أخبار عاجلةدراسات ومقالات

أ.د. عوض الغباري يكتب منال رضوان وحقولها الإبداعية فى ديوان “أبواب كثيرة لعدن”

منال رضوان شاعرة وقاصة وناقدة أدبية لها حضورها الثقافى البارز على الساحة المصرية، وإطلالتها العميقة على آفاق الفكر والفن والفلسفة بروح تسمو إلى الانفكاك من العالم المُقيِّد لحرية الذات فى الهيام بما تحب فى تجرد وتشوف إلى السعادة المفقودة. والعالم الشعرى لمنال رضوان محلق فى سماء مثاليتها فى الصراع مع الواقع البائس الحزين .

هى عاشقة للإسكندرية ملهمة الأدباء ، وعاشقة للكتابة بفنونها وأنواعها المختلفة التى تجسد وهج الكتابة واستطلاع منابعها الثرة الخصبة المتفردة بمعجم خاص، ومشاعر متدفقة بالروح الإنسانى فى صدق وعمق وإيمان بذائقة الفن وأثره فى نماء الذات والمجتمع. وهى لا تدخر وسعا فى ملاحقة سُبُل التجديد والتطور فى نظريات الأدب، ومعايشة أفكار الفنون والعلوم والسياسة ، والولوج إلى الثقافة العالمية متجليا فى اهتمامها بالأدب الروسى .

ومنال رضوان خلية نحل دائب الإنتاج فى مقالاتها الزاخرة بالتعبير عن شخصيتها الموسوعية، وأنشطتها التى لا تهدأ فى معاينة المؤتمرات والندوات والمحافل الثقافية المختلفة، وإسهامها المؤثر فى فعالياتها.

وهى صاحبة دواوين شعرية لها تفردها، خاصة فى تمثيل العنوان لرؤاها الإبداعية مثل هذا الديوان الذى معنا، وعنوانه “أبواب كثيرة لعدن”، ومجموعتها القصصية “طقس اللذة”. ويبدو الاهتمام بالعنوان وعلاماته الدالة حتى فى مقالاتها.

ولمنال رضوان حضور فى التلفزيون، وغيره من وسائل الإعلام.

وهى مديرة لموقع “أوبرا مصر” وقد أصدرت من خلاله ملفات مهمة عن اعلام أدبائنا مثل “يحيى حقي”، كما احتوى هذا الموقع زخما من المقالات التى ضمت الأقلام المتميزة من الكُتَّاب والمبدعين.

نذرت منال رضوان نفسها لأداء الدور الذى آمنت به لخدمة الثقافة والمجتمع بإخلاص وعطاء لا ينضب معينه مضحية بوقتها وجهدها خالصا لعشقها للكتابة وأثرها الإنسانى الإبداعى الفكرى الراقى.

وديوان “أبواب كثيرة لعدن” يحمل فى إهابه – ككل إبداعها- شخصيتها كما قدمناها وأكثر. وترتبط “عدن” بالجنة والفردوس الأرضى فى جانب من دلالتها التى تجسدت فى مفارقتها مع الافتقار إلى المعنى الجميل فى حياة الناس.

إنها تبغى الخلاص من الجحيم الأرضى باحثة عن سُبُل للنجاة منه إلى مدينتها الفاضلة.

وهى هائمة هيام الصوفى الحائر فى حبه الإلهى بين أحواله ومقاماته المعبرة عن الصراع بين وجوده فى المقام الرفيع للتصوف فى معية الله، وبين بشريته التى تقعده عن الوصول إلى هذا المقام الذى يصبو إليه.

ولا شك أن اهتمام منال رضوان بالتراث الصوفى وأبعاده الفردية النفسية، ومعجمه النافذ إلى أعماق الروح والقلب وراء حسها الإنسانى فى دقته ورقته وقد تجسد فى شعرها خاصة، وكتاباتها عامة.

وإهداء ديوان “أبواب كثيرة لعدن” مفتاح آخر لعالمها الشعرى بمفارقاته فى قولها: “إلى عابر أضله الطريق إلىَّ، ها أنا أمتزج بالظمأ كسراب”.

فى القصيدة التى أخذ الديوان عنوانها، وهى “أبواب كثيرة لعدن” تتجادل الحياة مع الموت فى فضاء صوفى يتجسد فى قول شاعرتنا:

الموت الذى لم تره عيناه

تشربته مسامات روحه

أيقظه كرضيع

يدغدغ كنوز الحليب

حياة أخرى يكسوها الأخضر

كرداء كان يبغض من يقصرون

الفناء على المتصوفة

إذ يتعين الفناء الصوفى حياة أخرى. وتتلاشى آمال الروح وآلامها، وتعبر من موت إلى موت وراء جدار فى قصيدة بعنوان “خلف الجدار”، تقول الشاعرة منال رضوان :

كلما مددت ذراع خجلى نحو السماء

لا أقطف غير روحى

وبعض أمنيات عابرة

من موت إلى موت

فالجدلية والمفارقة بين الموت والحياة مبعث حيرة إنسانية لا تلبث أطياف ابتساماتها ولآلى نجومها أن تشى بالرحيل.

وأسلوب الشاعرة سيف مسنون ضد القهر واليأس والإحباط والعدم، ولكن معجم اللغة لا يتسع لمعاناة الإنسان الساعى إلى السلام النفسى.

تقول منال رضوان فى قصيدة بعنوان “عابرة” والعنوان – مثل كل عناوين قصائدها – يحمل دلالته على بؤس الإنسان فى مسار الزمان ، وإحساسه بأنه وحيد يتقلب فى حياته على بساط طائر عابر:

كل مساء

فى باحة عينيك أرانى أعصر خمرا

أحسبنى أتنفس شعرا

ينسرب الليل من بين أصابعى

يتوجس حزنى خيفة

ألعق جرحى النازف

وأعزف مرثية الأحلام

وما أقسى رثاء الأحلام فى خضم هذا الخوف من فعل الزمان بالإنسان، لا يغنيه الشعر عن هذا الإحساس بالفراغ والعدم.

وما أجمل اللواذ بالصور القرآنية فى خضم هذه المشاعر التى تتجلى فى قولها:

أخفض جناح الذل لأسبلة الحزن

بينما تتنفس شعرا وتعصر من باحة الجمال خمرا. ومفردات الزمان بالغة الدلالة على العجز الإنسانى أمامه للقلوب الكسيرة الحزينة المهزومة.

تقول منال رضوان من قصيدة ” خبيئة فى مدار الليل” والزمان وليله المترصد للآمال، وكذلك صبحه دال على ذلك:

ما الوقت غير فواجع صباحية بلا توثيق

استيقاظ أصم

على أنين مبتور

لأشجار مدمَّمة

الوقت لا وقت له

إذ يباغتك كقاتل مأجور

عقب آخر قطرة

من دم معتق

إن خطوطه الحمراء تبتلع الأبيض:

ملء مساحة حزن

ومعجم الشاعرة متفرد، وصورها رائعة تنفذ إلى روح الفن الشعرى، وتؤثر فى المتلقى الذى يتفاعل مع صدق المشاعر التى تحملها أشعار منال رضوان  ، حتى الحرية تخالها الشاعرة شواهد قبور، تقول من قصيدة بعنوان: “لغة لم تعد لى”

صديقى: مفرداتك قاسية كما الموت

أوه كم كنت فتاة لطيفة !

وماذا عن الحرية

أليست أضرحة رخامية لمئات الخيول؟

لقيطة من شواهد

تعلن انتصار جماجم مضمخة بالعشب !

وينقلب اللون عتمة حيث:

الإنصات إلى بكائية عناقيد مبتسرة

وتعجز لغة البوح عن الإحاطة بالفواجع الإنسانية:

تُرى

أتتسع معاجم اللغة لمرادفات فتاة لطيفة

تذيلها هزيمة جائعة؟

وهل يحل الاستفهام المستمر أسرار التوق الإنساني إلى معرفة كنه الوجود؟

إن تشظى التجربة الإنسانية يجعل لغة الشاعرة أكثر تشظيا ودورانا فى مدارات الزمان بتقلباته القاسية على النفس الرقيقة.

وتبدو هذه الومضات التى تغوص على أغوار النفس فى تعبها بين الصفاء والكدر فى جنبات الديوان مثل قول الشاعرة من قصيدة بعنوان: “إغفاءة”:

لساعة واحدة

اتخذت حيوات كثيرة

امرأة بلا رأس

وأخرى بعينين واسعتين

حينما تحسستُ وهج الغبار

على كفٍ يابسة

فى مدينة يكسوها الظلام

إنه الوَهَنُ الذى يقتلع أسباب السعادة:

وقد صارت الجدران بلا لون

والنفس وقد شاهت صورتها، وتمردت على تعاستها:

صفعاتٌ تعلن الرفض

أوجاع شباك تلطمها الريح

وأخيلة مبتورة تجعل الشاعرة تهتف فى قصيدة بعنوان “بوليميا” بقولها:

اكتب وكأنك

على حافة هاوية

الاستشفاء بخطايا جديدة

حيلة مارقة فى جحيم الطريق

ويدور الليل والنهار فى دائرة لا نهائية تصورها منال رضوان بقولها:

هو الركض بدائرة صماء

معصوبة

كى تصل إلى نقطة اللانهاية

لكن الشاعرة تأبى إلا أن تجعل كلماتها مواجهة للتحديات بقولها فى نهاية القصيدة:

تضحك ملء دموعك

وتعود لتكتب !

والوقت وعبثيته هاجس الشاعرة التى تختم ديوانها به فى قصيدة بعنوان “ستار وملهاة عبثية” . والفناء حياة أخرى لمعاينة الأضداد كما قالت فى قصيدة “أبواب كثيرة لعدن”.

واللون الأحمر فى الديوان رمز للهيب الحياة وتشظيها كما فى قصيدة الشاعرة بعنوان : “ثمة أحزان صغيرة ولا شيىء” حيث تقول:

الآلام كنقوش من أحمر قان

والتمرد سمة لمجابهة الضعف، حيث تقول الشاعرة ! من قصيدة بعنوان “تمرد”:

الاعتراف طوق نجاة

من صنوف الكآبة كلها

هو انتحار الرمادى

والألوان دالة على رموز عديدة فى الديوان كما ذكرنا، وكقولها:

ويد زرقاء

أودعتها الجليد

فماذا يجدى البكاء على الأطلال؟

وأى جديد

والشعر بشدقى اجترار الألم

والوقت فراغ وعدم كذلك فى قصيدة بعنوان: “عبق”.

والريح تعوى فى صدرونا

كما تقول الشاعرة منال رضوان فى قصيدة بعنوان “جاثيا على شفير الدمع”.

إن الولوج فى أعماق النفس الإنسانية سمة أشعار منال رضوان فى هذا الديوان تطل منه على خواء الحياة من معناها الجميل وروحها الإنساني النبيل تعبيرا عن التمرد على القبح الذى اجتاح حياة الإنسان الذى تخلى عن فردوسه! أوكما تقول الشاعرة:

لماذا لا نطرح أوجاعنا؟

ولماذا حين تفتح الآفاق

يعود العَتْمُ يجثو فوق أكتاف الخيال

وحيث نعود مع الشاعرة:

والأحلام فى كف، وفى الأخرى رماد الشوق

وحيث يحوط الدمع والغبار والصمت والظلام والخواء حياة الإنسان:

والأمس الذى أدمى

عيون العمر إذا صار الطريق بلا رفيق

لا مكان

ولا سماء

إن الزمن وتخييبه لظن الإنسان المترقب لهناءته هو هاجس الديوان، يسيطر عليه بعد نفسى حزين، وأسف على ما آل إليه حال الإنسان فى هذا الظرف المعاكس لأحلامه وواقعه يستحيل صخراً أصم دون حياة.

ومن القصائد الطويلة فى الديوان قصيدة ” من سفر النكبة” وهى متصلة بالموت أيضا فى رثاء شهيدة أهدتها الشاعرة إلى روح “نبيلة نوفل” وهى طفلة فلسطينية لم يتجاوز عمرها أسبوعا ، اغتالتها يد الخسة والنذالة والوحشية فى حرب غزة ، تقول منال رضوان:

الساعة الآن ملء حزن

أغمضت نبيلة عينين كخطين

وكم كانتا تتسعان للموت

وتقدم الشاعرة فى هذه المرثية الحزينة رسالة تقول فيها:

إلى ورد الصباح القابع بيد الموت

وأنتم تزرعون فى كبدى هذه الجراح

وتنثال الدموع حارة على غياب الضمير الإنسانى حيال اغتيال الأطفال، وقتل مظاهر الحياة فى كل مكان فى غزة الشهيدة.

 

ومن وحى كذبة إبريل تقدم الشاعرة قصيدة طويلة أيضا بعنوان “الأول من إبريل” ، تقول منال رضوان:

لا فرية غير أقاصيص مهترئة

فى ميادين الحمائم

علىَّ ألا أغادر القطيع

وأطفال الحجارة فى فلسطين أبناء الدماء:

تلك الحجارة فى أيديهم

أنعتها بثمار التين

أصنع منها بناء

يماثل قبرى

إن صيحات العالم القوى المسيطر على أقدار الضعفاء ، وشعاراته الزائفة بالحرية وحقوق الإنسان محض هراء وكذب.

إن العالم الشعرى لمنال رضوان حافل بالتعبير عن شخصيتها الفنية وقد ارتوت من مناهل الثقافة الرفيعة عربية وغربية، وعبرت عن غياب الروح الإنسانية التى تتطلع إلى الحب والسلام، وتنحت عباراتها الشعرية بقدرة بارعة على الرمز الشفيف معانقا الواقع المخيف المحبط للآمال فى العيش بجنة عدن مستحيلة.

ولا شك أن لشعر منال رضوان ذائقته الفنية التى تنبع عن ذات شاعرة ساحرة البناء الدرامى للشعر، تنسج خيوطها الحريرية مجدولة بقوة بيان الشعر وقدرته على التأثير فى النفس، وقد نجحت الشاعرة فى تحقيق هذه المعادلة التى تجعل من ديوان “أبواب كثيرة لعدن” أيقونة شعرية تستحق الاحترام والتهنئة بهذا العمل الشعرى الرائع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى