منال رضوان تكتب الذاكرة كفاعلية جمالية وجرح وجودي في أغنية بعمري كله ل..وردة
كلمات حسين السيد ولحن محمد عبد الوهاب

تعد أغنية بعمري كله التي كتبها حسين السيد ولحّنها محمد عبد الوهاب من أحد الشواهد على اكتمال المشروع الغنائي الكلاسيكي في مصر؛ حيث تتواشج البنية الشعرية المشحونة بالعاطفة فيها مع النسيج اللحني الذي يتسق وتجربة وجدانية كاملة، باعتبارها حكاية حب منتهية؛ حيث العطاء غير المشروط، والانكسار الذي لا يُحتمل، والذاكرة التي تأبى أن الخضوع.
النص الغنائي يقوم على دينامية التكرار، حيث تتوالى الجمل المتماثلة في أكثر من موضع، “حبيتك حبيتك حبيتك” أو “تاني تاني تاني” لتؤكد أن الحضور العاطفي هنا لا يُقاس بالمعنى الظاهر بقدر ما يُقاس بالأثر ؛فالتكرار يضاعف أثر الوجع لأنه يعيد إنتاجه على نحو دائري، فلا يُترك للمتلقي أي منفذ للخلاص، بل يجد نفسه داخل دائرة مغلقة، تُحاكي نفسية العاشق الذي لا يعرف سوى إعادة التجربة حتى في لحظة انهيارها.
لنجد أن الموسيقار محمد عبد الوهاب وظّف اللحن كآلية لإبراز هذا التوتر، عبر جُمل موسيقية تتصاعد ثم تنكفئ، مع إبراز دور الآلات الإيقاعية حتى في أقسى لحظات الشجن لتزيد القدر من الشعور بالعتاب الغاضب، أو هي أقرب ما تكون إلى موجة عاطفية تتكرر بصرامة قدرية، لتجعل النص أشبه بمونولوج داخلي متوتر، يمزج بين الانفعال الشخصي والجدل النفسي الحاد.
هذا البناء يبلغ ذروته في المقطع المحوري “ذكرياتي يا ذكرياتي”، الذي يمكن اعتباره البؤرة الدلالية للأغنية كلها؛ هنا يتحوّل النص إلى حوار وجودي بين الذات وذاكرتها، باعتبارها أداة استدعاء للماضي، ليس هذا وحسب، لكنها بدت ككائن مستقل يتجاوز صاحبه متخليًا عنه!
فالذكريات تُخاطَب بضمير النداء، ما يجعلها حاضرة حضورًا كيانيًا، تُعاش كآخر مغادر كأنها ذات بديلة أو “قرين” للمتكلم، هذا التحول من خطاب الحبيب إلى خطاب الذاكرة يكشف لنا انتقال الأغنية من مستوى التجربة الثنائية (العاشق والمعشوق) إلى مستوى ثالث أكثر تعقيدًا؛ حيث تصبح الذكرى وسيطًا مرواغًا، وحَكَمًا غير عادل، ورثاءً من دون عزاء في الوقت نفسه.
كذا فإن البنية اللغوية للمقطع تكرّس هذا الحضور؛ إذ تصف الذكرى:
كل حياتي وأكتر من حياتي، )
أحلى همسة بتواسي آهاتي.)
نحن هنا أمام تمجيد للذاكرة لا يقل عن التمجيد للحبيب نفسه في بداية النص غير أن المفارقة أن هذا التمجيد يعكس في العمق استحالة التحرر من سلطة الماضي؛ فالذاكرة ليست مجرد سجلّ، بل قوة مُلزمة تُعيد إنتاج الألم عبر الاستدعاء، إنها “ذاكرة جريحة” تفرض هيمنتها على الحاضر، فتحول الأغنية من مجرد رثاء للحب الضائع إلى تأمل في استحالة الانفصال عن التجربة حتى بعد انقصائها.
هذا المقطع لا ينفصل عن باقي الأغنية بل يعيد تعريفها؛ فبينما كان الخطاب في بدايات النص موجَّهًا إلى الحبيب مباشرة، لكن الانتقال إلى مقطع “ذكرياتي” يضع المستمع أمام تصعيد درامي، يتكثّف فيه معنى العاطفة بوصفها قَدَرًا يتجاوز الأشخاص أنفسهم، كأن النص يقول:
إن الحب يرحل، لكن الذاكرة تظل تملك زمام الأمر، هنا يتجلى البعد الميتافيزيقي للأغنية: الحب يتحول من علاقة زمنية محدودة إلى أثرٍ لا يسقطه الزمن، بل يتضخم بمرور الوقت.
وعلى المستوى الموسيقي، جاء هذا المقطع مُثقلًا بجُمل مطوّلة تُتيح للمطرب مساحة استطراد انفعالي، يعكس احتدام الوجدان بين الشوق والخذلان، عبد الوهاب يعيد عبر هذا التوظيف إسناد الدور الأساسي للغناء في التعبير عن الانفعال، بحيث يصبح الصوت نفسه امتدادًا لعمل الذاكرة، فهذا العتاب الصارخ يحيل إلى فكرة محاولة التمرد والرفض لتلك اللعبة النفسية التي مارسها الحبيب ثم عبر التكرار ظلت معاناتها تتأرجح بخيوط الذاكرة.
إن إدماج هذا المقطع المفصلي في البناء الكلي يجعل من الأغنية نصًا لا يمكن اختزاله في لحظة عاطفية عابرة؛ فهي تعلن أن الحب ليس حدثًا ينتهي، بل كيانًا يتجسد في الذاكرة، ليغدو الجرح “جرح العمر” لا مجرد تجربة ماضية، من هنا تأتي قيمة الأغنية؛ إنها لا تروي فقط قصة عاطفية، بل تضع المستمع أمام معضلة فلسفية مضمَرة، مفادها أن الزمن لا يمحو ما يتجذر في الذاكرة، وأن الحب في صورته الأكثر كثافة هو ذلك الذي يُعاش بعد نهايته اللازمة والوجوبية.
#منال_رضوان