أ. د نجيب عثمان أيوب يكتب سرديات المُسَآءلة والاستشراف لدى الحكيم في كتابه عودة الوعي

عاشت القاهرة والعواصم العربية كافة، بعد هزيمة الخامس من يونيو 1967م المنكرة والمدوية، حالةً نفسيةً وفكريةً كانت بمثابة صدمة إيقاظ وجرس إنذار، هزَّ كيان الأمة العربية بأكملها، ليعرف الجميع أن الأرض لم تكن هي فقط التي تحتاج لإعادة بناء وتشييد، بل الوعي الجمعي للمصريين وللعرب كافةً هو ما يحتاج إعادة صياغة قبل الأرض التي يمشون عليها، حتى يفيقوا الإفاقة الصِحِيَّة الصحيحة، دون ترميم ولا تلفيق خادع بخِدع النرجسية الجماعية المُضَلٍّلة.
فوسط صمت مُطبق يُحيطه خطابٌ تمجيديٌ مُكرر وممجوج، ارتفع صوتٌ جريءٌ لرائد الأدب التأملي والمسرح الفلسفي، هو صوت الكاتب الرائع (توفيق الحكيم) الذي وُلِد عام 1898م وتُوفي 1987م، عبَّر في كتابه الصادم (عودة الوعي) الذي كتبه بعد نكسة حزيران يوليو ١٩٦٧م، ولم يُسمح بنَشرِه إلا عام 1972م بعد أنقضاء الحقبة السياسية إياها.
لم يأت هذا الكتاب في مجرد رؤية فكرية اختلط فيها الأدب بالسياسة، بل كان وثيقةَ اتهامٍ فكري وسياسيٍ للعصر كله، كما كان صرخةً صريحةً وجريئة، كتبها أحد معاصري ثورة يوليو ١٩٥٢م، بل كان من مؤيديها والمشتركين في تسويغها وتسويقها، والذين آمنوا بها وما لبثوا إلا أن صُدِموا بمسارها التي انحرف عن أصول مواثيقها ومقاصدها؛ فصرخ في مؤلفه هذا معارضا لكل انحراف عن مبادئ الثورة المعروفة ضمنا بين القاصي والداني من أبناء هذا الجيل.
خرج الكتاب، الذي تَعرَّض للحظر وللهجوم الشرس، ولم يُسلط الضوء فقط على أخطاء الحقبة المقصودة فحسب، بل قدّم رؤية بديلة عميقة الجذور في التنظير لمفهوم الديمقراطية والليبرالية، متحديًا النسق الثقافي السائد آنذاك، وهو نسق تقديس الزعيم الأوحد ليُسكت الأصوات الناقدة كلها بتماحكات معارك التحرير ومواجهة مخاطر العدو الخارجي على بوابة الوطن الشرقية.
ف(عودة الوعي) إذن
لم يكن مجرد كتاب، بل كان زلزالاً فكريا ما زال صداه يُجلجل في أعماقنا حتى اللحظة الراهنة.
كان فكر الحكيم نبوءةً واستشرافا لمستقبل مصر والمنطقة العربية بأسرها، ولم تكن أحداث ٢٠١١م بعيدةً عما لخصه الحكيم من حكمة سياسية في هذا الكتاب.
حيث رأينا بأعيننا كيف تساقطت بعض الأنظمة العربية بعد عقود أربعة من نبوءة الحكيم نظاما بعد نظام بشكل عنقودي تلقائي مفاجئ (من تونس إلى مصر فسوريا فاليمن ثم السودان) وما زال المشهد في بعض هذه البلدان يُطاردنا كالكابوس حتى الساعة، يجعل من كتاب الحكيم نبوءةً واستشرافا لمستقبل المنطقة، وتحذيرا مخلصا يدعو للتغيير الناعم من خلال الفكر، لا من خلال العنف وثورات الشعوب غير المؤهلة لإدارة مثل هذه الأزمات.
كما أضحت رؤى الحكيم التي مرت عليها عقود متعددة مصدر إلهام سياسي لسرديات ما بعد ثورات الربيع العربي -إن صحت التسمية- فقد استوحى روائيون عرب ومصريون واستلهموا عودة الوعي في أدبيات رواياتهم ذات الطابع السياسي مثل: – السعودي عبده خال، في روايته “طعم أسود…. رائحة سوداء”
– والعراقي أحمد سعداوي، في روايته “فرانكشتاين”.
– والمصري يوسف رخا، في روايته “سيرة الناعمة”.
– والسوداني الإريتري، حجي جابر، في روايته “نساء عند خط الاستواء”.
هذه بعض أمثلة روائية من كل يثبت أن عودة الوعي كانت مصدر إلهام لهذه التدفقات السردية، بعد مرور أربعة عقود لتشيع أدبيات الثقافة المعرفية المتمردة، على ثقافة الخنوع والانبطاح المستجيبة للتغييب القسري للجماهير المغلوبة.
كانت أدبيات هذا الكتاب، بمثابة رؤية سياسية تأَمُلية واجهت تيارًا عاتيا من أنصار الزعيم المُلهم والتيار الأوحد، الذين هم من أصحاب مبدأ (ليس بالإمكان أفضل مما كان).
لقد جسَّد توفيق الحكيم رؤيته السياسية المتناقضة جوهرياً مع مسار الحقبة التي عاصرها بكامل وعيه ونضجه، موجها نحو وجهتين أساسيتين: الديمقراطية الليبرالية من جهة، والفكر العقلاني المستقل من جهة أخرى.
فابرز الديمقراطية بوصفها منطقًا وجوديًا حيًا، كفيلًا بإقامة المجتمعات الإنسانية السويَّة.
فلم يحصر الديمقراطيىة في آلية انتخابيةٍ أو في ممارسةٍ حزبية، بل عَدَّها جوهرًا كفيلا بتحقيق التقدم والتَحَضُّر، بل وضرورة حتمية لبناء دولة عصرية حديثة راقية بين مصاف الدول المعتبرة على الصعيد الإقليمي والدولي.
فإلغاء التعددية الحزبية وإخضاع السلطات جميعها لسلطة تنفيذية واحدة متمثلة في شخص الزعيم – أيًا كان هو- تُعدُّ خطيئةً كبرى.
لقد انتقد الحكيم بشدة (الديكتاتورية المُضمَرة) التي قامت متمحكة باسم الشعب والثورة، حيث من أهم أقواله في هذا الكتاب:
“لقد كنا نعيش في ظل نظام الحزب الواحد.. ولم يكن هناك مجال للرأي الآخر…….. فكيف نعرف الصواب من الخطأ؟؟؟! “.
لقد ناقش الحكيم حالة تغييب المعارضة السياسية الحرة بشكل مُتَعَمَد ومقصود، بجوار تعطيل المؤسسات النيابية عن فعاليتها التي تنظم العلاقة بين سلُطات الدولة الثلاث؛ هو هو ذاتُه ما أدى إلى غياب المحاسبة القانونية وبالتالي السياسية للنُّخَب الحاكمة، وتَوَجُّهاتها الذاتية المريضة التي هيمنت على مصير الوعي العام وتضليل الضمير الوطني عن مساره الصحيح، وسماه القرآن الكريم بالهوى في قوله: “ومن أضل ممن اتبع هواه” وقوله: “واتبع هواه وكان أمرُه فُرُطا”؛ مما كان سببا رئيسًا في تضخم الأخطاء واستمرارها وتفاقمها، وكانت نكسة الخامس من يونيو 1967م إحدى هذه النتائج بل أهمها وأدلها على ما أشار الكتاب إليه.
كما أدى ذلك بدوره إلى قتل روح الولاء والانتماء لمؤسسات الوطن الأسيرة، والتي كانت في أكثر الظروف إلحاحًا وحاجةً إلى روح الانتماء الوطني المخلص وتعاون كل الأطراف، لدفع الهِمم نحو إزاحة كابوس الظلم والتخلف والاستبداد الذي تسبب في شيوع روح اليأس والوهن العام بين صفوف الجماهير. وكان الإبداع والابتكار وروح التجديد الفكري والنقدي والتِقَنِي وملكاتِه، كان هو ضحية هذا الجو غير الصحي المسيطر على المشهد العام، كما كان الفساد سببًا في تسبيط هِمم المبادرات الفردية والجماعية على حد سواء.
وكانت تساؤلات الحكيم بأدائه الأقرب لتِقَنِيات سردياته الأدبية وحواراته المولدة للأفكار والتأملات، تشير لقارئ كتاب (عودة الوعي) بأن ديمقراطية هذه الحِقبة لم تكن بالطبع إلا زعمٌ لنظام ادعى ديمقراطيتَه المغلوطة، بل تَجَلَّت تزييفًا للوعي العام بخطاب إعلامي رسمي مزور، كَرَّس لدكتاتورية مستترة وراء خطاب عام ومُعْلَن، تتشدق به أبواق الإعلام ليصيغ الأداء الدكتاتوري الاستبدادي بصياغة تتحلى بألفاظ (الحرية / الديمقراطية / الوحدة) .
لقد كانت رؤى الحكيم في هذا السِفر – الصغير في حجمه الكبير في محتواه- دعوةً لاستعادة (العقل الجمعي) للجماهير، عبر الحوار والتعدد الذي دعا إليه مباشرة وبشكل صريح، على خلاف تلميحاته الأدبية في سرديات رواياته، والدرامية في حواراته المسرحية، بلغة إبداعية متحورةٍ بشكل دقيقٍ وعميق، على سبيل المثال كانت رواياته التي لمحت بتلك الأفكار النقدية: (عودة الروح سنة ١٩٣٣م – “يوميات نائب في الأرياف” ١٩٣٧م _ “بركسا” أو مشكلة الحكم ١٩٥٨م _ “الحمير” ١٩٥٩م_ “السلطان الحائر” ١٩٦٠م).
مثلت هذه الكتابات الإبداعية بتلميحاتها الأدبية في رواياته الخمس التي أَشرتُ إليها، سيرةَ الحكيم السياسية في فكره التحرري المتحضر والناعم، والتي أجملها صريحة في كتابه (عودة الوعي).
لقد اتخذ الحكيم من حرية التفكير المُعَبِّر وروح الليبرالية الحقيقة هدفًا أساسيا وتوجُّهًا واضحا لديه
تَجَلى هذا التَوَجُّه الليبرالي للحكيم في مركزية حديثه عن حرية الفرد والفكر في مشروعه المطروح في هذا السفر الصغير؛ حيث اعتبر أن قمع الحريات الفردية والفكرية باسم الأهداف القومية أو الاشتراكية، كان هو الأساس في صناعة الفساد الكارثي؛
فهاجم بقوة سيطرة الدولة على الصحافة والإعلام، واستلابها لمؤسسات الثقافة والفنون لخدمة خطاب سياسي واحد ماهَى هذا الخطاب بين الزعيم والوطن، كما ماهَى بين حزب الزعيم الوحيد (جوقته) الانتفاعية والمجتمع، مما أنتج – من وجهة نظره- حالةً ثقافيةً يلُفُها الخوف من ناحية والتملق والنفاق والوصولية من ناحية أخرى.
فقد رأى الحكيم أن هذا الوضع المريض قد أفقد المثقف دوره النقدي المستقل.
فكتاب (عودة الوعي) إذن نفسه هو تأسيس لفكر الحرية، بل هو تجسيد لهذه الليبرالية المنشودة في تأملات الحكيم وأحلامه لوطنه:
– فهو احتجاج صارخ على مصادرة حق المفكر في التعبير عن رأيه المخالف، حتى لو كان -هو هو- مُؤلِف كل من (أهل الكهف) و(عصفور من الشرق).
لقد أفصح توفيق الحكيم في كتابه هذا، بأن تحرير طاقات الفرد الإبداعية والفكرية هو المحرك الحقيقي لأي تقدم أو ازدهار.
كما ألحَّ الكاتب بقوة على تكريس احترام العقل وعلى حتمية قبول النقد لأي قرار – أيما كانت شخصية صاحبِه- لقد صرَّح بأن هذا هو البديل الأمثل للانغلاق المنطوي على الرعب من إرهاب النظام وعنف الدولة، وبالتالي يترتب عليه إضمار الكراهية والضغينة من ناحية، ومن ناحية ٱخرى يشيع سلوكيات التملق والنفاق والممحكات على نغمات سياسية مزورة؛ حتى تفيق الأمة من ثُباتها المطبق، في مواجهة الخطاب الثقافي السائد الذي تحوّل إلى “تمجيد” أعمى لزعيم أسطوري وإغلاق الباب على أي نقد لجلالته.
لقد رفع الحكيم راية العقل والنقد الذاتي الجريء، واعتبر “الوعي” الذي يدعو إليه هو وعي المرء بحقيقة وضعه في بلاده وبين أهله، وإدراكه لأخطائه في حقهم، فانتقد بشدة ظاهرة (عبادة الشخصية) واعتبار الزعيم معصوماً، معتبرا إياها انحرافا خطيرا عن مسار ثورة يوليو الحقيقي.
كما كانت دعوته إلى عودة الوعي، هي دعوة لاستعادة العقلانية والموضوعية في تقييم التجربة، والاعتراف بالأخطاء كخطوة أولى للإصلاح، بعيدًا عن الانغلاق الفكري الذي رآه سائدًا في عصره المقصود.
وأختتم مقالتي لك قارئي الأعز في تصورها السياسي، بأن كتاب (عودة الوعي) لتوفيق الحكيم، سيظل وثيقةً سياسيةً وفكريةً بالغةَ الأهمية، هذه الوثيقة تتجاوز سياقها التاريخي المباشر، إنه يشكل نقدا مؤسسيا لاستبداد ما بعد الثورة في الآتي:
– انتقد الحكيم في وثيقته هذه استبداد ما بعد الثورة، والذي انحرف به الهوى السياسي بعيدا عن مسارات ميثاقها المعروف، حيث قدَّم الحكيم تحليلاً مباشرًا صريحًا ودقيقاً لآلية تحول الثورات الشعبية نحو أنظمة سُلطوية تكرس الحكم الفردي ذا الحزب الواحد، مستغلةً شعارات التحرر والوحدة لإسكات الأصوات الديمقراطية والليبرالية المعارضة للموجة.
– كما ربط الحكيم بشكل واضح، بين غياب الديمقراطية في المؤسسات، مما حدى بها إلى اتخاذ القرارات الكارثية التي كانت سببًا في الهزيمة، لتبقى درساً سياسياً ثابتا.
– تأصيل المفاهيم الليبرالية والديمقراطية انطلاقا من الواقع المصري والإقليمي المحيط:
فلم يستورد الحكيم أفكارًا جاهزة من هنا أو من هناك، بل حاول تأصيل الديمقراطية والليبرالية كضرورات لنهضة مصر والعالم العربي الحديثة، مستنداً إلى رؤية عقلانية تنطلق من احتياجات المجتمع وإمكاناته وموروثاته، كما أكّد على أن التقدم الحقيقي لا يُبنى على أنقاض الحريات الفردية والفكرية.
– رأى ضرورة استقلال ثقافة الانحياز لمصالح المجتمع المدني واحتياجاته، لا لهوى النُخبة الحاكمة؛ لذا
شكَّل الكتابُ دفاعاً مُلهَمًا عن دور المثقف المستقل الناقد غير التابع للسلطة، وأهمية وجود فضاء عام حرٍّ يسمحُ بالحوار والتعددية كضمانات ضد الاستبداد وتضخم الأخطاء، وبالتالي استشراء الفساد والتردي.
– الموائمة بين قوة مؤسسات الدولة، واحترام حرية الجماهير ومشاركتهم صناعة القرار.
وبذلك يضعنا الحكيم أمام الإشكالية المركزية التي ما زالت تواجه المجتمعات العربية حتى الساعة وهي: كيف يمكن تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية دون التضحية بالحريات الأساسية والمشاركة السياسية الحقيقية؟ هكذا رفض الحكيم الاختيار الزائف الذي يربط بين الفعالية الاستبدادية والفوضى الديمقراطية.
وخلاصة القول هي:
إن رؤى توفيق الحكيم السياسية في (عودة الوعي) رغم نقدها اللاذع للحقبة المقصودة في كتابه، لم تكن معادية لمشروع النهضة، بل كانت تصويباً له، وكانت صرخة مدوية تنادي بألا نهضة حقيقية دون ديمقراطية فعلية وفاعلة، تحترم إرادة الشعب عبر مؤسساته، كما يُشار إلى أن إفكار الحكيم تُؤسس على أصول موروثة في تراث المنطقة، من الحض على الشورى والمشاركة في اتخاذ القرارات العامة والخاصة، وإطلاق العنان للتفكير المتأمل والنظر في مكنونات الفكر وأسرار الكون وبداية الخلق وتطوره، فلا تقدم ولا رقي دون حرية صريحة تحرر طاقات الأفراد وعقولهم، ولا وعي حقيقي دون عقلانية ونقدٍ ذاتيٍ شجاع.
ويبقى كتاب الحكيم (عودة الوعي) منارةً للمفكرين الأحرار ودليلاً على أن النقد، في لحظات الظلام الحالك، قد يكون أصدق تعبير عن حب الوطن وأعمق دعوة لصحوته، من الخطابات الإعلامية العلانية، التي توجهها المزايدة وممارسات النفاق والتملق، الذي يُنتج بدوره ممارسات العنف والتطرف الفكري الذي يدفع بالشر من الاتجاه المضاد، وبذلك لن تكون نتائج مرضية لا لوطن ولا لمواطن.
حفظ الله بلادَنا من كل مكروه وسوء.
أ. د نجيب عثمان أيوب.
جامعة حلوان..