الناقدة المغربية جوهرة أحمد تكتب تكثيف المعنى والصراع النفساني في قصيدة “عيناك” للشاعر الأردني محمد صوالحة

“النص”
عيناها قصيدة

لم يكتبها شاعر بعد

 كفاها خريطة وطن

 لم ينبت إلا الحب

 رغم الصفعات

 كانت أغنية  للدنيا

 خداها  رغم  العاصغة

أعلنا التحدي

  وأقسما أن يصفعا وجه الموت

 بكف الحياة,

“القراءة “
إن هذه القصيدة الموجزة، على الرغم من قصرها، لا يمكن اعتبارها مجرد وصف عابر، بل هي نافذة عميقة تطل على عوالم نفسية مكثفة للشاعر محمد صوالحة، كاشفة عن صراعات داخلية، وتطلعات نفسية، ومقصدية تتجاوز المعاني السطحية. إذ يمكننا الغوص فيها من منظور التحليل النفسي الأدبي، مستنيرين بمفاهيم مثل اللاوعي، وآليات الدفاع، والتسامي.

تفتتح القصيدة بعبارة “عيناها قصيدة لم يكتبها شاعر بعد”، وهي جملة تكشف عن نزعة مثالية شديدة لدى الشاعر. فهذه الصورة لا تصف جمال العينين المألوف، بل ترفعهما إلى مستوى الجمال الفائق، جمال لم يدركه أي مبدع بعد. وهذه الرغبة في التجاوز واكتشاف ما هو أسمى من المتاح، قد يعكس إحساسًا بالضيق من الواقع أو عدم الرضا عن المحدودية البشرية. إنها تعبير عن تعويض نفسي، حيث يخلق الشاعر عالمًا داخليًا خاصًا به يتميز بالجمال المطلق واللامحدودية، و ربما هروبًا من واقع قاسٍ أو نقص ما .. كما تشير إلى سعي حثيث نحو الأصالة والتفرد، والرغبة في عدم التكرار، وهو ما يتطلب نفسًا متمردة على المألوف.

ثم تأتي صورة “كفاها خريطة وطن لم ينبت إلا الحب”. هذه الصورة تتجاوز الجمال المادي إلى رمزية أعمق بكثير، خاصة في سياق نفسي. “الوطن” غالبًا ما يرتبط بالانتماء، الجذور، والأمان، وعندما “لم ينبت إلا الحب”، فإنه يشير إلى مكان مثالي، أشبه برحم دافئ. وهذا قد يعكس حنينًا لا واعيًا إلى مرحلة طفولية آمنة، أو بحثًا عن ملاذ روحي بعيد عن صراعات العالم الخارجي. أما الكف، بما تحمله من معنى العطاء والاحتواء، فتكتسب هنا بعدًا أموميًا يوفر الحماية والمحبة غير المشروطة. وقد يكون هذا “الوطن” ليس جغرافيًا بالضرورة، بل هو وطن نفسي داخلي، وهو ملاذ للشاعر يجد فيه الطمأنينة والأمان والحب الخالص، وربما هو تعويض نفسي عن تجارب مريرة أو صدمات خلفت شعورًا بالحرمان من الحب أو الأمان في الواقع. فالشاعر هنا يعيد بناء عالمه المثالي حيث الحب هو القانون الوحيد.

تنتقل القصيدة بعد ذلك إلى نقطة تحول عميقة مع “رغم الصفعات كانت أغنية للدنيا”. هذا المقطع يكشف عن مكابدة نفسية كبيرة، فالصفعات هي رمز للألم، للخيبات، والصدمات. لكن الأهم هو ردة الفعل، أي تحويل الألم إلى “أغنية”. وهذا ليس مجرد تفاؤل، بل هو عملية نفسية عميقة تسمى التسامي، حيث تتحول التجارب المؤلمة إلى طاقة إبداعية. فالشاعر لا يستسلم للألم، بل يحوله إلى رسالة حياة، مما يدل على مرونة نفسية عالية، أي القدرة على التعافي من الشدائد والتكيف معها.

وفي الختام تتوج القصيدة ذروة التعبير عن الإرادة النفسية والوجودية، “خداها رغم العاصفة أعلنا التحدي وأقسما أن يصفعا وجه الموت بكف الحياة”. “العاصفة” هنا هي رمز لكل التحديات الكبرى، سواء كانت صراعات نفسية داخلية كالقلق واليأس، أو تحديات خارجية كالمرض والفقدان. وإعلان التحدي من “الخَدين” يشير إلى أن الجسد (كرمز للحياة الملموسة) يتحد مع الروح (الإرادة) في مواجهة شاملة، مما يعكس توازنًا نفسيًا قويًا. فالجملة الأخيرة هي ذروة المواجهة الوجودية والتحرر من الخوف. الشاعر هنا لا يخشى الموت، بل يتحدى العدمية ذاتها، مؤكدًا أن الحياة هي قوة فاعلة، قادرة على الانتصار حتى على النهاية المحتومة. إنها رفض الاستسلام لليأس، وتأكيد على قيمة الوجود والجهد في بناء المعنى، وتحرر من الخوف الأكبر للإنسان، واستبداله بإرادة الحياة التي لا تقهر.

أما مقصدية القصيدة من منظور نفسي، يمكن تلخيصها في عدة نقاط. أولها التأكيد على قوة الحياة والإرادة البشرية، وإبراز لقدرة الإنسان على الصمود وتحويل الألم إلى قوة وإبداع. وثانيها، دعوة إلى التفاؤل المقاوم، الذي ينبع من عمق المعاناة ولا يتجاهلها. وثالثها، احتفاء القصيدة بالجمال لا كصفة خارجية، بل كقوة دافعة داخلية كامنة (القصيدة غير المكتوبة، الحب الخالص) تدفع الكائن للتمرد على القبح والموت. و رابعها، بيان وجودي عن قيمة الحياة، وكيف أن تحدي الموت ذاته هو ما يمنح الحياة معناها الأعمق. و أخيرًا، التعبير عن الذات الشاعرة، وعن فلسفتها الشخصية في التعامل مع الحياة والموت، وقدرتها على التسامي بالآلام وتحويلها إلى رؤى شعرية ملهمة.

الشاعر في هذه القصيدة لا يصف الواقع بقدر ما يكشف عن عمق ذاته، عن نفسية معجونة بالأمل والتحدي، نفسية لا ترى في الألم نهاية، بل بداية لانتصار آخر، وغناء آخر للحياة.

“عيناها قصيدة” تتجلى كلوحة شعرية مكثّفة، تعانق الرمزية وتستحضر الجمال بمعانٍ أعمق من مجرد الكلمات. حيث أن القارئ يستشفّ فيها نفساً صامداً، يتحدّى الصفعات والعواصف، وينشد الحياة في وجه الموت.
فالقصيدة تتّسم بلغة تتجاوز اليومي لتصل إلى مستوى من الكثافة والدلالة الأعمق، وهو ما يلامس رؤية الناقد البلغاري تزفيتان تودوروف، الذي يرى أن الشعر يعتمد على تحويل اللغة العادية إلى لغة ذات وقع خاص. فالصورة الافتتاحية “عيناها قصيدة لم يكتبها شاعر بعد” تحوّل العين من مجرد عضو بصري إلى كيان شعري متكامل، يحمل في طياته إمكانية الإبداع اللامتناهي. وهذا التحول لا يمكن اعتباره مجرد تشبيه، بل هو تجسيد لمفهوم الشعر الحقيقي الذي يكمن في غير المعلن عنه أو ما لم يُقَل بعد، أي الإمكانية المطلقة للتعبير.
كما أن “كفاها خريطة وطن لم ينبت إلا الحب” تخرج بالكف عن وظيفته الجسدية المباشرة لتحوله إلى رمز للوطن، لا الوطن الجغرافي بالضرورة، بل وطن المشاعر والأحاسيس، حيث الحب هو النبتة الوحيدة. وهنا، يتشابك الخاص بالعام، ويتداخل الجسد بالوطن، في رمزية مكثّفة تستدعي تأويلات متعددة. فغنى الدلالات في القصيدة يفتح الباب واسعًا أمام “صراع التفسيرات” الذي تحدّث عنه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور. الذي يؤكد بأن كل قارئ يمكنه أن يقارب النص من زاوية مختلفة، وأن يستخلص معانٍ قد لا تتطابق بالضرورة مع معانٍ استخلصها قارئ آخر. فمثلاً، يمكن قراءة “رغم الصفعات كانت أغنية للدنيا” على أنها صمود شخصي في مواجهة الظروف القاسية، أو أنها رمز لصمود أمة أو حضارة في وجه التحديات. وهذا التعدد في التأويل يثري النص، ويجعله حيّاً ومتجددًا مع كل قراءة. فليس من المفروض أن تفرض القصيدة معنى واحدًا، بل هي تدعو القارئ إلى المشاركة في بناء المعنى، ليكون النص حواريًا وتشاركيا بطبيعته.
وإذا ما نظرنا إلى القصيدة من منظور نظرية هانس روبرت ياوس حول أفق الانتظار، نجد أن القصيدة تستدعي قارئًا واعياً، قادرًا على تجاوز المعنى الحرفي إلى المعنى الرمزي. فهي لا تقدم سردّا مباشرا، بل تعتمد على الإيحاء والتكثيف، مما يدفع القارئ إلى ملء الفراغات الدلالية. هكذا تتحول القصيدة من كونها رسالة جاهزة تُرسل إلى متلقٍ سلبي، لتصبح دعوة إلى التفاعل، إلى مشارك القارئ في عملية الخلق الدلالي، مستدعيا مخزونه الثقافي والجمالي.
ثم تنتقل بنا بعد ذلك إلى بلاغة التحدي ومقاومة السلطة. التي تتجلّى في روح التحدي والمقاومة، خاصة في قول الشاعر: “خداها رغم العاصفة أعلنا التحدي وأقسما أن يصفعا وجه الموت بكف الحياة”. هذه الجملة تخرج عن سياق الجمال الأنثوي لتلامس فضاءات أوسع، فضاءات تتجاوز الذاتي إلى الكلي. إذ يمكن قراءة هذا التحدي على ضوء أفكار الناقد إدوارد سعيد في نقده للأدب وعلاقته بالسلطة والمقاومة. فالموت هنا ليس مجرد نهاية بيولوجية، بل قد يرمز إلى قوى قمعية، أو ظروف قاهرة، أو حتى الفناء الوجودي. وفي مواجهة هذا “الموت”، يأتي “كف الحياة” ليكون رمزا للمقاومة، للتمسك بالأمل والوجود، ولإعلان الانتصار على اليأس. إنها بلاغة تتجاوز الوصف الجمالي لتصبح فعلاً مقاومة وتحدي. أما على صعيد النقد العربي المعاصر، فيمكننا استحضار رؤية الناقد الجزائري عبد الملك مرتاض، الذي ركز على مفهوم “الأصالة والمعاصرة” في الأدب العربي. حيث أن هذه القصيدة، رغم حداثة أسلوبها وتكثيفها الرمزي، إلا أنها لا تنفصل عن الوجدان العربي الذي يقدّر قيمة الصمود والتحدي، والذي يحتفي بالجمال بوصفه قوة دافعة. فالقصيدة تتنفس روح الأصالة الشعرية العربية، لكنها تتطلع في الوقت ذاته إلى آفاق معاصرة في التعبير والتصوير.
إن قصيدة “عيناها قصيدة” ليست مجرد أبيات شعرية عابرة، بل هي نص شعري مكثّف، يتقاطع مع أحدث النظريات النقدية. فالقصيدة تتوهّج بالمعنى، وتدعو إلى تأملات عميقة في قضايا الوجود والصمود والجمال. إنها دليل على أن الشعر مازال قادرا على تحويل اللغة، وخلق عوالم دلالية جديدة، تفتح آفاقا واسعة أمام القارئ والمؤوّل.