي , ليلى بطلة رياضية, أبو بكر طبيب.
تتداخل سمات الشخصيات بين الواقع والمتخيل خالقة نسيج رافض لتشيؤ الوعي المألوف وجعلت المتخيل قابلا للاكتمال بين ثنايا النص فما بين ترددت العوالم العالم الأحمر, والأخضر, الترابي هناك بناء درامي وحكائي للشخصيات يصنعه الراوى كأنه جوقة مسرح.
الشخصيات فى كل دور من أدوارها التى حملت أدوار النبوة عبر رسائل ضمنية تمخضت عن خلق حالة من حالات الواقعية الروحية التى وظف من خلالها الصراع ,وكذلك التناقض النفسي بين العالم المهترىء بماديته ووحوش تكنولوجياته ,والاغتراب عن الذات والأخر إلى سلام حذر بعد انتهاء تلك الفوضي.
فماذا يريد أن يخبرنا الكاتب أن الإنسان قادر على الهدم كما هو قادر على البناء.
وأن ما نسميه الخير والحكمة المتمثل فى الشخصيات العشرة إنما هى عملية جهد حر يقوم فيها الإنسان بالبحث عن القيم بوصفها غايات ولا يمكن أن يكون فيه قهر لأن الخير وليد الحرية.
فنجد مثلا صورة الخضوع المزيف للواقع مثل مسافة من مسافات العوائق التى تقابل النص فى أكوانه المتعددة ونرى ذلك فى الخضوع لشيطنة العالم بأسم العلم فى المدينة الحمراء.
وتتجه الفصول نحو عمدة الحدث وهو مشهد دائم للبحث عن العملة البيضاء ليمنح القارىء شفرات مفتوحة, ومتعددة للنص سيسبر أغوارها فى الفصل السابع .
وهذا جعل الكاتب يبرع فى توصيف ملكات الخيال وتقنياته كا الوصف الدقيق للعالم الممكن بكل مقوماته من استحضار لعناصر الواقع الدينى التى تمثلت فى قراءة من آيات الحكمة لفك السحر, مما جعل الواقع والمتخيل فى غياب شبه كلى ممزوج فى كلا النوعين .
كذلك حضور الكائنات المتخيلة كالرخ الرخ بدر, عازر, صهوة , أدم, اسماك الفينولا, المسوخ المعدلة جينيا كسابر9 .
وهو ما يتضح لنا من خلال التماهى فى أبعاد النص تجليات تلك الشخصيات المتمثلة فى الأشباح التى تخلق من ثنايا السرد المسوخ والشياطين وغيرهم ,فهم يمثلون الوعى الجمعى المخيف من المعرفة والتعددية التى تنفتح على الذات وتكشف عريها ,وتمزقها الداخلى,والذى بدوره يمثل بحث دائب عن الواقع الداخلى الذى يفتح بعداَ جديداً للحقيقة .
كما أن سلطة الكائنات الميتافيزيقية فى رواية الخيال العلمي تتمحور ليس فقط بكونها قالباً يحمل رؤية خرافية ,بل كونها منظومة تدخل فى بناء النص السردى ,لتعبر عن نزوعها المبرح إلى حرية الذات ,وإلى خلق وجود طليق لاتحده حدود ولا تقولبه سلطة السائد .
كذلك الأفعال الخارقة للطبيعية التى منحت للشخصيات والتي عبرت عن تيمة العبور والانتقال هى سمة من سمات القوة التى نواجه بها ضعفنا البشرى, وأنساق تواصلية لمنح الخير والحكمة قدرة على وضع السلطة فى حيز أمن.
أما تراتبية الحدث نجد أن الحكماء العشرة بين فنان وفيلسوف وعالم مثلوا جسد الحكمة وروحها ويأتى دور الشيطان المعتاد فى التملص من الحقيقة الوجودية والسيطرة غير المعلنة على الفكر البشرى , مقابل خروج الرب بشكل خفي ليحل ذلك الصراع بفرض رؤية أكثر شمولية ومنطقية من نهاية الحساب لجميع الأطراف وهى آيات الحكمة أو نور العملة البيضاء.
فتعليم الرقص , ولعب المساجين بالألوان, وتعاليم المحبة كلها رمزيات تعيد ترتيب الواقع ومعطياته ,فالواقع معطي حضورى دائما ما يشكل كينونة رمزية تفرض واقعها فى رحلة البحث عن العملة البيضاء,فتتبنى الذوات السردية وعيا يتعالى على الواقع الزمني,ويتمرد على الانخراط فيه والمصالحة معه.
وفى إعادة البناء نجد أن الإنسان يختتم الحدث السردى الصاخب بتفاعل القوى الغيبية مع الحضور النصى لتفرض كينونته فى رحلة البحث عن الخصوصية والحرية المطلقة ليوتوبيا الحكمة ,فى مقابل اختزال الوعى عن مواجهة الحضور الخفى .
الزمكنية هنا وحش يمتلكنا جميعا بدايات مؤلمة ومبهجة فى الآن ذاته كيف نكشف العلاقة بيننا وبين محيط العوالم حولنا ؟ يجيب أحمد عاطف درة على لسان حال روح الخيال “كلنا أصبحنا بضاعة , كل مايلزمنا هو استرداد أنفسنا ص155.
علينا هنا أن نسأل هل الإنسان كائن غير مكتمل ؟ يوجين يتحدث بلسان حال الإنسان في فلك أسئلة محورية تفقد نا جوهر ذلك الواقع لتعيد بنائه مرة أخرى على أفكار مركبة توافق معرفة حقيقية أو ما يسمي “القضية” عند جون لوك.
وفى النهاية تغلفنا اللغة فى غسق النص بتجربة متقدة فى عمق لا ينال ,تنويعات لغوية وتراكيب تأخذ من الفلسفة نمطها, سؤال وجواب فى داخل نطاق صراع معزول فى الظاهر عن روية العالم وفي الباطن ينتهى بسؤال واحد متى نتحرر؟
متى تنتنازل عن ملكيتنا الزائفة مقابل الحصول على جنسية إنسانية خالصة, متى نتوقف عن إذواجيات معاييرنا التى نرفعه كقاعدة عالية , ونتعبد تحت سفحها حتى نجد العملة البيضاء فينا؟!.