منال رضوان تكتب كأفئدة الطير (١)

ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: “يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير”،
يشير هذا الحديث إلى قلوب المؤمنين الذين سيتصفون في الجنة بالرقة والنقاء، كما هي حال أفئدة الطير التي تتمتع باللطف والنداوة، هذه الأفئدة التي شبهها النبي صلى الله عليه وسلم لا تحمل الكراهية أو الحقد، بل هي قلوب ناعمة، مليئة بالرحمة والإيمان، خالية من القسوة والغلظة، تعكس خفة الروح وسلامتها؛ حيث يتمكن أصحاب هذه الأفئدة من التكيف السريع مع مشيئة الله، كما يفعل الطائر الذي يحلق في السماء بلا هموم أو قيود.
هذه الأفئدة تكون مليئة بالتوكل على الله، تمامًا كما أن الطير يعتمد في رزقه على الله سبحانه وتعالى، دون أن يثق في شيء غيره.
أما عن أنواع القلوب وأحوالها، فلنا وقفة مع كلام العلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد ابن قَيم الجوزيه (١٢٩٢ – ١٣٥٠م) الذي قسَّم القلوب إلى ثلاثة أقسام، فيقول:
إن القلب ينقسم إلى ثلاثة أحوال: القلب الصحيح، القلب الميت، القلب المريض.
أما القلب الصحيح، فهو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به؛ إذ قال سبحانه في محكم التنزيل: «يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم» [الشعراء: ٨٨ – ٨٩]،
فالقلب السليم هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله: إرادة ومحبة، وتوكلًا، وإنابة، وإخباتًا، وخشية، ورجاء.
والقلب الميت: ضد هذا، وهو القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيه سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه، رضي ربه أم سخط.
والقلب المريض: فهو قلب له حياة وبه عِلة، فله مادتان، تمده هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله والإيمان به، والإخلاص له، والتوكل عليه: ما هو مادة حياته. وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر والعجب، وحب العلو في الأرض بالرياسة: ما هو مادة هلاكه وعطبه.
فالقلب الأول حي مخبت لين واعٍ، والثاني يابس ميت، والثالث مريض، فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى العطب أدنى.
(للمزيد ينظر طب القلوب للعلامة ابن قيم الجوزيه)
أما عن أحوال أهل الأدب؛ فقد قسم أحد الحكماء الناس فيه إلى ثلاث طبقات، فقال:
أما أهل الدنيا فأكثر آدابهم الفصاحة والبلاغة، وحفظ العلوم والمنظوم، أما أهل الدين فأكثر آدابهم في رياضة النفوس، وتأديب الجوارح، وحفظ الحدود، وترك الشهوات. وأما أهل الخصوصية (الصوفية)، فأكثر آدابهم في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعهود التي بين العبد وربه، وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى الخواطر، وحسن الأدب في مواقف الطلب، وأوقات الحضور، ومقامات القرب*.
إن أهل القلوب من الصحابة والتابعين والمتصوفة قد تجسدوا أفعالًا بقلوبهم الرقيقة التي ظهرت في سلوكهم وأعمالهم، منهم الصحابة الكرام، مثل أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب؛ كان لديهم قلوب مليئة بالإيمان والرحمة، يتعاملون مع الناس بلطف وتواضع، رغم قوتهم وشجاعتهم في الحق.
كان قلب أبو بكر رضي الله عنه مليئًا بالصدق والرحمة، فلم يكن يحمل في قلبه إلا محبة لله ورسوله، بينما كان عمر بن الخطاب، رغم هيبته، معروفًا برقة قلبه واهتمامه بمصالح الناس، لا ينام الليل إذا شعر بأن هناك من يعاني.
أما التابعون، فقد ساروا على نهج الصحابة، حيث كان قلب الحسن البصري، أحد أبرز التابعين، مليئًا بالخشية من الله، وكان يشتهر برقة قلبه ودموعه التي لا تكاد تفارق عينيه، يتألم لرؤية معاناة الناس، وكان يواسيهم برفق ويحثهم على التوبة والرجوع إلى الله. ومثله بشر الحافي الذي جاء إلى الإسكافي يطلب شسعًا لإحدى نعليه*، وكان قد انقطع، فقال له الإسكاف: “ما أكثر كلفتكم على الناس!” فألقى النعل من يده والأخرى من رجله، وحلف بأن لا يلبس نعلًا بعدها….
أما في دروب التصوف، فقد كانت أفئدة المتصوفة تتصف بالنقاء والرقة، وكان من أبرز هؤلاء المتصوفين الجنيد، الذي كان معروفًا بتواضعه ورقة قلبه، فكان يرى أن القلب النقي هو القادر على استقبال نور الله، وأن المؤمن الصادق هو من يعيش بقلب خفيف وموصول بالله.
وختامًا، فإننا نعود إلى الحديث عن “أفئدتهم مثل أفئدة الطير” وهو ليس تشبيهًا وحسب؛ بل هي دعوة لكل مؤمن ليطهر قلبه من الغلظة والتعصب، ويعيش برقة وتواضع مثلما كان يفعل أهل القلوب من السلف، الذين أدركوا أن الطريق إلى الله لا يكون إلا بالصفاء الداخلي والإخلاص في القول والعمل.
هوامش:
*رسالة المسترشدين الحارث المحاسبي
*يقال شسِعت النّعلُ: انقطع شِسْعُها، سَيْرُها الذي يمسكها بأصابع القدم (معجم المعاني الجامع)
ـ أدب أهل القلوب، الندوي.