فن الحوار والتواصل الفعّال في كتاب “الدر المنثور في مكنون جوهر العقول”
كتبت تغريد بو مرعي – لبنان – البرازيل
يعدّ الحوار الفعّال أحد أعمدة التفاهم الإنساني، وأساسًا للتعايش الراقي بين الأفراد والمجتمعات. فالتواصل الذي يقوم على الإنصات العميق والفهم المشترك يفتح آفاقًا جديدة للوعي والإدراك، ويخلق بيئة من الاحترام المتبادل، حيث تصبح الأفكار جسورًا تربط العقول، بدلًا من أن تكون سيوفًا تُشهر في وجه الآخر. ومن بين الكتب التي تبرز أهمية هذا النوع من التواصل، يأتي كتاب “الدر المنثور في مكنون جوهر العقول”، للكاتب والقاص والروائي القدير د. محمد فتحي عبد العال ، الذي يقدّم نموذجًا راقيًا للحوار الفكري، حيث يضع الكاتب نفسه في موقع السائل، ثم يقدّم إجابات شافية مقنعة تستند إلى المنطق والتوثيق، مما يجعله نموذجًا فريدًا في تعزيز ثقافة الحوار البنّاء.
الكتاب يعكس فلسفة الحوار بوصفه أداة لفهم العالم، وليس مجرد وسيلة لعرض الرأي أو فرضه. فعندما يطرح الكاتب تساؤلات جريئة تمسّ قضايا حساسة مثل التحرّش الجنسي واستغلال النفوذ، فإنه لا يكتفي بإبداء رأي شخصي، بل يدعم إجاباته بحقائق وأمثلة من التاريخ والأحداث الموثقة. هذا النهج لا يجعل الكتاب مجرد تجميع للأسئلة والأجوبة، بل يحوّله إلى مساحة فكرية تنبض بالحياة، تدعو القارئ إلى التأمل والمشاركة في الحوار، لا إلى الاكتفاء بالتلقي السلبي.
من أهم ميزات هذا العمل الأدبي أنه لا ينحاز إلى جهة دون أخرى، بل يقدّم الرأي في سياق موضوعي متزن، محاولًا إظهار أبعاد المسألة المختلفة، سواء كانت اجتماعية، ثقافية أو تاريخية. هذا التوازن هو جوهر التواصل الفعّال، حيث يتم تقديم المعلومة مدعّمة بالحجج دون تعصب أو إقصاء للرأي الآخر. فالمحاور الناجح هو من يملك القدرة على الاستماع، تمامًا كما يملك مهارة الحديث، لأن الحوار ليس ساحة معركة، بل مساحة للفهم والتقارب.
في ظل التطورات السريعة التي يشهدها العالم، أصبحت الحاجة إلى إتقان فن التواصل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. إذ لم يعد بالإمكان التعامل مع القضايا الكبرى بعقلية الانغلاق أو الرفض المطلق، بل بات لزامًا على المجتمعات أن تتبنى ثقافة الحوار القائمة على الإنصات والتحليل الموضوعي. من هنا، يكتسب هذا الكتاب قيمته الفريدة، لأنه لا يقدّم إجابات جاهزة فقط، بل يدرّب العقل على التفكير النقدي، وعلى بناء آراء تستند إلى المعرفة، لا إلى التلقين أو العاطفة وحدها.
تتجلّى براعة الكاتب في أنه لا يقدّم نفسه كمصدر مطلق للحقيقة، بل يحثّ القارئ على البحث والمقارنة والاطلاع. فالتواصل الفعّال لا يعني فرض الرأي، بل يعني القدرة على إيصال الفكرة بطريقة تحفّز الآخرين على التفكير والنقاش. وهذا ما يجعل الحوار في هذا الكتاب أشبه بمحادثة ذهنية ممتعة، حيث يُشعر القارئ بأنه جزء من العملية الفكرية، وليس مجرد متلقٍ لمعلومات جاهزة.
من يقرأ “الدر المنثور في مكنون جوهر العقول” يكتشف أن الحوار الفعّال ليس مجرد مهارة، بل هو نمط حياة يفتح الأبواب أمام فرص لا نهائية للفهم والتطوّر. فبقدر ما يكون الإنسان قادرًا على الاستماع والتحليل والتفاعل مع الأفكار المختلفة، بقدر ما يكون أكثر قدرة على استيعاب تعقيدات الحياة والتعامل مع اختلافاتها بحكمة ورحابة صدر. وهذا ما يجعل الكتاب إضافة قيّمة للمكتبة الفكرية، ليس فقط لأنه يطرح قضايا هامة، بل لأنه يقدّم نموذجًا عمليًا للحوار الذي يرتقي بالعقل والروح معًا.