“الأقدام تكتب” لكامل أبو صقر.. رؤية متكاملة ومتعددة الأصوات

عَمّان/ أوبرا مصر
يقدّم الأستاذ كامل أبو صقر في كتابه “الأقدام تكتب.. سردية بين المحطات والذاكرة” الصادر حديثًا عن “الآن ناشرون وموزعون” بالأردن (2026) مجموعة من القصص القصيرة التي تنبض بالواقعية والصدق، حيث تستند معظمها إلى تجارب وأحداث حقيقية. في اثنتين وعشرين محطة سردية، ينسج أبو صقر مشاهد متنوّعة تمزج بين الحدث السياسي والتجربة الإنسانية، لتشكّل معًا واقع معاناة الشعب الفلسطيني، وصموده، وأحلامه المعلّقة بين الوطن والمنفى.
هذه القصص، وإن اختلفت في موضوعاتها وأماكن وقوعها، إلا أنها تتوحّد في قدرتها على الغوص في جوهر الإنسان، وتوثيق تفاصيل رحلته اليومية في مواجهة الألم والتحدي. وجاءت كل قصة كمحطة من محطات قطار العمر، قصيرة في زمنها، عميقة في أثرها، وقادرة على أن تمنح القارئ متعة فكرية وأدبية في آنٍ واحد.
ورغم أنها تمثّل أولى تجارب الكاتب في مجال القصة القصيرة، إلا أن النصوص تحمل طابعًا إنسانيًّا صادقًا وواقعيًّا يلامس القلوب. فالأدب، كما يؤمن الكاتب، هو أولاً تجربة تُحكى، لا قالب يُحشر فيه الإحساس.
تبدأ الرواية بمحطة جنين، حيث يرافق القارئ شخصية جهاد القاسم، الصحافي الشاب القادم من مخيم بلاطة، وهو في رحلته نحو مخيم جنين لتغطية أحداثه. هذا المشهد يعكس أجواء التوتر والخوف التي يعيشها الفلسطينيون يوميًّا في ظل الاعتداءات، كما يشير إلى تأثير استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة على المشهد الإعلامي والإنساني.
بعد ذلك، تنتقل الرواية إلى أماكن مختلفة مثل دبي، حيث يُستعرض مكتب محاماة يضم موظفين من عدة جنسيات، في نقاشات تحمل أبعادًا سياسية واجتماعية عميقة. هنا، تُطرح فكرة “الطاقة الكامنة” التي يمتلكها الفلسطينيون رغم ضعفهم الظاهر، كرمز للصمود والتحول إلى قوة مقاومة.
وتتنوع المحطات لتشمل قصصًا شخصية وإنسانية، مثل قصة “بانو”، الشاب الهندي الذي يتهم ظلمًا بجريمة قتل، ويواجه محامي شجاع دفاعًا يبرز أهمية العدالة وتحمل المسؤولية. وفي محطة “وداع راقص في باكو”، يرصد الكاتب لحظة إنسانية بحتة تعكس الجمال والنقاء في الحياة رغم الظروف السياسية المعقدة.
كما تحتفي الرواية بالذاكرة الثقافية في محطة “الذاكرة الزرقاء”، حيث يلتقي القارئ بـ”زريق”، الطفل الذي يعشق الكتب ويعيش في ظروف قاسية، لكن يتمسك بالعلم والمعرفة رغم كل الصعوبات، وهو رمز للأمل في مستقبل أفضل. وفي محطة أخرى، “المهاجر الأخير”، تُبرز قصة عائلة فلسطينية تحاول الحفاظ على تراثها الزراعي رغم النكبات والانقسامات السياسية، ما يعكس واقعًا مأساويًّا يعيشه كثير من الفلسطينيين.
تتطرق الرواية أيضًا إلى قضايا اجتماعية حساسة، مثل نقد التقاليد المؤلمة في محطة “التطهير”، التي تناقش موضوع ختان الإناث والذكور، وتطرح أهمية التطهير النفسي والعاطفي بدلاً من الاقتصار على الجسد. كما تتناول محطة “النفسان” حوارًا فلسفيًا عميقًا حول النفس والروح، وتأملات في معنى التوبة والاختيار. أما في المحطة الأخيرة “الغفران”، تبرز قصة أبو يمام، الذي يحمل في قلبه حنينًا لوطنه من خلال حبّه للحمام، كرمز للسلام والمحبة، في مقابل الدمار والاحتلال الذي يواجهه الفلسطينيون. تقدم الرواية رؤية متكاملة الأبعاد، حيث يظهر الشتات، الحصار، الانقسام، المقاومة، والحنين كوحدات مترابطة في نسيج الحياة اليومية.
اللغة السردية في الرواية أظهرت واقعية القصص، حيث استخدم الكاتب أسلوبًا مباشرًا وحيًّا يمزج بين الوصف التفصيلي والحوار الطبيعي، مما أضفى على النص متانة وقوة في التعبير. كما أن استعمال الصور البلاغية والتشبيهات الذكية ساهم في تعميق التأثير العاطفي للنص، وجعل من كل محطة سردية تجربة فريدة تعكس واقعًا ملموسًا وذات بعد إنساني عميق. إن هذا التوازن بين الواقعية والعاطفة هو ما يمنح الرواية قدرتها على التواصل مع الجمهور من مختلف الفئات.





