“فات الميعاد”… بين نجيب محفوظ والدراما الحديثة: التطابق أم التضاد؟

بقلم الكاتب الإذاعي/شريف عبد الوهاب
رئيس الشعبة العامة للإذاعيين العرب
حين تُستعار أغنية خالدة كـ”فات الميعاد” عنوانًا لعمل درامي، فإننا لا نتعامل فقط مع لحنٍ عالقٍ في الذاكرة، بل مع شيفرة وجدانية مشبعة بالندم، والفقد، والزمن الذي لا يعود. عنوان كهذا لا يجب أن يكون مجرد استعارة جمالية، بل مرآة للمعنى، وامتدادًا لفلسفة النص. ومن هنا نطرح السؤال: هل كان المسلسل الجديد امتدادًا لروح الأغنية؟ أم أننا أمام انحراف في الدلالة وابتعاد عن الجوهر؟
هذا المسلسل جعلني أستعيد ذاكره برنامجي الدرامي الاذاعي وكان اسمه، نهاية وبداية في غنوه وروايه،
قمت بالاستعانة بأغنية فات الميعاد لأنني وجدتها امتدادا لروح رواية ،بدايه ونهايه ،لنجيب محفوظ، ولكن
وهل من الممكن أن تنشأ مقارنة بين هذا مسلسل فات الميعاد، وبين رؤية نجيب محفوظ العميقة في روايته “بداية ونهاية”، والتي كانت اغنيه فات الميعاد مصاحبة لاحداثها الدرامية ،
في برنامجي الإذاعي، لم أتعامل مع أغنية “فات الميعاد” كخلفية موسيقية، بل كمفتاح تأويلي لفهم مصائر الشخصيات في رواية نجيب محفوظ. قرأت الرواية عكسيًا، من نهايتها إلى بدايتها، في محاولة لتفكيك العلاقة بين النهايات الحتمية والبدايات المضلّلة، ولرصد كيف يُمكن للزمن أن يتسلل من بين الأصابع، حاملًا معه الندم والفقد، دون فرصة للنجاة.
“بداية ونهاية” ليست مجرد حكاية عن عائلة مسحوقة تحت وطأة الفقر، بل هي ملحمة إنسانية عن سقوط الذات تحت سكاكين المجتمع. نفيسة، التي يحمل اسمها معنى “النفاسة والقيمة”، تتحول إلى رمز للعار، لتُمحى ملامحها في مرآة الأسرة والمجتمع. أما حسانين، وليس هو الاحسن بل هو الأسؤ، المتسلح بزيه العسكري، فيمنح لنفسه حق الحكم والقصاص، ملقيًا بأخته في النيل، ذلك الرمز الأسطوري للتطهير والاختفاء.
الموت في النيل، كما رسمه محفوظ، ليس فقط نهاية جسدية، بل هو غسل للعار، وفي اللحظة التي يحاول فيها البطل يتدارك لمحاوله الوصول إلى حلول بديله كانت نفيسة قد ألقت بنفسها في النيل وخرج منها صوتا أشبه بالعواء فنادى عليها نفسيه
وهنا خرج صوت ام كلثوم وهي تقول فات الميعاد
في المقابل، يأتي مسلسل “فات الميعاد” (تأليف محمد فريد، إخراج سعد هنداوي) ليقدّم قصة مغايرة تمامًا. تدور الحكاية حول “بسمة” و”مسعد”، حبٌ ينتهي، وأقدار تتفرق، لكن الأمل لا يموت. بسمة، رغم أزمتها مع مسعد، تبدأ من جديد مع “معتصم”، وتُنجب، وتنتصر على فكرة “النهاية”. أما مسعد، فيغرق في سلسلة من الخيبات، لكنه يظل يبحث عن نافذة للخلاص. فوجدتها في استرداد ابنته لكي يستعيد بسمه، فات الميعاد
العنوان هنا لا يتطابق مع الروح. فبينما تغني أم كلثوم: “فات الميعاد وبطلت أندم”، نجد المسلسل يعيد ترميم العلاقات، ويؤمن بأن الأمل يمكن استدراكه، ولو بعد حين. وكأننا أمام دراما حديثة ترفض الفقد، وتتمسك بإمكانية الترميم، مهما بلغت الخسارة.
هذا التناقض لا يخص المعالجة فقط، بل يضرب في عمق الفلسفة. نجيب محفوظ، ابن الأزمات الوجودية، كان يرى أن الإنسان محكوم بقدرٍ لا يرحم، وأن الزمن حين يمضي لا يعود، وأن بعض البدايات ليست سوى خدعة تقود إلى نهايات أشد مرارة. أما الدراما الحديثة، فتبدو متصالحة مع فكرة التغيير، مؤمنة بأن الحياة تمنح فرصًا ثانية، وأن الأبواب المغلقة قد تُفتح. لهذا كان اختيار اغنية فات الميعاد لم يضرب موعدا مع حقيقة ومضمون المسلسل
حتى في اختيار الأسماء، يظهر الفرق في الرؤية. “نفيسة” و”حسانين” عند محفوظ رمزان للخذلان والخطيئة والعقاب القاسي، بينما “بسمة” و”مسعد” و”معتصم” في المسلسل يعكسون رحلة من الحزن نحو البسمة، ومن الضياع نحو الاتزان. هنا تتجلى نظرة محدثة للإنسان، أكثر تعاطفًا، وأقل قسوة.
ربما يكمن الفرق الجوهري بين العملين في التعاطي مع مفهوم الزمن. “فات الميعاد” في عالم محفوظ يعني أن كل شيء انتهى… حتى قبل أن يبدأ. أما في الدراما الحديثة، فـ”فات الميعاد” لا يعني فوات الأمل، بل لحظة تأمل، تسبق إعادة البناء.
وفي النهاية، تبقى أغنية “فات الميعاد” أقرب في روحها إلى عالم نجيب محفوظ منها إلى المسلسل. فقد كانت الأغنية انعكاسًا لمأساة داخلية لا رجعة فيها، بينما تحوّلت في المسلسل إلى خلفية مزينة لمشهد درامي يسعى للشفاء والتصالح.
الفرق إذًا بين العملين، هو الفرق بين أدبٍ لا يخشى قول الحقيقة ولو كانت مرّة، ودراما تحاول دائمًا أن تجد نهاية أقل قسوة، حتى ولو لم تكن حقيقية.
