
في صباح رمادي، وطأت قدما صابر خشبة المسرح لأول مرة. لم يأتِ ممثلًا، بل باحثًا عن عمل، بعد أن شارف عمره المهني على النهاية. رافقه أحد المذيعين القدامى من الإذاعة، رجل وعده، ربما بدافع الشفقة، بأن يجد له شيئًا… أي شيء.
في الكواليس، سمع هرجًا وصخبًا، ورفضًا عامًا من الممثلين لدورٍ ما. قطع المخرج الفوضى بصوت حاد:
“أنا ممكن أخلي البواب اللي عندي يعمل الدور ده!”
همس المذيع في أذن المخرج وهو يشير إلى صابر، الهزيل، المنحني كظهر الزمن:
“ده كبير عمّال المكتبة في الإذاعة… قرب يطلع معاش. لو حتى شغلته في البوفيه، بس يدوق طعم الشغل تاني.”
ابتسم المخرج بفتور، وحدّق في وجه صابر. لم يكن يرى أمامه رجلًا، بل سجلًا من التجاعيد، جسدًا حفر الزمن عليه وشمه.
قال له أخيرًا:
“هتقوم بدور الميت.”
صابر لم يفهم. لم يرَ مسرحية من قبل، فكيف يُسند له دور؟
ضحك المخرج ساخرًا:
“ما تخافش… كل اللي عليك، تكون جوه التابوت. أول ما تسمع الخبطة، تفتح الغطاء وتقول: أنا صحيت… أنا مش ميت.”
في البروفة، حملوه كما يحملون جثمانًا، وساروا في موكب جنائزي وهمي. وضعوه داخل التابوت، وأُغلق عليه الغطاء. وهناك، في عتمة الخشب، بدأت شاشة الذاكرة تُعرض له حياته على طريقة الأبيض والأسود.
سوق السلاح، الحيّ الذي جاء منه من المنيا إلى القاهرة، كان يومًا ما نابضًا، صاخبًا، يفوح منه المجد. الآن هو خرابة… اسم بلا مضمون.
تذكّر يومه الأول في مكتبة الإذاعة، تحت الأرض، بين رفوف الشرائط. كيف كانت أصوات الوطن مخزّنة هناك، محفوظة ككنوز داخل توابيت مغناطيسية. كان يعرف كل شريط برقم تسلسلي، تمامًا كما يعرف اسم حفيده.
أحبّ شريطًا معينًا، رقمه 51578ر. عليه خطاب الزعيم عبد الناصر في تأميم القناة. كان يحمله في ذكرى 23 يوليو من إذاعة لأخرى، كمن يحمل مشعل الثورة لا مجرد شريط.
كان يقول لزملائه:
“احملوا هذه الشرائط كما تحمل الأم جنينها… فهنا صوت الوطن، وهنا ملامحنا، وهنا ذاكرتنا.”
لكن الزمن تغيّر… والزمن لا يستأذن.
في أحد الأيام، دخل المدير الجديد، وقالها ببرود مدهش:
“كل الشرائط دي… هتُعدم.”
صُدم صابر. صرخ:
“هتعدموا الذكريات؟ المكتبة؟”
رد المدير ببرود تكنولوجي:
“كل شيء اتحول لفلاش درايف. المكتبة دي بقيت بلا قيمة… وبلا موظفين.”
تجرّأ صابر وسأله:
“ممكن أحتفظ بشريط 51578ر؟”
رد عليه المدير كأنما يصف جريمة:
“اسمه اختلاس. حتى لو خدت الشريط، مش هتلاقي جهاز يشغّله. كلها اتكهنت… أعدمت.”
أعاد صابر الشريط مكانه بيد مرتجفة، كمن يُسلم طفلًا للموت. نظر حوله إلى الرفوف، ثم إلى العمال الصامتين كأشباح.
قال له عامل شاب بصوت مكسور:
“واحنا؟ مكانّا فين دلوقتي؟”
قال صابر وهو ينظر إلى الشرائط:
“كنا ذاكرة… وتحولنا لأرقام. كنا نبض… وتحولنا لصيغ رقمية تُضغط وتُنسى.”
ثم أسقط الشريط من يده. لم يكن سقوطه سقوط شريط، بل سقوط عصر… داخل تابوت.
عاد التابوت إلى المسرح. لم يأتِ أحد ليطرقه. لا مخرج، ولا جمهور، ولا حتى صوت يُنادي.
أدرك صابر، في تلك اللحظة، أنه لم يُكلَّف بدور الميت… بل أصبحه.
لم يكن تمثيلًا… بل مرآة.
ولكن… شيء ما داخله تمرّد. رفض أن يموت كشرائطه. قرر أن ينتفض.
في اليوم التالي، دخل صابر مكتب السجل المدني.
قال الموظف، وهو يتفحص استمارة قديمة:
“عايز تغيّر إيه يا حاج؟ العنوان؟ الوظيفة؟”
قال صابر بنبرة واثقة:
“لا… الاسم.”
“الاسم؟ ليه؟”
“عايز أسمّي نفسي رقم.”
“رقم؟! رقم إيه؟”
“51578ر.”
ظل الموظف ينظر إليه بدهشة، لكن صابر لم يبتسم، لم يشرح، فقط كتب اسمه الجديد في الخانة المطلوبة.
هكذا، لم ينتصر صابر على الموت، لكنه رفض أن يُمحى.
رفض أن يُنسى.
رفض أن يكون مجرّد ملف مضغوط… في فلاش درايف الزمن