أخبار عاجلةدراسات ومقالات

لشعر المترجم من الأيقونية التنافريّة إلى أيقونية التماثل ديوان ” الرشد المفقود” لــ جوستافو بيريرا (نموذجًا)

ترجمة د. علي عبد الرؤوف البمبي رؤية نقدية: د. محمد عبدالله الخولي

رؤية نقدية: د. محمد عبدالله الخولي

المقدمة:
يتوجّب على المتلقي- الآن – وبعد هذه السعة المعرفية التي احتشدت بها ذاته، ألّا يتوقف مصطلح الترجمة عند محدودية النقل، فالترجمة تشظّت فاعليتها في تشكُّلات الخطابات الأدبيّة والمعرفية على حد السواء، وأصبحت تلك البذور المسافرة من حيّز إلى آخر تتجاوز فكرة (النقل) أو الاستدخال بغية الكشف عن ماهيّة النص المنقول وحسب، بل تحولت الترجمة إلى تيمة حياة أو ما يشبه الحيوات المتنقلة/ المتعددة للنص الأدبيّ، وهذه الحركة تضمن الخلود للنص المترجم في أحيزة مختلفة وعوالم متعددة، وأماكن إن تنافرت في بعدها الطوبوغرافي فهي متماثلة متوحدة في أبعادها الإنسانيّة، حيث لا تتوقف عملية الترجمة عند فكرة النقل النصيِّ، والبحث عن مدى التماثلية بينه- بوصفه لغة تمثيلية- وبين اللغة المنقول إليها؛ حيث تتضمن فكرة النقل ذاتها نقل الحمولات الثقافية والفكرية والترميزية (التخييلية) وبناءات التركيب الشعري، وأنماط التفكير التصوري والرئوي للعالم إلى عوالم أخرى تتوسّع بعملية النقل هذه، ناهيك عن انسراب الرؤى الفلسفية المعمّقة لشعراء كبار مثل (جوستافو بيريرا) إلى عوالم أخرى وفضاءات نصية جديدة.
الكلمات المفتاحية:
جوستافو، بيريرا، الترجمة، البمبي، الأيقون، الشعر، اللغة، التماثل، التنافر، الخولي.
Introduction:
The recipient, now, with this vast knowledge that has amassed within him, must not limit the term translation to the limited transfer. Translation has fragmented its effectiveness in the formations of literary and cognitive discourses alike. These seeds, traveling from one space to another, transcend the idea of transfer or insertion, aiming to reveal the essence of the translated text. Rather, translation has transformed into a theme of life, or something resembling the mobile/multiple lives of the literary text. This movement ensures the immortality of the translated text in different spaces and multiple worlds, and places that, while discordant in their topographical dimension, are similar and unified in their human dimensions. The translation process does not stop at the idea of textual transfer and the search for the extent of similarity between it—as a representative language—and the language into which it is translated. The idea of transfer itself includes transferring cultural, intellectual, and symbolic (imaginative) burdens, poetic compositional structures, and patterns of conceptual and pulmonary thinking about the world to other worlds that expand through this transfer process, not to mention the infiltration of the profound philosophical visions of great poets such as Gustavo Pereira into other worlds and new textual spaces.

إنّ عملية الترجمة الأدبيّة تقع دائما على محك خطر عظيم، ولذا اختلف في شأنها قديما وحديثا؛ فــ “هناك من يقول: أن تكون مترجماً فأنت خائن، ويقصدون هنا (الخيانة الجمالية) للنص الأصلي عندما ينقل إلى لغة أخرى، تتطلب تدخل المترجم لإضفاء صفات جمالية ودلالية على النص الجديد، حتى لو أدى ذلك إلى بعض التنازلات المقبولة عن خصائص النص الأصلي، وبما لا يخل بجوهر المحتوى الدلالي للنص في لغته الأصلية.” ومن هنا تقع النصوص الأدبيّة المترجمة بين خمس أيقونات: المماثل/ المتماثل/ المتناظر/ المتشابه/ المتنافر، يستحيل تحقق أيقونية (المماثلة) في النصوص الأدبيّة؛ نظرا لتلك الهوة التي يصنعها المترجم للوصول إلى درجة من التماس مع الجمالية الشعرية المتغياة من النصوص الأدبية، ووقوع النص الأدبي على المحور الأيقوني لواحدة من هذه الأيقونات الأربع – التي تتقبل أحوزتها/مراياها النص الأدبيّ – يرتكن إلى قوة المترجم وعمقه المعرفي باللغة، واستغواره لسياقات النص المتوزعة على الذات الفردانية للشاعر، والبنية العميقة للمجتمعات وأسيقتها البانية/ المشكلة لها.
هناك من الشعراء من تندغم نصوصهم في عوالم الذات الإنسانية المشكّلة للعالم، ومثل هذه النصوص من شأنها – حال ترجمتها – أن تنفتح على الآخر بشكل مباشر مهما استغرقت هذه النصوص في عوالمها الرمزية، فعندما تنسلخ الذات الشعرية من محدودية الواقع وتنسرب إلى الوجود الإنساني -بسبب انهمامها بالذات الإنسانية المجردة عن الأيديولوجيات- تعبّر عن انكسارات الذات وطموحاتها في هذا العالم، وتتحول مثل هذه النصوص إلى أيقونة عالمية مندمغة مع الخطاب الإنساني المتعالي عن الواقع المأزوم، كــ ديوان: “الرشد المفقود” لــ (جوستافو بيريرا) حيث يترصّد الإنسان وقلقه وتشتته في هذا العالم الذي ضيّق الخناق على الذات الإنسانية، ولذا جاءت قصائد الديوان – في كليتها – متشكلة في إطارها النصي وبناءاتها التركيبية من حركيّة الذات في هذا العالم، ولذا وصلت معظم قصائد “بيريرا” إلى أقصى درجة ممكنة من التكثيف الذي يختزل العالم/ الوجود الإنساني في تركيبه الشعري المتوغل في العالم الرمزي المكثف، ومن جملة هذه القصائد التي وصلت إلى أقصى درجات التكثيف، قصيدة “سومارية” والتي يقول فيها (بيريرا):
هرب من ذاته
وسقط في آخر
مماثل له.”
إنّ الذي يمنح هذا الديوان درجة أيقونية (التماثل) – وهي أعلى درجات التماس بين الأصل واللغة المنقول إليها؛ تحرره من قيود الإيقاع المؤطر بقوانين الوزن وارتكانه إلى الإيقاعات النثرية التي تصطبغ – عادة – بلون التجربة، ولما كانت التراكيب النصية (الشعرية) في هذا الديوان محررة من القوالب الوزنية المُلْزِمَة جعلت حركيّة الترجمة بين النصين تنتقل بشكل مباشر وسلس دون تعقيد. ولعلّ السبب المباشر في تحقق (التماثليّة) بين النصين البعد الإنساني/ الذاتي الذي تنفتح على مرجعياته جل قصائد الديوان، حيث لا تنتمي المرتكزات النصية (الموضوعاتية) – عند بيريرا – إلا إلى الذات الإنسانية في عموميتها؛ وهذا ما جعل عملية (التماثل) متحققة ومنجزة بين النصين.
فإنْ مال النص الأول إلى السنن الثقافي- الخاص- المنقهر تحت سلطة المجتمع والمشتمل على أسيقته الخاصة، ربما ترتبك عملية الترجمة، إلا إذا كان المترجم مستغورا في البنية المجتمعية – الأولى – لدرجة تسمح له بانكشاف البنية (المجتمعية) حتى يتمكّن من نقل النص وهو منغمس في بنيته العميقة المشكّلة له، وبعد استقراء ديوان “الرشد المفقود” لـ (بيريرا) وجدنا أن قصائده بالكلية تسكن أفق الإنسانية المترفّعة عن الخاص (المجتمعي) والقابعة في الأفق الإنساني المتحرر، وهذا ما نلحظه – على سبيل التمثيل لا الحصر- في قصيدته الموسومة بــ “أغنية لحبة خرز.”:
أغنّي للحاضر المتناثر في أيدينا
النفي الذي يلقي بالأبطال في دائرة النسيان
ليكتشفوا هناك تعويجة فم المجد
أغني للمصير الأخير للبربرية
بهذا المُحيا للبلاغة الصامتة
التي ستكون دون غيرها فيما هو قادم وِجْهه الممْرور
ولن تشبه ما هو حقيقي
أغني لمصير الجمال بعادة الغرق تلك
التي تكفي ذرّة من شغفه القديم
لتجعلنا نسرع متعجلين في المغامرة الجديدة.”

نسلم بداهة – ومنذ البداية – أنّ الترجمة تتوزّع على حقلين: أحدهما: العلمي، وتندرج تحته صنوف بعينها تنحصر في المستوى الأول (الرمزي) من اللغة، حيث يعمد المترجم إلى أقصى درجة ممكنة من التماس بين اللغة المنقول إليها والأخرى المنقول عنها، إذ تترتب على ترجمة هذه النصوص تأسيسات نظرية تسمح بدخول النظريات العلمية – بشتى مستوياتها – إلى عالم آخر ولغة أخرى، وربما يترتب على هذه الترجمة حقوق إنسانية، حالما يترجم المترجم نصوصا قانونية، أو قضايا حقوقية تتعلق بمصائر الإنسان، وهنا يتوجب على المترجم أن يصل إلى درجة الأيقون المثال بحيث يصبح المأخوذ له كالمأخوذ عنه تماما، ولابد أن يصل المترجم بحصافته ومعرفته اللغويين إلى درجة الأيقون المثال، حيث يصبح الأخير شرطا في نقل المادة العلمية.
أما الحقل الثاني – وهو الأكبر خطرا والأكثر تعقيدًا – النصّ الأدبي، الذي تنحرف فيه اللغة عن مستواها الرمزي/ الطبيعي إلى مستويات التخييل، حيث تحتمل المفردة أكثر من دلالة، وينشطر النص في كليته بين مراتب التأويل، وتحتشد الجملة الشعرية بحمولات ثقافية وتاريخية وأيديولوجية وهي منغمسة في ماء في التأويل، فــ “الترجمة الأدبية هي أكبر خطرا من ترجمة الآثار العلمية؛ فلابد للمترجم أن يتخير لها اللفظ، وأن يعني فيها بجمال العبارة كعنايته بنقل ما اشتملت عليه من المعاني.” وهنا تكمن الإشكالية الكبرى التي يقع فيها المترجم الذي يتوجب عليه فــ “المترجم – بتعميقه للهوة بين التعبير والإبداع، وفي نفس اللحظة التي يعبرها، وبصفائه واختلاطه في نفس الوقت، وبشخصيته الداخلية والخارجية في قيامه بمهمته- يمثل معملا من نوع ممتاز، فيه يتم تحليل إكسير الأدب الغامض، بصورة أكثر صفاء مما هي عند الكاتب الأصلي الذي يصعب النفوذ إليه رغم مسوداته واعترافاته.” فالمترجم هنا لا ينقل لنا لغة النص مجردة عن جمالياتها، ولا منتزعة من سياقها، ولا منفصلة عن ماهية الشاعر ورؤيته للعالم.
فالمترجم لا ينقل من الشعر كلماته أو تراكيبه، بل ينقل لنا البصمة الإبداعية/ الجمالية التي تحفظ للنص ماهيته وللشاعر خصوصيته، وعلى هذا المرتكز -تحديدا- تتمحور إشكالية الترجمة للنص الشعري، فالمترجم هنا ليس مطلوبا منه الاقتراب من المعنى، أو إتيانه بالمعنى الموازي، فعملية النقل تستدعي ماهرة فائقة غير عادية، فالنص الشعري لا تنقل لغته وحسب، بل أدبيته وفكرته وحمولاته الدلالية. تتوسع الهوة أكثر فأكثر إذا كان النص الشعري ينفتح على مرجعيات خارج-نصية تفتح النص على فضاءات متعددة تتحرك معها وبها ديناميات التأويل كــ نص “الرشد المفقود” الذي تنفتح نصوصه على سلسلة من المرجعيات الخارج-نصية، فعندما نستدعي -على سبيل التمثيل لا الحصر- نصا من ديوان “الرشد المفقود” لــ جستافو بيريرا، حيث يقول:
من يرحل من ذاته نحو دمعته
يجد أشواقًا قديمة
وترا في الهواء
زجاجا باهتا ماءً زائفا
وجُدْجُدَاً حزينا لا يكفّ عن الغناء.”سس
من السياق العام النّصي للديوان تتجلى تيمة القصيدة التي يدور الديوان كله في فلكها، فالشاعر يبحث عن الشعر الحقيقي والقصيدة الجادة الإنسانية المعبرة التي تتجافى بجوهرها عن زيف الواقع الأدبي المؤدلج. يستدعي الشاعر مفردة (دمعته) بوصفها لازمة حال الحزن، حيث يحيل الأخير إلى نوع من التوحد بين الشاعر والهم الذاتي (الإنساني)؛ فالحزن الشعري حالة من الصفاء تتحول إلى مرايا ناطقه يجد الشاعر فيها عالمه الذي من خلاله يقول/ يغني كــ “جُدْجُدٍ حزينٍ لا يكفُّ عن الغناء”. فالنص الشعري – هنا – لا يتوقف عند هذا الحد ولكنه يخرج من أفق القصيدة إلى مرجعيات نصية فضائية لا متناهية، حيث تقفز تيمة النص من حيز القصيدة إلى حيز الإنسان وشعوره بالآخر والتضامن معه ومشاركته أحزانه، وهنا تتجلى الإنسانية في أبهى صورها.
إن لم تكن لغة الدكتور “البمبي” دقيقة ومتوغلة في أصل النص الأول، لما استطاع النص أن ينفتح على مرجعياته الخارجية اللامتناهية.
بسبب هذه الإشكاليات توقفت حركة الترجمة للنصوص الأدبية حتى بداية القرن الثامن عشر، حيث وجد الغرب أن المترجم واقع في إشكاليات ودوائر نصية متداخلة تعتاص معها عملية الترجمة، حيث تتجاذب هذه الدوائر المترجم وتوقعه في شركها – وإن لم يتنبّه لها – اختلت بنية النص، وخرج بذلك عن جماليته المتغياة من العملية الأدبية برمتها، فهو واقع في شرك شبكيّة معقدة بين اللغة وتراكيبها، وظروف النص وسياقاته، وأيديولوجيات الشاعر ومجتمعه، وإيقاعات النص، وأسلوبه ومضمونيته، وعليه أن يفكك هذا التعقيد الشبكي، وإن فعل المترجم ذلك، يستطيع النقد أن يتعامل مع النص المترجم بدرجة الأيقون المتماثل لا المتناظر ولا المتشابه، ولن يصل المترجم إلى هذه الدرجة الأيقونية إلا بإحدى طريقتين: الأولى أن يكون المترجم شاعرًا – كما نص على ذلك بعض الأساتذة-، والثانية: أن يتقمّص المترجم شخصية الشاعر، ويتعايش مع ظروفها، ويستغور النص استغوارا يصل إلى حد التماهي معه، وهذا ما نجده في قصيدة فلسطين للشاعر “جستافو بيريرا” والتي تقمص فيها الدكتور “البمبي” شخصية “جستافو” الشعرية، إذ القضية الفلسطينية هو مستغرق فيها بالكلية -نظرا- لأصله العربي وعقيدته وإنسانيته، وربما هو أكثر معاناة من الشاعر ذاته، ولكنه إن توقّف عند هذا الحد (المعاناة)، لن تتجاوز ترجمته محيط نقل الفكرة/ المعنى، فكان لزاما عليه أن يتقمص دور المبدع بغية أن ينقل لنا النص بمعاناته وأدبيته، وهذا ما فعله الدكتور “البمبي” حينما قال:
من ينتحب إلى جوارنا هو التخيل
يطير الأطفال أشلاءً في الهواء لكن الموت غير موجود
تتدحرج القلوب في شلالات دم
لكنه ليس إلا الغروب
آه أيها المنظر السيء لما هو خبيث
فضاء الألم مسوّر بالبكاء
لاشيء يهدِّئ من الضغوط والاختناقات
لكن البكاء غير موجود
تحت الأجساد تسيل أجساد حشرات نهمة
وترسم خطوطا فوق الجثث
المختارون من أثداء الذهب
بوقاحتهم الأزلية
لأنّ منهم سوف تكون مملكة الفزع المُذَهَّب
ولن يكون لهم وجه غير وجه الموت
لكنّ الموت غير موجود غير موجود
غير موجود
لا يوجد إلا في المخيلة
آه أيتها المكائد الرخيصة للقسوة!
يعي الدكتور “البمبي” خطورة الترجمة الأدبيّة وخصوصية النص الشعري، فلم ينفعل مع القضية الفلسطينية مكتفيا بنقل المعاناة، ولكنه نقل النص الأدبي الذي تتجوهر فيه المعاناة، وهنا تكمن حرفية المترجم وأمانته، تلك الأمانة التي توجب عليه أن يكون مبدعا قبل أن يكون مترجما، وهذا ما نص عليه الدكتور “البمبي” في حديثه عن إشكاليات الترجمات الأدبية، حيث يقول: ” إن ترجمة النص الأدبي، تحتاج إلى الخيانة المشروعة في حدود الإبداع والأمانة في نقل النص، مشيرا إلى أن روح المترجم تسهم في ترجمة النص الأدبي والتي تتطلب نقل خصائص وصفات اللغة إلى اللغة المترجم إليها النص… كما أكّد على أن المحافظة على النص الأدبي تتطلب امتزاج روح المترجم بالقارئ بصياغة النص بجانب إبداعي وروحي، فالجانب المشترك بين المترجم والمتلقي هو النص المترجم.” وهذا متلاحظ لدينا عندما تناولنا ديوان “الرشد المفقود” بالقراءة والتحليل.
لعل هذه الإشكاليات هي التي جعلت الغرب حتى القرن الثامن عشر الميلادي يحجم عن ترجمة النصوص الأدبيّة، حتى وإن اختلفوا في الأمر، فالغلبة كانت للمنع، وكانت لهم حججهم القوية في توقيف حركة الترجمات للنصوص الأدبيّة، حيث “شبه (شيلي) عملية الترجمة بوضع بنفسجة في بوتقة ماء نغليها لنستخلص سر جمال لونها وسحر عطرها. واعتقد شلي أن ترجمة الشعر أمر غير ممكن، حيث إن الترجمة تنقل المعاني ولا تنقل التناغم الموجود في القصيدة.” وإن كانت مقولة (شيلي) في مجملها تجعل من النقل (الترجمة) حياة أخرى/ جديدة للنص الشعري حيث يقول: لو كان من الحكمة إلقاء زهرة البنفسج في بوتقة من أجل اكتشاف المبدأ العلمي للونها ورائحتها، فمن الحكمة نقل إبداعات الشاعر من لغة إلى أخرى. لابد أن ينمو النبات مرة أخرى من بذرته، وإلا فلن يخرج أية أزهار، وهذا هو العبء الذي خلفته لنا لعنة برج بابل.” تحمل مقولة (شيلي) الضدين (الجواز/المنع)، فعندما نعيد النظر إلى الصورة التي ارتكن عليها – مرة أخرى – نجد أن مقولته تسمح بعملية الترجمة، بل تصفها بوضع البذرة في أرض جديدة “حتى يتمكن النبات من الجديد من النمو. إذن، فمهمة المترجم هي تحديد تلك البذرة ومعرفة مكانها ثم الشروع في نقلها إلى تربة أخرى.” بينما يرى (بلتيه):” أن الترجمة الأمينة الوفية لأصلها لها فضيلة إغناء اللغة التي تترجم إليها، بما تنقل من كلمات وعبارات طلية وحكم، وأن ترجمة دقيقة خير من ابتكار أعوزه التوفيق.” ولعلّ هذه اللمحة تثري جوانب القوة في عملية الترجمة وتخرجها من حيز النقل إلى فضاء الإبداع، وقد وجدنا نماذج إبداعية في ديوان “الرشد المفقود” اندغم فيها “البمبي” اندغام المبدع لا الناقل،/ فيقول في نص “وتمضي الأحزان – النسخة الثانية”:
تأتي الوحدة محمولة على الأعناق
مثقلة بالأحزان أو بأثواب الحداد التي تلتصق بالعظام
في الحانات لا يوجد الخارج
كل شيء يمر دون توقف
في الدواخل
يشتاق المنعزلون إلى آلهة الحرب
وبعد أن يلقوا خلف ظهورهم الابتسامات الصغيرة
يشعرون بالتحرر
من رجفة خفية
وفجأة تنقشع الأحزان
وتستعيد الحياة قواها
وتتعانق المصابيح على الطريق
حيث أصبحت كلّ دقيقة دهرًا.”
عند التحديق في النص -أعلاه- لا تنتقل لك المعاني وحدها، ولا تتقافز نحوك الأفكار منسخلة عن شعرية مركوزة ومنوجدة بقوة في النص، حيث ينساب النص المترجم في حُلَّة شعرية محتشدة بالصور وشعرية التراكيب، دون إطناب ممل أو إيجاز مخل، وهنا تتجلى عبقرية المترجم الذي ينقل إلينا النص بصفته الأدبية وهي محملة بالرؤى والفكر، ناهيك عن انفلات مجموعة من الصور والأخيلة ليست بمعهودة لدينا في أدبنا العربي، كما احتشد النص بتراكيب شعرية جديدة مبتكرة ومن هنا تتحول الترجمة إلى رافد جديد يغذي النص العربي ويفتح أمامه فضاءات مغايرة من الإبداع العالمي.
هذه الترجمات المُبْدِعَة تعلي من شأن النص الأول/ المترجم عنه، وتضمن له الرفعة والخلود في آن، فكم من ترجمات أعلت من شأن النصوص وشعرائها، وكم من ترجمات بخست النص حقه وأفقدته سمته وأدبيته، وأدخلته في كهوف الموت، وهذا قتل عمد حيث يتم تقويض النص الأول – مع جماليته المفرطة- ومن ثم تدخله الترجمة حيّز النسيان، ولعل هذا ما جعل(دوبلي) يرى: “أنه لا يكفي الاعتماد على الترجمة في المحاكاة، إذ إنها لا تغني عن الأصل، حتى لو كانت أمينة وفية للأصل الذي ترجم عنه، لأنه لا سبيل فيها إلى نقل جميع الخصائص الأدبية للغة المترجم إليها.” وهنا يشترط (دوبلي) نقل النص بشعريته، وهو يرى أن هذا الأمر يستحيل حدوثه، ولذا، رفض – منذ البداية – ترجمة النصوص الأدبيّة، وقد اتفق معه الدكتور محمد غنيمي هلال شريطة أن يكون القصد هو الوقوف على كل الروعة الفنية للأصل المراد ترجمته.” واتسق معهما في نفس المضمار الدكتور مصطفى سويف حيث قسّم اللغة إلى استعمالين: الاستعمال الرمزي، والاستعمال الانفعالي، وأكد على أننا في التأليف العملي نحاول أن نقترب بقدر الإمكان من الاستعمال الرمزي، أما في الشعر فالاستعمال الانفعالي هو السائد. ويكون الاستعمال الأول لتنظيم الإشارات الذهنية وتوصيلها، بينما يكون الاستعمال الثاني للتعبير عن أحاسيس واتجاهات وإثارتها عند الآخرين.” ولذا وضع الأساتذة الكبار شروطا جادة لترجمة النصوص الأدبيّة، وأرى أنّ مثل هذه الشروط تتساوق وتتواءم مع طبيعة النص الأدبي، لا سيما الشعري منه.
ومن وجهة نظر فلسفية، أنّ ترجمة النصوص الأدبيّة ليست بالأمر المستحيل – مع هذه القيود الشرطيّة – حيث لا تمايز بين لغة وأخرى، فكل اللغات ترتكز على محورين: [المونيم- الفونيم] أصوات حرفية تتخلّق منها الكلمات والتراكيب، وفي هذا الشأن تستوي جميع اللغات، وبين [المونيم- الفونيم] يقبع العقل اللغوي المؤلف بين المونيمات والفونيمات، وهذا العقل يتحرك بحركية الذات الإنسانية التي تعي جوهر اللغة، وبناء على ما سبق، يستطيع المترجم نقل نص من لغة إلى أخرى، ولن تقف هذه الشروط/ القيود حائلا بينه وبين مراده، وتتحول عملية النقل إلى عملية إبداعية، وهنا تتحول الترجمة إلى عملية إثراء للغة التي يترجم إليها النص الأصلي؛ فعندما تطالع ديوان “الرشد المفقود” تجد من الصور والأخيلة والتراكيب ما لم يكن معهودا لدينا في نصوصنا الأدبية، وهذا نلحظه في مواضع كثيرة من الديوان، ومن هذه النماذج ماجدناه في نص “درس الفلسفة الأول”:
يبتدئ الأمر بإعلان مبدأ الوجود
دون أن يكون هناك يقين يعادل الوجود،
أو لا وجود لمبدأ
وعندئذ عندما يقال وجود، فلا يعني هذا التواجد
أو بالأحرى يُقال
تواجد بلا وجود
أو وجود بلا تواجد)
ومن هنا ينبع ما هو أثيري.”
تكمن خطورة النص – أعلاه حال ترجمته – في جُمَلِه الشعرية التي تحتاج إلى حنكة في نقلها؛ فانسراب الجملة الشعرية من لغة إلى أخرى يضع النص الشعري والجملة الشعرية على محك الخطر، فربما يضطر المترجم إلى تقطيع الجملة الواحدة إلى عدة مقاطع جُمَلِيّة، أو يختزل الجملة في حيز تركيبي أكثر تكثيفا؛ بغية أن يتم المعنى، وإن لم يتنبه المترجم لخطورة هذا الأمر – تهشمت البنية النصية (الشعرية) بين يديه، فالمترجم – وبشكل حصري، أمامه ثلاث طرائق حال ترجمته النص الشعري: النقل الحرفي وقد وصفه الأستاذ الزيات بالرداءة. النقل الجُمَلي وقد استحسنه الزيات وفق شروط تحول عملية النقل الجُمَلِي إلى حالة من الإبداع تتموسق مع شعرية النص، وبهذا تصبح الطريقة الثالثة والمثلى في عملية النقل، هي الطريقة الإبداعية التي تحفظ للجملة المنقولة شعريتها، وقد تحقق هذا النقل الإبداعي في النص السابق، حيث انطوت الجمل/ التراكيب على مضمرات القصد، واستبطنت المعاني في نسقها التركيبي، مع انغماسها في ماء الشعرية الذي لم تنفك عنه لحظة.
إنّ الترجمة لها إسهاماتها البناءة والهدامة في آن، فكما أثرت الترجمة الحركة الأدبيّة، وخلدت نصوصها وأدباءها، كما فعلت بــ “شكسبير” الذي لم يعرفه أبناء جلدته إلا عندما ترجمت نصوصه إلى الألمانية، وإن لم تكن الترجمة لتوارى “شكسبير” في طيات النسيان. ومن ناحية أخرى نجد إخفاقات لا حصر لها، كالذي فعله “غالب هلسا” عند ترجمته كتاب “شعرية الفضاء” لــ “جاستون باشلار” حيث تحولت ترجمته إلى جناية كبرى على المسرح الأدبيّ، حيث تحول الكتاب من” شعرية الفضاء” إلى “شعرية المكان” فاختلت الفكرة البشلارية المقصودة، حيث حصر الكتاب في الحيز المكاني وأبعاده، وهذا ما لم يكن يقصده “باشلار”. وما فعله “سامي الدروبي” مع الأدب الروسي الذي ترجمه من لغة وسيطة وهي الفرنسية، وبعد إعادة النظر في ترجماته -التى من خلالها عرفنا “ديستويفسكي” و”تشيخوف” – تبين أن العلاقة بين ما ترجم “سامي الدروبي” وبين الأدب الروسي مبتورة، وهناك حالة من التنافر بين ما ترجم “الدروبي” والنص الروسي الأصيل.
تكمن الخطورة كلها في طبيعة النص الأدبي، وما تحمله بنيته في طياتها، وتراكيبها، ولغتها التي ” تحمل تراثا وفكرا وثقافات وعادات وتقاليد وبيئة وإنسانا وتاريخا وسننا ثقافيا وبنية مجتمعية عميقة ومن خلال هذه المتواليات المطوية في باطن اللغة – ناهيك عن التدفقات الشعورية – يأتي الشعراء بالكلام الذي لو أراد مريد نقله لاعتاص عليه.” فالمترجم ينقل مع بنية النص البنية العميقة للثقافات الإنسانية، وتنسرب المجتمعات بطبائعها وتشكلاتها وبيئاتها داخل النص المترجم، ومن هنا تتحول عملية الترجمة إلى تزاوج حضاري عن طريق انتقال النصوص الأدبية من حضارة إلى أخرى، وهذا ما ركّز عليه الدكتور “البمبي” حيث أولى المفردات اللغوية داخل النص عناية خاصة، حتى تحولت – وفق تركيبها البنيوي داخل النص – إلى مرايا تحتشد عليها مرائي البيئة التى احتوت الشاعر ونما بين أرجائها، كما يحمل النص إشارات جلية توضح للقارئ كيف تنبني الصور الشعرية بنسق مغاير لما اعتدناه، ولكنها تتحد مع طبيعة الشاعر وتخيلاته التي تتوحد مع طبيعة بيئته، فيقول في قصيدة “ابتهاج لطبول، وجيتار وبوق”
ذهبنا ذات مرة للاسترواح
بنبيذ ومساءات
وطبول تموّجات بحر في الأحشاء
ذهبنا في طبول متسارعة بين جوانحنا
برقصات متنوعة ولهفات مستقرة في الروح
حملنا غطاء مؤخرة القارب إلى الطريق
ذهبنا بجيتار منتعش بنحيبه في العظام
ومرة أخرى بالألم في عرض البحر خلعنا القيود
في الكاريبي أدغال متوحشة
وسبوت مجد أكثر من أي وقت مضى
تجمع كلها أطراف البطولة
نبتكر الآن يوما كان من قبل
متحولا إلى حاضر
برقصة الرومبا وأنغام صفراء في ذهب الشروق
أطلقنا العنان لحفلات جديدة
وواحد ذو بوق جزِل لا يقاوم سيترك خضم بحره.”
الخاتمة:
يتوجّب علينا بعد استقراء الديوان أن نصل إلى حقيقة مفادها: أنّ الإبداع الأصيل من حيث النشأة الأولى يخضع لحركية الشاعر الذي يعيد تركيب العالم/ الوجود في البنية النصية المنسحقة تحت فعل “الرؤية”- بتعبير (لوسيان جولد مان)- تلك الرؤية التي فككت العالم ثم أعادت تركيبه نصيا. أما المترجم (الواعي) يقوم بعملية تفكيك مضادة للنص (الأول) ثم يعيد تركيبه مرة أخرى في ظلال جمالية مختلفة – نظرا لاختلاف اللغة الثانية وطبيعتها – فتنبني الرؤية الجمالية للمترجم نتاج تفكيكية النص الأول، بعد أن وصل المترجم إلى أقصى درجة من التوحد مع النص الأول وشاعره. ولعلّ ما وصلنا إليه في تحليل هذا الديوان ومراقبة حركة النقل فيه ترجمة لقول (أوكتافيو باث):
“إن الشاعر المستغرق في حركة اللغة، المشغول بالألفاظ دوما، يختار كلمات معدودة، أو تختار هذه الكلمات. وفي غمار جمعه بينها يبني قصيدته: أي إنها كيان لفظي يتكون من حروف لا تقبل التبديل أو الحركة. وأما نقطة انطلاق المترجم فليست حركة اللغة التي تمثل حركة الشاعر الأولية، بل اللغة الثابتة في القصيدة. إنها لغة تجمدت لكنها حية. وخطوات المترجم تمثل عكسا لخطوات الشاعر، إذ إنه لا يبني نصا لا يتغير من حروف متحركة، بل يفكك عناصر النص، ويحرر العلامات حتى تدور دورتها ثم يعيدها مرة أخرى إلى اللغة.”
(باث، 1971)

 

 

 

الإحالات والهوامش:

أسامة الدواح، الشعر المترجم بين منزلة القبول ومنزلة الرفض، مجلة الرافد الإلكترونية، Article-Preview
– جوستافو بيريرا، ديوان: “الرشد المفقود”، ت: على عبدالرؤوف البمبي، النابغة للنشر والتوزيع، ط1، مصر، 2025، ص 9.
– جوستافو بيريرا، ديوان: “الرشد المفقود”، ت: على عبدالرؤوف البمبي، ص 125.
– عبد الحفيظ محمد حسن، قضية ترجمة الشعر، دار الثقافة العربية، ط1، القاهرة، 1996، ص 15.
– نفسه، ص 6.
– جوستافو بيريرا، ديوان: “الرشد المفقود”، ت: على عبدالرؤوف البمبي، ص 121.
– جوستافو بيريرا، ديوان: “الرشد المفقود”، ت: على عبدالرؤوف البمبي، ص 127.
– على عبدالرؤوف البمبي، مقال: “الترجمة الأدبية هي الأصعب في كل الفنون”، موقع: اليوم السابع، الاثنين/ 28- ديسمبر/ 2015،
بالصور.. مترجمون: الترجمة الأدبية هى الأصعب فى كل الفنون – اليوم السابع
– عبد الحفيظ محمد حسن، قضية ترجمة الشعر، (مرجع سابق)، ص: 19.
– سوزان باسنيت وأندريه ليفيفر، بناء الثقافات – مقالات في الترجمة الأدبية، ت: محمد عناني، المركز القومي للترجمة، ط1، مصر، 2015، ص 121.
– عبد الحفيظ محمد حسن، قضية ترجمة الشعر، (مرجع سابق)، ص 20.
– جوستافو بيريرا، ديوان: “الرشد المفقود”، ت: على عبدالرؤوف البمبي، ص 7.
– جوستافو بيريرا، ديوان: “الرشد المفقود”، ت: على عبدالرؤوف البمبي، ص 19.
– محمد غنيمي هلال، دور الأدب المقارن في توجيه دراسات الأدب العربي المعاصر، مكتبة نهضة مصر، ط1، مصر، 1956، ص 9.
– مصطفى سويف، الأسس النفسية للإبداع الفني، دار المعارف، مصر، 1941، ص 303.
– جوستافو بيريرا، ديوان: “الرشد المفقود”، ت: على عبدالرؤوف البمبي، ص 8.
– عبد الحفيظ محمد حسن، قضية ترجمة الشعر، (مرجع سابق)، ص 24.
– جوستافو بيريرا، ديوان: “الرشد المفقود”، ت: على عبدالرؤوف البمبي، ص 53.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى