الإذاعي شريف عبد الوهاب يكتب مصر ولع فرنسي

ـ ما بين زيارة ماكرون وتأملات جلال أمين
حين تطأ أقدام رئيس فرنسي أرض مصر، لا تكون الزيارة سياسية فحسب، بل تحمل في طياتها إرثًا طويلًا من التداخل الثقافي والتاريخي، يبدأ من مدافع نابليون ولا ينتهي عند كلمات ماكرون في جامعة القاهرة.
فالعلاقة بين مصر وفرنسا ليست مجرد اتفاقيات ومؤتمرات صحفية، بل علاقة أعمق، علاقة “ولع”… كما وصفها المفكر الراحل د. جلال أمين في كتابه الشهير “مصر ولع فرنسي”.
في هذا الكتاب، يكشف لنا جلال أمين كيف تسللت فرنسا إلى العقل المصري، ليس فقط بالجيوش، بل باللغة، وبالفكر، وبالذوق، وحتى بالأحلام.
يقول: تعلمنا ان نكتب بالعربية نحلم بالفرنسية، أن نحب. في القاهرة و
نحلم بباريس
اليوم، وبينما تُستقبل الوفود، وتُرفع الأعلام، وتُعزف الموسيقى الرسمية، علينا أن نتأمل ما وراء المشهد…
ماذا بقي من هذا الولع؟
هل ما زلنا ننبهر بالثقافة الفرنسية كما كنا؟
أم أننا بتنا أكثر وعيًا بهويتنا، وبقدرتنا على الحوار لا التبعية؟
زيارة ماكرون لمصر هي فرصة جديدة لطرح تلك الأسئلة القديمة المتجددة، تمامًا كما فعل جلال أمين، ولكن بعيون اليوم… وعقل اليوم.
كتاب “مصر ولع فرنسي”… تأمل في هوية وطن،
يتناول جلال أمين في هذا العمل العلاقة المركّبة بين مصر وفرنسا، منذ الحملة الفرنسية عام 1798 وحتى العصر الحديث.
لكنه لا يكتفي بالسرد التاريخي، بل يغوص في تحليل ثقافي وفكري عميق لهذه العلاقة التي تراوحت بين الإعجاب والانبهار، وبين الاستلاب وفقدان التوازن.
يرى أمين أن الحملة الفرنسية لم تكن مجرد غزو عسكري، بل لحظة فارقة في تاريخ مصر الحديث، حيث يقول:
لم تكن الحملة الفرنسية مجرد غزو عسكري، بل كانت بداية لتغيير جذري في الطريقة التي ينظر بها المصريون إلى انفسهم والى العالم،
ومن هنا بدأ الولع الفرنسي يتسلل، لا إلى السياسة فحسب، بل إلى تفاصيل الحياة اليومية، من التعليم إلى الأزياء، ومن اللغة إلى الذوق الفني، حتى أصبحت الفرنسية رمزًا للنخبة فيقول:
الفرنسية لم تكن فقط لغة، بل اسلوب حياة، تبنتها النخبة المصرية في طعامها وملبسها وادابها، وكأنها تبحث عن ذاتها في مرآة الاخر
لكن هذا الولع لم يكن بلا ثمن. إذ يرى الكاتب أن الانبهار الزائد قد يؤدي إلى ازدواجية في الهوية وفقدان للثقة بالنفس، ويعبّر عن ذلك قائلًا:
ما يثير القلق ليس التأثر بالغرب، بل الايمان بان لا خلاص إلا باتباعه حرفيا
وفي المقابل، لا ينكر أمين فضل الانفتاح على الثقافات، لكنه يشدد على أهمية الحفاظ على التوازن والهوية، فيقول:
لا عيب في ان نستلهم من الغرب، ولكن العيب أن نفقد ذاتنا في الطريق أليه
هكذا، يتحوّل “مصر ولع فرنسي” من كتاب عن علاقة ثقافية إلى تأمل عميق في مفهوم الهوية والاستقلال الفكري ،
لكن من هو الكاتب جلال امين
هو ضمير الفكر المصري
الدكتور جلال أمين (1935 – 2018) هو أحد أعمدة الفكر الاقتصادي والاجتماعي في مصر والعالم العربي.
ولد في أسرة ثقافية رفيعة، فوالده هو المفكر الإسلامي المعروف أحمد أمين، صاحب سلسلة “فيض الخاطر”.
شغل منصب أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، لكنه لم يكن مجرد أكاديمي، بل مثقف عضوي نقدي، جعل من قلمه منبرًا لتحليل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في مصر.
من أبرز سمات فكره:
رفض الانبهار غير الواعي بالغرب.
الدفاع عن الهوية الثقافية المصرية.
تبسيط الفكر دون تسطيح، ومخاطبة وجدان القارئ كما يخاطب عقله.
من أشهر كتبه:
“ماذا حدث للمصريين؟”
“عولمة القهر”
“التنوير الزائف”
“مصر والمصريون في عهد مبارك”
“محنة الاقتصاد المصري”
ترك جلال أمين أثرًا لا يُمحى في الوعي المصري والعربي، بوصفه شاهدًا ناقدًا على تحولات مجتمعه، ومؤمنًا بأن الثقافة ليست ترفًا بل وسيلة للبقاء والحفاظ على الذات.
وفي النهاية لابد ان نقول
إن زيارة ماكرون إلى مصر فرصة جديدة، لفتح ملفات قديمة، من بينها علاقتنا الثقافية بالغرب، وخصوصًا فرنسا.
فبين ما نستلهمه، وما نقلّده، وبين ما نأخذه وما نمنحه، تبقى الهوية المصرية في مفترق طرق دائم…
تمامًا كما وصفها جلال أمين:
أن تكتب بالعربية وتحلم بالفرنسية….فتضيع في المنتصف
وكما قال ماكرون وهو تحت قبة جامعة القاهره
مهما سافرت وتغربت فلا تنسى اصلك ومكانك الحقيقي.
بقلم الاذاعي: شريف عبدالوهاب
رئيس الشعبة العامة للإذاعيين العرب
رئيس الشبكة الثقافية بالإذاعة المصرية الأسبق.