الرئيسيةدراسات ومقالات

أ. د. ربيع عبد العزيز يكتب تحقيق المحقق

تراثنا العربي أمانة بين أيدي العلماء بصفة عامة والمشتغلين منهم بتحقيق النصوص ونشرها بصفة خاصة. ولقد حمل تلك الأمانة محققون أثبات؛ منهم محمود شاكر وعبد السلام هارون ومحمد أبو الفضل إبراهيم ومحمود الطناحي وعبد المجيد دياب وهادي عطية مطر وأمين الخولي والدكتور بدوي طبانة والدكتور أحمد الحوفي. وإلى أولئك الأثبات يرجع الفضل الأكبر في إخراج الكنوز التراثية إلى النور؛ ذلك أن تحقيقاتهم عظمت في نفوس الباحثين معنى التحري والأمانة العلمية فضلا عن تعظيم الحس بالانتماء إلى أمة لم تكن في ماضيها عالة على أمة من أمم الدنيا .
إن إعادة تحقيق المحقق من تراثنا العربي مشروط بأمرين؛ أحدهما: أن يشوب النص المحقق عوار منهجي؛ كأن يعتمد المحقق على نسخة واحدة من مخطوط النص الذي يعكف على تحقيقه، وبمرور الوقت تظهر نسخة أخرى فيها إضافات تنهي عوار النسخة المحققة من قبل. ولقد حقق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، وحقق الدكتور النبوي شعلان الكتاب نفسه، ولكن الفرق كبير بين التحقيقين؛ فبينما نجد نواقص عديدة في تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نجد إضافات بالغة الثراء في تحقيق الدكتور النبوي شعلان؛ إضافات تجعل إعادة تحقيق كتاب العمدة ضرورة علمية يمليها الوفاء لتراث أمتنا، وتمليها الأمانة العلمية. هذا أمر.

والآخر: أن يكون في النص المحقق جزء أو أجزاء مفقودة، ومع فهرسة خزائن المخطوطات أو التقليب في مخطوطاتنا الموزعة في مكتبات أوربا، يعثر الباحثون على مخطوطة كاملة الأجزاء أو على أجزاء جديدة تستدعي إعادة تحقيق المحقق؛ آية ما سبق أن الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد حقق كتاب الموازنة بين الطائيين للآمدي، وأخرجه مطبوعا في جزء واحد، ثم أعاد السيد أحمد صقر تحقيق المجلدين الأول والثاني من كتاب الموازنة؛ بحيث استطاع أن يسد الثغرات التي تركها محمد محيي الدين عبد الحميد في تحقيقه. وجاء الدكتور عبد الله المحارب فحقق المجلد الثالث من كتاب الموازنة تحقيقا علميا حصل به على درجة الدكتوراة، كما أشار في تحقيقه إلى أن كتاب الموازنة لم يزل ناقصا.
في شيء مما سبق لا تثريب على محقق يعيد تحقيق كتاب سبق تحقيقه، ولكن مشكلة تواجه بعض الباحثين ؛ وهي أن الإعلام الأدبي لا يلقي الضوء على حركة التحقيق في العالم العربي، كما أن النقاد لا يتعقبون حركة التحقيق بما فيه الكفاية، ومن ثم فقد يعتمد أحد الباحثين في توثيق استشهاداته العلمية على العمدة أو الموازنة بتحقيق الشيخ محيي الدين عبد الحميد، لعدم معرفته بأن هناك تحقيقات أحرى أن يوثق منها بدلا من أن يوثق من كتب يشوبها العوار.
والمشكلة الأكبر أن يعاد تحقيق كتاب سبق تحقيقه دون أن تدعو إلى ذلك ضرورة علمية، بل إن التحقيق في هذه الحال يعد إضاعة للوقت والجهد والمال، وهو يضع المحقق في دائرة الشبهات.
لقد سبق أن حقق الدكتور محمد زغلول سلام كتاب عيار الشعر لابن طباطبا العلوي، وأعاد الدكتور سعيد المانع تحقيق الكتاب نفسه، كما أعاد الأستاذ عباس عبد الساتر تحقيق الكتاب نفسه. كذلك حقق الدكتور أحمد مطلوب والدكتورة خديجة الحديثي كتاب البرهان في وجوه البيان لابن وهب الكاتب، وحقق الدكتور حفني محمد شرف كتاب البرهان في وجوه البيان. وهكذا نجد للكتاب الواحد أكثر من تحقيق. هل ثمة ضرورة استدعت تحقيق تلك الكتب مرتين؟
أمامي الآن نسختان من عيار الشعر لابن طباطبا العلوي؛ إحداهما بتحقيق الدكتور محمد زغلول سلام، والأخرى بتحقيق عباس عبد الساتر. وإذ ننظر في نسخة الكتاب بتحقيق الدكتور محمد زغلول سلام نجد المحقق يشير إلى اعتماده في تحقيق نص الكتاب وتوثيقه ونشره على نسخة مصورة عن الأصل المخطوط بمكتبة الأسكوريال، كما نجد وصفا للخط وما في صفحات النسخة من توقيعات وعبارات التمليك وتاريخ إلى غير ذلك مما يلتزم به المحققون عند وصف مخطوطة الكتاب الذي يعكفون على تحقيقه.
أما نسخة عيار الشعر بتحقيق عباس عبد الساتر فلا نجد ثمة إشارة إلى أن الدكتور محمد زغلول سلام سابق إلى تحقيق عيار الشعر، ولا إلى الجديد الذي يستدعي إعادة تحقيق كتاب سبق تحقيقه، بل نجد مقدمة للناشر يتحدث فيها حديثا عن عيار الشعر ومؤلفه، أما الحديث عن النسخ المخطوطة- أو حتى النسخة- التي اعتمد عليها المحقق وبعثته على إعادة التحقيق؛ فلا أثر له، بل لا أثر لبعض استدراكات الدكتور محمد زغلول سلام أو تدويناته في هوامش التحقيق؛ ففي حديث ابن طباطبا العلوي عن ضروب التشبيهات يذكر الدكتور محمد زغلول سلام في الهامش الثاني من الصفحة (31) ما نصه: ” أورد أبو هلال في الصناعتين” ط: البجاوي وأبو الفضل 1962، ص 239″ ضروب التشبيه كما أوردها ابن طباطبا هنا مع شيء من الاختلاف والخلط” .

أما في نسخة الأستاذ عباس عبد الساتر فلا نجد إشارة إلى انتفاع أبي هلال العسكري في كتاب الصناعتين بما أورده ابن طباطبا في كتابه : عيار الشعر من حديث عن ضروب التشبيهات.
وفي تخريج قول الأعشى:
غراءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارضُها…تمشي الهوينى كما يمشي الوجى الوجلُ
كــأن مشيتَهــا من بيتِ جارتِهـــا… مَـــرُّ السحابـــة لا رَيْـثٌ ولا عَـجِـــــلُ
يحيل الدكتور محمد زغلول سلام في هوامش التحقيق إلى ديوان الأعشى ، ورقم القصيدة في الديوان، وإلى أن رواية الديوان هي” غراء بيضاء” ، ومن ثم ففي الروايتين خلاف طفيف. كما يقدم تعريفًا لمعنى الفرعاء؛ وهي كثيرة الشعر، ومعنى العوارض ؛ وهي ما يبدو من الأسنان عند الضحك، ومعنى الوجى؛ وهو حافي القدمين.
أما عباس عبد الساتر فلم يعبأ بتخريج بيتي الأعشى، بل اقتصر على تعريف العوارض بكونها الأسنان؛ وهو تعريف غير دقيق؛ لأن العوارض ليس كل الأسنان بل ما يظهر منها عند الضحك، كما عرف الوجى بأنه الظبي ؛ وهو تعريف لم يثبته الزمخشري في أساس البلاغة، بل أثبت الوجى: الحافي.
أما في تخريج قول الأعشى:
قالت هريرة لما جئت زائرها…ويلي عليك وويلي منك يا رجل
فنجد الدكتور محمد زغلول سلام يشير في هوامش التحقيق إلى أن بيت الأعشى في القصيدة السادسة من ديوانه، ورقمه (21). وأما الأستاذ عباس عبد الساتر فقد أغفل تخريج البيت.
وفي تخريج قول الطرماح بن حكيم:
لو كان يُخفى على الله خافية… من خلقه خفيتْ عنه بنو أسد
قـــوم أقـام بدار الذُّلِّ أوَّلُهُـم… كما أقامت عليه جِذمة الوتـد
نجد الدكتور محمد زغلول سلام يُعَرِّفُ بالشاعر ويقوم بتخريج البيتين من الشعر والشعراء، الجزء 2/ 596، أما الأستاذ عباس عبد الساتر فقد ترك البيتين دون تخريج.
إن تخريج النصوص من أبجديات التحقيق، وهو أدل على أمانة المحقق ودقته، أما عدم التخريج ففيه إخلال بإحدى قواعد تحقيق النصوص ونشرها. يضاف إلى ما سبق أنه لا توجد ضرورة علمية تستدعي أن يبدد المحقق وقته وجهده في إعادة تحقيق المحقق.
والواقع أن الصمت على إعادة تحقيق المحقق دون ضرورة علمية ماسة، يهدر الملكية الفكرية للمحققين، ويغري ضعاف النفوس بإعادة تحقيق ما هو محقق. وصونا لجهود المحققين وحماية للأملاك الفكرية يجب أن تُسَنَّ تشريعات تجرم إعادة تحقيق المحقق دون ضرورة علمية.

دكتور ربيع عبد العزيز
أستاذ البلاغة والنقد الأدبي
كلية دار العلوم- جامعة الفيوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى