أخبار عاجلةأراء حرةالرئيسية

باب غريب.. عبور الإنسان من الفقد إلى النور قراءة نقدية في قصة “باب غريب”

بقلم: حسن غريب أحمد روائي ناقد شاعر

 

في قصة “باب غريب” ينسج القاص كرم الصباغ نصًّا فريدًا على تخوم الرمز والأسطورة والتصوف، في تجربة سردية تنفتح على الوجدان الإنساني، وتغوص في أعماق الروح لتسائل معنى الوجود، وتبحث عن سرّ الخلاص في زمن ينهش فيه الفقدُ كلّ ما تبقى من دفء الإنسانية.
منذ السطر الأول، يضعنا الكاتب أمام مشهد روحي بامتياز؛ رجلٌ يُدعى غريب يخلو بنفسه تحت شجرة زيتون، يقرأ أوراده الليلية حتى يتجلّى له باب أبيض تحفّه الزخارف والنور. غير أن اليد الوضاءة التي منحته الكأس، هي ذاتها التي صدّته حين حاول عبور الباب. هنا يبدأ الصراع: بين الصفاء والنقص، الإشراق والعجز، الوجد والامتحان.
الرحلة من الرمل إلى المراعي الخضراء:
يتحوّل “غريب” في لحظة صفاء إلى كائن يرى الجمال في كلّ شيء. تتحول الرمال في عينيه إلى مراعٍ خضراء ترتع فيها غزلان الحضرة. هذه الصورة ليست وصفاً بل تجليًا روحيًا يعكس نقاء اللحظة الصوفية، حيث تتبدّل الرؤية لا الواقع.
لكن التجلي لا يكتمل، لأن الإنسان لم يزل أسيرًا لجسده ونقصه. لذلك تُغلق العتبة الأولى ويُعاد “غريب” إلى عالم البشر، ليبدأ طور الاختبار الحقيقي.

الفقد بوصفه طريق الخلاص:
تبدأ مأساة “غريب” بموت أطفاله واحدًا تلو الآخر، حتى يلفظ آخرهم أنفاسه بين يديه. هذه المشاهد المؤلمة تُروى بلغة شفافة، خالية من البكاء اللفظي، لكنها مشبعة بوجع صامت يقطر من بين السطور.
وحين يظهر الطائر الأخضر ليحمل جسد الرضيع إلى السماء، ندرك أننا أمام علامة صوفية عميقة؛ فالأخضر في الرمز الإسلامي لون الخلود والحياة الأبدية، والطائر رسول العوالم العليا. وهكذا يتحول الموت إلى عبور لا فناء، والفقد إلى طريق نحو التجلي.
الفتنة والامتحان الأخير:
حين تدخل الجارة على “غريب” وهو في خلوته، تكون التجربة في ذروتها. إنها فتنة الجسد بعد فتنة الروح. لحظة ضعف إنساني كادت أن تسقطه لولا صوت الهاتف الداخلي الذي يذكّره بالاحتراق الوشيك. فيفرّ من النار إلى التيه، حاملاً امرأته المريضة على ظهر الحمار، بينما يطارده أهل النجع واتهاماتهم الظالمة.
في هذا المشهد، يتجسد غريب بوصفه الإنسان المرفوض من مجتمعه، الطاهر الذي تُرمى عليه خطايا الآخرين. المجتمع هنا كتلة من العمى والجهل، في مقابل “غريب” الذي يرى الباب الأبيض — باب الحقيقة.
الباب الأبيض: رمز الكشف والخلاص:
حين يظهر الباب في نهاية القصة، نبلغ ذروة المعنى الصوفي والدرامي معًا.
السماء تضيء، والزخارف تتلألأ، والمطاردون يتوقفون أمام ما لا يستطيعون إدراكه. الباب يُفتح، وغريب يعبر.
لكن النص لا يقدّم النهاية بل الكشف: خلف الباب، يعود الرضيع إلى الحياة، وتشفى الأم، وتعود الطبيعة إلى خضرتها. هنا يتحقق العبور الكامل من الفقد إلى النور، من التراب إلى الخلود.
إنها ليست معجزة سردية فحسب، بل اكتمال الدائرة الصوفية: من الخلوة الأولى إلى الحضرة الأخيرة، من الظمأ إلى الارتواء، من الغربة إلى اللقاء.
اللغة: سرد يقطر شعرًا:
لغة كرم الصباغ في “باب غريب” تنبض بصفاء شعري عميق. الجمل قصيرة، متوهجة، تُصاغ بإيقاع الأوراد والتسابيح.
إنها لغة تدعو القارئ للتأمل لا للقراءة فقط، لغة تفتح الباب لا لتغلقه، وتحوّل السرد إلى نوع من الإنشاد الروحي.
الكاتب يمسك بخيوط الخيال والأسطورة، لكنه لا يغادر واقعية الوجع الإنساني؛ لذلك يتجاور في نصه الطائر الأخضر والطفل الميت، الباب الأبيض والصحراء، الغزلان والدموع. هذا التوازن بين الحسي والروحي يمنح القصة عمقًا إنسانيًا نادرًا.
خاتمة: “غريب” ليس شخصًا بل نحن:
في نهاية المطاف، “غريب” ليس بطلاً أسطورياً بل صورة الإنسان في بحثه الأزلي عن النور.
نحن جميعًا “غريب” حين نفقد أبناءنا وأحلامنا، وحين نُتّهم ظلمًا، وحين لا نجد من يسمع صوت أرواحنا.
لكن القصة تهمس لنا: إن الباب الأبيض موجود، وإن الطائر الأخضر ينتظر، وإن النور أقرب مما نظن.
كلمة أخيرة:
قصة “باب غريب” عملٌ أدبيّ يختزل رحلة الإنسان في هذا العالم بين المحنة والمعنى، بين الفناء والبقاء.
وهي تؤكد أن السرد العربي المعاصر، حين يتكئ على رموز التصوف والتراث، يستطيع أن يُنتج أدبًا خالدًا يوقظ فينا الإنسان لا الحكاية فقط.
نص القصة:
باب غريب
قصة: كرم الصباغ
خلا بنفسه تحت شجرة زيتون، و قرأ أوراد الليل؛ فصفا قلبه، و تحول الرمل في عينيه إلى مراع خضراء، رتعت فيها غزلان لم يبصر مثيلا لحلاوتها من قبل. و سرعان ما مدت إليه يد وضاءة كأسا، ما إن عب شرابها، حتى رأى الغزلان تطوف حوله كدراويش، يقيمون الحضرة، و فجأة ظهر في الأفق الرحب باب أبيض تكسوه هالات و زخارف سلبت عقله؛ فهرول صوبه كالمجنون. و لما هم بتجاوز عتبته، ردته اليد الوضاءة؛ فعاد “غريب” بروح خجلة يخصف ورق الزيتون على عورة نقصه.
(٢)
مرت ستة أيام، و في صبيحة اليوم السابع، اقتحمت امرأته خلوته بهلع، كانت تحمل بين يديها رضيعا محموما شاحب الوجه. تناول “غريب” آخر من تبقى من أبنائه برفق، و راح يتفحصه، و لما رأى السهم قد خرج من كنانته، ظل يداعب خصلات شعر الرضيع بأنامل مرتجفة، إلى أن فاضت روحه. ما أثقل أن يلفظ ولدك روحه بين يديك! انكب “غريب” على الرضيع، و راح يلثم خديه. لقد أذابته الحسرة، لكنه تماسك رغم هول الصدمة، و نهض؛ ليدفن ولده كما دفن أخويه من قبل. سار برفقة زوجته في صمت، كان قلبه يخبئ أوجاعا، فضحتها دموع طفرت على وجهه. رجل مكروب أحرقه الفقد، و امرأة ثكلى -لم يجف حليب ثدييها بعد- جرجرت قدميها، و راحت عيناها تسحان دموعا. و على شفير القبر، طلب منها أن تناوله جثمان الرضيع، فإذا بطائر أخضر يدنو. و في غمضة عين قبضت مخالب الطائر على الجثمان، و طار به بعيدا. و قبل أن تستفيق المرأة من ذهولها، كان الطائر قد انضم إلى سرب طيور لها نفس الهيئة. ولولت المرأة، و صرخت، في حين راح “غريب” يتابع جثمان ولده المعلق برجلي الطائر بعينين مشدوهتين، و قلب نازف.
(٣)
تغلغلت القروح في جسد الزوجة، حتى صار كالغربال. بينما ظل “غريب” عند قدميها يداوي علتها بخليط من أعشاب الصحراء. ثمة جارة داومت على زيارة زوجته بحجة الاطمئنان عليها، و لما رأت الفرصة قد حانت، قررت أن تراوده عن نفسه. كان في خلوته منذ أن فتح لها باب الدار، غادرت الجارة حجرة الزوجة، التي غيبها المرض عن الوعي، و اقتحمت الخلوة بصدر ناهد راح يعلو و يهبط. كان “غريب” منهمكا في قراءة أوراده، و لما دنت الجارة، شعر بأنفاسها الحارة تتلاحق، و تنبه إلى وجودها؛ فهب واقفا. و لما جذبته المرأة إليها، كاد يقع عليها كما يقع الظمآن على عين الماء، و لكنه سمع في تلك اللحظة المحمومة هاتفًا يدعوه إلى الفرار من الحريق الذي أوشك أن يشتعل؛ فاستفاق من خدره، و اندفع كالسهم المارق، و في لمح البصر غادر الخلوة، و الدار.
(٤)
على حماره حمل امرأته، وضرب في الصحراء. بينما طارده أهالي النجع برفقة الجارة، التي أعماها الغيظ و الحنق؛ فصبت الإفك في آذان الناس. كان الليل يرخي ظلامه على الخلاء الشاسع. انظر إلى حالك، لقد أصبحت طريدا، فما أغنى عنك طريقك شيئا. ماذا جنيت سوى الأوجاع؟! وارى التراب أبناءك الثلاثة، و تحولت امرأتك إلى أنقاض أنثى، و الآن تحاصرك فضيحة ملفقة، و يطاردك عميان، نسوا سيرتك البيضاء سريعا. راحت الوساوس تموج في رأسه؛ فرنا “غريب” إلى السماء، و راح يتمتم، و يغمغم، و يلتمس النجاة.
أهالي النجع يقتربون حاملين مشاعلهم، و الجارة تنوح، و تنعي شرفها المغدور، و امرأة “غريب” يرتج جسدها فوق ظهر الحمار كمتاع رث، و “غريب” يُعصَر في قمقمه؛ فيعاود التطلع إلى السماء. و فجأة تنير الصحراء، و يظهر الباب الأبيض ذاته على مرمى البصر؛ فيهتز قلب غريب فرحا، و يدفع حماره نحوه، و أهالي النجع يصيحون خلفه؛ فتخترق شتائمهم أذنيه. لكنهم سرعان ما توقفوا عن مطاردته، بعد أن أبهرتهم الزخارف، و النقوش، و هالات النور، التي أحاطت بالباب، الذي فتح للتو.
يقول الدراويش: خلف الباب، حط الطائر، و وضع الرضيع الباكي بين يدي أمه، و ما إن رأت الأم رضيعها حيا، حتى ألقمته ثديها؛ فزايلتها العلة، و راحت تعدو صوب تل أخضر، رأت ولديها الآخرين يتسابقان فوقه. بينما راح غريب يتمايل وسط غزلان الحضرة بقلب أسكرته خمرة اللقاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى