لا تكونوا محايدين قراءة نقدية تحليلية متعددة المناهج في قصيدة آمال صالح
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

أولاً: المدخل إلى النص:
تأتي قصيدة آمال صالح “لا تكونوا محايدين…!” كتجلٍ شعري يزاوج بين البعد الوجودي والبعد الأخلاقي في خطابها، وهي صرخة شعرية ضد السكون والتواطؤ، ودعوة صريحة للانخراط في حركة الحياة. فالحياد هنا ليس موقفاً متسامياً أو عقلانياً، بل هو استقالة من الفعل، وانسحاب من مواجهة ما يقتضي الصرخة والانحياز. القصيدة تتوجه إلى القارئ/المتلقي كنداء، بل كأمرٍ شعريّ يتجاوز البنية التوصيلية ليغدو تحريضاً أنطولوجياً: أن لا يكون الإنسان محايداً أمام نداء الوجود والحرية والجمال.
– ثانياً: البنية الهيرمينوطيقية (التأويلية):
القصيدة تنهض على تكرار اللازمة “لا تكونوا محايدين”، وهي صيغة أمرية لا تحتمل التأجيل. إنّ تكرارها يخلق بنية طقسية ذات بعد إنجيلي أو نبوي، أشبه بالنداءات الكبرى في النصوص الدينية أو الملاحم التي تخاطب الجموع. هنا يتجاوز النص مجرّد القول ليؤسس معنى جديداً عبر فعل التأويل:
المحايد في ظاهر النص هو الغائب عن الانحياز الجمالي أو الأخلاقي.
لكن المحايد هو الإنسان المستقيل من مسؤوليته الوجودية، الذي يقف موقف “المتفرج” كما عند سارتر في نقده للامبالاة.
إذاً، القراءة التأويلية تكشف أن النص ليس شعراً تحريضياً فحسب، بل خطاباً وجودياً يتقاطع مع الفلسفة الأخلاقية المعاصرة.
-ثالثاً: البنية الأسلوبية:
الأسلوب الإنشائي: كثافة الأفعال الأمرية (اصغوا، اصرخوا، اضحكوا، اخرجوا، اخترعوا، تعالوا، ابتسموا) تكوّن موسيقى خطابية حادة، تمنح النص طابعاً شبه خطابي – شعري في آن.
_ التوازي: اعتماد التوازي التركيبي (لا تمروا محايدين/ لا تصطفوا دوما/ لا تكونوا محايدين) يعزز الإيقاع الداخلي.
_ الصورة الشعرية: تمزج بين الواقعي (الأزهار، الأشجار، المدن، الطوابير) والرمزي (نافذة الروح، قواميس جديدة، تباشير الصباح). هذا المزج يخلق طبقة مزدوجة للمعنى: صورة حسية وأخرى دلالية.
-رابعاً: البنية الرمزية والسيميائية:
الأحلام/الأزهار/العصافير: علامات للحرية والانبعاث، رموز لحياة متجددة.
المدينة/الطوابير/الساعات: علامات للجمود والاغتراب، تمثّل النظام الميكانيكي القامع للروح.
_ الخُضرَة/الصباح/الأغنية: رموز للخصب والأمل والانفتاح.
_ المساء/القصيدة المشتعلة: رمز للتحول، حيث الشعر يصبح فعلاً إشعالياً للمدينة الميتة.
_ السيميائية هنا تكشف عن ثنائية دائمة: الطبيعة في مواجهة المدينة، العفوية في مواجهة الانضباط، الروح في مواجهة الآلة.
–خامساً: البنية النفسية:
تحت الجلد الشعري، ينبض النص بقلق نفسي عميق من الاستلاب. إنّ الشاعرة تخاطب المتلقي بلهجة أقرب إلى التوسّل والرجاء (“أرجوكم لا تكونوا محايدين”)، ما يكشف عن شعور داخلي بأن اللامبالاة جماعية، وأن الغياب عن الانخراط بات مرضاً اجتماعياً. هذه النفسية المشحونة بالقلق تتحول شعرياً إلى طاقة احتجاجية، تشبه ما يصفه كارل يونغ بانبثاق “الأركيتايب” الجمعي المتمرد ضد القوالب.
–سادساً: البنية الدينية/الفلسفية:
في خلفية النص ظلال دينية واضحة:
النداءات المتكررة أقرب إلى الصيغ الوعظية القرآنية أو الإنجيلية (“لا تفعلوا… افعلوا…”).
الحياد يُقرأ كـ”خطيئة صمت” في حضرة الشر أو القبح. وهنا نستحضر مقولة مارتن لوثر كينغ: “أسوأ ما يذكره التاريخ ليس كلمات الأعداء، بل صمت الأصدقاء.”
فالنص بذلك يضفي بعداً أخلاقياً-دينيّاً: أن الحياد تواطؤ، وأن الانحياز للخير والجمال واجب وجودي.
–سابعاً: البنية الوطنية:
القصيدة مكتوبة من سياق تونسي/عربي، حيث الطوابير والساعات والعناوين ليست مجرد صور شعرية، بل انعكاس لواقع سياسي واجتماعي خانق. نداء الشاعرة “اخترعوا قواميس جديدة” هو دعوة للتحرر من قواميس السياسة الرسمية ولغتها الخشبية. فالخطاب الشعري هنا يلامس الحسّ الوطني في بعده التحرري، ويقاوم الانسحاق أمام بيروقراطية المدن والنظام.
–ثامناً: البنية الإيقاعية:
رغم أن القصيدة نثرية، إلا أنّ الإيقاع حاضر عبر:
_ التكرار: اللازمة “لا تكونوا محايدين” بمثابة ضربات إيقاعية متكررة.
_ التوازي الصوتي: (اصغوا/ اصرخوا/ اضحكوا) – يخلق موسيقى داخلية.
_ القافية المضمرة: في مقاطع متعددة تتجاور الأصوات النهائية (المحايدين/ العناوين/ مقيدين) مما يضفي تناسقاً خفياً.
–تاسعاً: الكشف عن ما تحت الجلد الشعري:
ما تحت الجلد في هذا النص هو صرخة ضد الاستقالة من الذات. توتر النص نابع من فجوة عميقة بين الواقع المتخشب والطبيعة المتوثبة للحياة. الرموز كلها تشي بهذا التوتر: بين الصباح والمساء، بين المدينة والطبيعة، بين الطابور والصدفة، بين التواطؤ والحرية. الشعر هنا ليس وصفاً، بل مقاومة، وصوتاً يريد أن يوقظ “المحايدين” من غفلتهم.
_الخاتمة:
قصيدة آمال صالح “لا تكونوا محايدين” نصّ تحريضي جمالي، يزاوج بين الرمز والأسلوب الإنشائي، ليشكل خطاباً يتجاوز حدود الشعر إلى الفعل الأخلاقي والاجتماعي. بقوة خطابها وأسلوبها الطقسي، تنتمي القصيدة إلى شعر المقاومة الوجودية والجمالية، وتدعو القارئ للانخراط لا بوصفه متلقياً محايداً، بل فاعلاً مشاركاً. إنها قصيدة لا تُقرأ فقط، بل تُعاش.
نص القصيدة :
لا تكونوا محايدين…!
بقلم آمال صالح
حين تتكلم الأحلام اصغوا لها…
لا تمروا محايدين
توقفوا عند العتبات
واصرخوا…
اضحكوا حتى تتفتح الأزهار
بكامل وعيها
توحي للطبيعة
أن تعطيكم أسرارها
لا تمروا محايدين
اخرجوا من بوابات الحروف المنسقة
بنظام شديد
حفظتها المدن
وعلامات المرور
أرجوكم لا تكونوا محايدين
أريد أن ترقص المدينة مع الطبيعة
حتى وإن غاب الأخضر
وأصبحت الأشجار تنمو
في رحاب منطفئة
اخترعوا قواميسا جديدة
وتعالوا نكتب
ذلك الكون ليس للموت
ذلك الكون هو الأخضر
في يد تصافح
وجبين تخرج منه تباشير الصباح
أما المساء
فهو حين تشتعل المدينة
فقط من صدى قصيدة
لا تكونوا محايديين
تسايرون الزمن بالمواعيد
وتركبون الأماكن حسب العناوين
اخرجوا يوما الصدفة من جيوبكم
ابتسموا لغريب
واحلموا مع العصافير المهاجرة
لا تصطفوا دوما في الطوابير
انزعوا الساعات
وانسوا أنكم مقيدين
تعالوا إلى جمال الكون
بفتحة في نافذة الروح
حين تصبح الأيام مثل نوتات موسيقية
تعزف لكم أغنية
خارجة عن المألوف
أرجوكم لا تكونوا محايدين…!