أراء حرةالرئيسية

عماد خالد رحمة يكتب النقد المونولوجي أحادية العقل وانكسار جدلية الحوار

 

النقد، في جوهره، ليس مجرّد فعل تقويمي أو ممارسة سلطوية لإبراز العثرات، بل هو فعل تداولي وجدلي، يتغذى من التفاعل، وينمو في فضاء الحوار. غير أنّ ما يمكن تسميته بـ النقد المونولوجي، هو الوجه النقيض لهذا التصور؛ إذ يظلّ منغلقًا على ذاته، منكفئًا على مركزية عقلٍ دوغمائي مكتفٍ بذاته، يرى في ذاته معيارًا أوحد للحقيقة، فلا يسمع سوى صداه الداخلي، ولا يقبل من الآخر إلا ما يوافق يقينه المسبق.
_أحادية العقل وانغلاق الدائرة:

هذا النقد يصدر عن عقلانية أحادية، أقرب إلى السكون منها إلى الحركة، وإلى الثبات منها إلى التجدّد. وهو ما يشبه ما وصفه الفيلسوف الألماني هيغل حين تحدّث عن “الوعي الشقي”، الذي يعجز عن الانفتاح على الآخر لأنه يظلّ سجين تصوّره لذاته كجوهر مطلق. فالناقد المونولوجي لا يرى في الاختلاف إلا تهديدًا، ولا يتعامل مع الغيرية إلا بوصفها نقيضًا يجب إقصاؤه أو استيعابه في أفق الذات.
وقد أشار الفيلسوف الفرنسي بول ريكور إلى أنّ التأويلية الخصبة لا تنمو إلا في فضاء الحوارية، حيث يُعاد بناء المعنى عبر جدلية الاختلاف. أما المونولوجية، فهي تأويل دوغمائي، يعيد إنتاج ذاته بلا توقف، ويظلّ في مدار الاجترار والتحوير، كما لو أنّ الحقيقة ثابتة ومكتملة، لا تحتاج إلى إضافة أو مراجعة.
_الذات بين التقديس والتماثل:
إنّ الناقد المونولوجي، كما وصفته الفكرة المطروحة، لا يخرج عن حالتين:
إمّا مقدّس للأنا، متمسّك بطهرانية الذات، مقتنع أنّه وحده مركز الحقيقة ومصدر اليقين. وهذا يقارب ما نبّه إليه نيتشه حين حذّر من عبادة “الأنا العليا” التي ترفض أي نقد خارجي.
وإمّا موظِّف لآليات الولاء والتماهي، حيث يذوب في خطاب السلطة أو الجماعة، ويجعل من النقد أداة للتطابق لا أفقًا للاختلاف. وهذا يُحيل إلى ما وصفه أدورنو وهوركهايمر في جدل التنوير من تحوّل العقل إلى أداة للتبرير والتطابق، بدل أن يكون أفقًا للجدل والاختلاف.
_انكسار جدلية الحوار:
النقد المونولوجي يقوّض إمكانات التفاعل، لأنه يفتقد لما أشار إليه يورغن هابرماس من “فعل تواصلي”، حيث يتأسس المعنى على التبادل والتداول والتوافق بين الذوات. في غياب هذا الفعل، يصبح النقد انعزالًا فوقيًا، يفتقد إلى التداولية التي هي شرط المعرفة، وإلى الاتفاق الذي هو شرط الاجتماع. إنه انكسار للحوار وجدب في إمكانات التجدّد.
_شواهد من الثقافة العربية:
قد شهدت الثقافة العربية تجارب نقدية متعدّدة، غير أنّ كثيرًا منها وقع في فخ المونولوجية. فالناقد التقليدي الذي يُنزِّل النصوص منزلة المطلق، أو يقدّس التراث دون مساءلة، يظلّ في دائرة “التطابق المطلق”، حيث النقد هو تمجيد مستتر أو اجترار مكرور. وفي المقابل، فإنّ الناقد الذي يجعل ذاته معيارًا مطلقًا، ينكر كل ما سواه، يقع في “الاختلاف المطلق”، حيث يغدو النقد انعزالًا مغرورًا. وكلا الوجهين يقوّض شرط الحوار الذي هو جوهر النقد نفسه.
_نحو نقد ديالوجي؛
إنّ تجاوز النقد المونولوجي يتطلّب استعادة الروح الجدلية التي تحدّث عنها سقراط في محاوراته، والتي تقوم على السؤال والمساءلة، لا على التقديس أو الإقصاء. فالمعرفة لا تُنتج في الفراغ، ولا في صمت الأنا، بل في صخب الحوار، حيث تتلاقى الذوات، ويُعاد تشكيل المعنى عبر التبادل والتفاعل.
وهنا تكمن القيمة الكبرى للنقد بوصفه فعلًا تحرريًا، لا يُقاس بمدى تمجيد الذات أو استنساخ التراث، بل بقدرته على الانفتاح على الغيرية، وتجديد الفكر، وصناعة أفق جديد للحقيقة.
الخلاصة:
النقد المونولوجي، بما يحمله من أحادية وعزلة، ليس سوى صورة من صور العقل المنكفئ على ذاته، المطمئن إلى يقين دوغمائي، أو الخاضع لسلطة التطابق والولاء. أمّا النقد الحقّ، فهو ما ينفتح على الحوارية، ويحتضن الاختلاف، ويجعل من التداول والاتفاق شرطًا للمعرفة وفضاءً للتجدّد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى