أخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات
د. محمد عبد الله الخولي يكتب قصيدة النثر من الحقيقة إلى التحقق
"تحولات النص وفضاءات التجريب"
مقدمة:
إنّ قصيدة النثر الحقيقية – بمنجزها الإبداعيّ الجاد – استطاعت أن تهشم قانون الشكل الكلاسيكي، وتتجاوزه إلى غيره، حيث انوجدت قصيدة النثر خارج إطار القاعدة التي ارتكزت على الموروث الثقافي (العربي) الذي شكّل ذائقة المتلقي العربي للشعر.
ولكن، هذا التجاوز – الذي مارسته قصيدة النثر – لم يكن تجاوزا من أجل الخروج أو القطيعة مع الماضي، ولكنه الخروج الذي يقتضيه الشعر ذاته؛ فالشعر لا يحده قانون ولا يحيزه إطار الشكل، ولا يخضع لقالب بعينه، فالشعر خارجي مهمته الخروج المستمر على أيّ نظام/ شكل يحاول أن يمارس سلطته عليه، فالشعر سلطة عليا تنقهر تحتها كل السلطات، بل يهيمن الشعر – في حقيقته – على أنظمة التواصل اللغوي شريطة ألّا يخرق قانون اللغة العام، الذي تنضبط به عملية التواصل.
النص الشعري بين سلطة الموروث وتجليات الحداثة:
ظلت القصيدة العربية – ردحا طويلا من الزمن- خاضعة لسلطة الموروث، وكل تحرك ضد سلطة التراث يعد خروجا/خرقا غير مقبول لدى الذائقة العربية، بل تُهاجم كل محاولة للخروج بأقنوم قداسة التراث. لم تكن قصيدة النثر المحاولة الوحيدة للخروج من قبضة التراث إلى فضاءات الشعر المتعالية، فقد سبقتها محاولات لا حصر لها، تتغيا الخروج من قيود النظام، فقد خرج أبو العتاهية على الأسلوب المعتاد في أرجوزته “ذات الأمثال” في العصر العباسي، كما تقولب الشعر في أنظمة الموشحات الأندلسية، وتواءم مع بنيتها الإيقاعية، حيث فرضت البيئة سياقاتها وإيقاعاتها على الشعر العربي لما هاجر إليها، ولم يكن التغيير منصبا على إيقاعات الشعر – وحدها – ولكنه أثر في أدائيات التمثيل اللغوي وتشكلات المجاز في الشعر الأندلسي.
سيظل الشعر – دائما – في حالة خروج مستمر لا تنتهي، ولكن تكمن الإشكالية الحقيقية في اعتراف ذائقة التلقي – المرتهنة بالنموذج التراثي – بتجليات الشعر وأساليبه التي لا تخضع لأي نظام أو سلطة. ولذا، مارس التلقي عنفه على قصيدة النثر التي خالف نموذجها ما انبنت عليه أنظمة التلقي العربي للشعر، حيث انحصر الأخير في قيود الوزن والقافية، وقد خرجت عليهما قصيدة النثر دون تورع، وحلقت بالشعر في فضاءات بعيدة لم تكن تعهدها ذائقة المتلقي العربي.
اتسعت الهوة، بين مؤيد لقصيدة النثر ومعارض لها، وارتكزت الإشكالية على قيود الوزن والقافية، وقد أطّر لذلك “ابن قتيبة” في تعريفه للشعر وتحديد ماهيته، بينما يجعل “ابن رشيق القيرواني” للشعر أربعة محددات: الوزن، والقافية، واللفظ، والمعنى، وتسبقهم القصدية التي عبر عنها “ابن رشيق القيرواني” بــ (النية)، فمن وجهة نظر “القيرواني” أنّ الشعر – في حقيقته – لا يقف عند حدود الوزن والقافية، بل يتخطاهما إلى ما هو أعمق من ذلك: (اللفظ- المعنى)، وتشكل الشعر من ديالكتيك متصاعد بين ما هو جمالي (لفظي)، وبين المعنى (الموضوع) الذي ينبني عليه النص الشعري، فالمعنى قابع في بنية النص العميقة مغيب في عملية التخييل، وتتبدى جماليات النص الأسلوبية في عملية التشكيل اللغوي، فلم يتوقف القيرواني عند حدود الوزن والقافية كما فعل “ابن قتية”، ولكنه ارتكز على سمات بنيوية قارة في بنية النص الشعري تتجاوز حدود الوزن والقافية.
بدأ مفهوم الشعر والبحث عن ماهيته يتوسع من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر، فالشعر يستدعي – وفق تشكلاته الأسلوبية المتغايرة – تعريفات متعددة تحاول القبض على ماهية الشعر وحقيقته، ولم نستطع إلى الآن ترسيم حدود نظرية نتعرف من خلالها على الشعر بمفهومه العام، فلم يزل الشعر يتأبّى على جميع التعريفات والأطر النظرية التي تحاول تحييزه في أنماط أسلوبية بعينها. فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نقصي قصيدة النثر عن النوع الشعري؟ ولماذا نرفض الشكل الكلاسيكي – بوسمه – غير قادر على إنجاز مهمته الجمالية؟
لا يملك أحدنا سلطة تمكنه من إقصاء نص أدبيٍّ عن نوعه، ولا يستند رفضنا – لشكل أدبيٍّ – على دعائم نظرية متحققة تمنحنا حق الرفض والقبول، فالشعر في حقيقته وجوهره خارج سلطة النظرية الأدبيّة، لأنه لا يلتزم نسقا جماليا معينا، ولا تيمة أسلوبية محددة، بل يخترق الشعر – دائمًا – كل هذه القوانين التي تحاول تحيينه في أطر أسلوبية بعينها.
لم ننتصف لقصيدة النثر بشكل موضوعي، ولكنها نظرة الاستعلاء الخطابية المتبادلة بين الجانبين، فمؤيد يمنح قصيدة النثر صكَّ الاعتراف دون مبررات منطقية تسمح بوجودها، ومعارض يرفض النص دون أن يعي حقيقة الشعر، ولكنه جعل من التراث حاكما سلطويا وأضفى عليه مسحة القداسة، ليكون أيّ خروج على سلطة التراث مروقا واستعلاءً على الماضي والهوية العربية، وهذا ما نلحظه في قول محمد علاء الدين عبد المولى، في كتابه: “وهم الحداثة – مفهومات قصيدة النثر أنموذجا”،: ” نحن لسنا قاصرين ولا أولادا في روضة العالم، بل نحن جزء من هذا العالم، فإما أن نكون الجزء الفاعل المشارك، وإما أن نرضى بأدوار الكومبارس فتختفي بذلك أصواتنا وملامحنا ونغدو بذلك موظفين في مؤسسة ضخمة أسسها الغرب، كما حدث في الواقع الذي كرسته فينا (قصيدة النثر) بكتابها ونقادها وسدنتها.” ، تمثل مثل هذه الآراء انغلاقا فكريا وتعصبا دون أن ترتكز على مفهومات حقيقية أو دعائم منطقية، ولكنه الهوى الذي يجعل مثل هذه الآراء تبتعد عن مبدأ الحيادية الذي تتجلى عليه حقائق الأشياء. في الجانب الآخر المؤيد لقصيدة النثر تعلو نبرة الاستعلاء الخطابية – أيضًا -، فيقول محمد خالدي: ” بين زمن تآكل وآخر يتآكل ولدت قصيدة النثر على أنقاض هذا العالم الهرم، زهرة وحشية.. جميلة فكانت تخطيا لماض مهزوم وعناقا لمستقبل يزخر بالأمل والحياة والحركة، إنها هندسة لبناء مستقبلي قادر على إيواء أحلامنا الكبيرة، أحلام الملايين التي تنزف الشعر أو تنضح العرق.” ، فبين هذا وذاك تخافت ماهية قصيدة النثر وانسربت حقيقتها في الخطاب النقدي العربي.
لم تشكل قصيدة النثر – في حقيقتها – قطيعة مع تراثنا العربي، ولم يكن خروجها عن نمطية الشكل الكلاسيكي ترفًا أو استعلاءً، فقصيدة النثر – منذ بزوغها الغربي الأول – خرجت عن شروط النظرية الغربية ذاتها. أما دخولها على فضائنا العربي مرتهن بتطلعات الذات الإنسانية التي أصبحت ترى العالم وفق شروطه الجديدة، فلم يكن دخولها – كما يدعي بعضنا – تأثرا بالغرب وتوجهاته الفلسفية، فالأمر بعيد كل البعد عن هذه المساحة الضيقة.
تجاوزت قصيدة النثر سلطة الشكل القديم، بعد أن تجاوزت الذات العربية نظرتها الأحادية، وانفتحت على العالم الجديد، وكان من الضروري أن تسائل هذه الذات تراثها، وتجري معه حوارا دون أن تحدث بينها وبينه قطعية، فهو السؤال المشروع الذي من خلاله نستنطق تراثنا العربي ونرتكز على قاعدته باحثين عن أفق جديد يضمن لنا وجودنا واستمراريتنا في العالم، دون مساس بهويتنا العربية، وليس هذا بجديد ولا مستغرب؛ فكل حضارة جديدة لا بد وأن تنبني على قاعدة حضارة أخرى تكون مرتكزا ومنطلقا في آن.
لقد أحدث القرآن الكريم هزة عنيفة لدى العرب حال نزوله، فقد اخترق القرآن أنظمة التواصل الجمالي لديهم، وأطربهم، واعتمل في وجدانهم، وتأثر ببلاغته الجميع دون استثناء، وكان السبب في هذه الهزة العنيفة أن القرآن الكريم أخترق أنظمتهم اللغوية وأسكتهم وأطربهم دون أن يرتكز على إيقاعاتهم، ولا أوزانهم كما اعتادوها، فقد انبنت جماليات النص المقدس على غير مثال معهود لديهم، فالنص المقدس اعتمد أنماطًا عليا من التنغيم الصوتي التكاملي جعلته منغما مرتلًا دون أن يرتكز على إيقاعاتهم الشعرية وأساليبهم البلاغية، وهذا يعني أن البناءات اللغوية/ النصية لا تحدها أطر ولا قوالب ولا أنماط، وكأنّ القرآن الكريم فتح لنا بابًا واسعا يسمح لنا بالولوج إلى كل ما هو مستقر في تراثنا العربي ومساءلته ومن ثم تطويره.
إن كلَّ تجلٍّ من تجليات الأدب يحمل في طياته دلالة، فالشكل وسيلة الشعر وليس غايته، بل كل شكلٍ يحمل بداخله رؤى الذات الإنسانية وتطلعاتها، “فليس خافيا أنّ قصيدة النثر جاءت في سياق ملمح من ملامح الحداثة وهو التجاوز. وتخليها عن الوزن أو الإيقاع الخارجي ربما يكون أهم خطوة في خطوات هذا التجاوز(…) فخروجها من الشكل إلى اللاشكل مع بقائها في حالة الشعرية، يعني تموجها وصعوبة القبض عليها.” ، إذن، كلُّ تجلٍّ أسلوبي للشعر يتشكل وفق سياقات العالم وتأثر الذات الإنسانية بمتغيرات الحضارة/الواقع من حولها، “والواضح أن قصيدة النثر تجسد الرفض الذي تحمله الحداثة واحدا من مفهوماتها أو حمولاتها. يقول أدونيس: لابد لهذا العالم، إذن، من الرفض الذي يهزه، لا بد له من قصيدة النثر – كتمرد أعلى في نطاق الشكل الشعري. وللآخرين في المجالات الفنية والأدبية والفكرية أن يختاروا رفضهم وأشكاله.” ، فقصيدة النثر تعني التمرد عند أدونيس، ولربما يفهم الرفض على أنّه القطيعة، ولكن باستقراء المشروع الفكري/الشعري لأدونيس، يتلاحظ لدينا: أن الرفض يعني الخروج على سلطة الموروث وبناء فضاءات فكرية تتواءم مع العالم الجديد وما تتغياه الذات الإنسانية في وقتها الآني، دون قطيعة مع التراث، ولكنه التحرر من ربقة السلطة الماضوية، وهذا يعد تحررا تنبني في أفقه هوية عربية جديدة ترتكز على تراثها وتتطلع إلى نموذج إنساني أعلى.
بينما يرى أنسي الحاج أن قصيدة النثر” جزء من مؤامرة على التقليد العربي، ولا نفع لها إن لم تكن هكذا، كما هي خيانة لهذا التقليد الذي لا يعكسنا. ولهذا فهذه الخيانة – في رأيه – ليست شرفا فحسب، بل هي قبل ذلك عمل طبيعي تجاه هذا التقليد الذي يشبه سجنا شرط التحرر منه هدمه على من فيه.” ، ربما يحمل أسلوب أنسي الحاج شيئا من التطرف، بسبب ما تعرض له شعراء قصيدة النثر – في بداياتها – من هجوم شرس على توجههم الشعري المضاد للشكل القديم، وخروج قصيدة النثر على التقاليد العربية للشعر، وبشيء من التأني، تتبدى لنا فكرة أنسي الحاج التي تستبطن – أيضا – معنى التجاوز/الخروج من عباءة التراث لتحدث حالة من المواءمة بين المنتج الشعري ومآلات الذات الإنسانية وتطلعاتها، وهذا يعني “أنّ الشكل – أيّ شكل – له طابع أيديولوجي، كما يقول ليون تروتسكي: إنّ ما يحدد العلاقة بين الشكل والمضمون فعلا هو أن الشكل الجديد يتم اكتشافه وظهوره وتطوره، تحت ضغط حاجة ملحة لمطلب نفسي جماعي له- شأن أي شيء آخر – جذوره الاجتماعية. ومعنى ذلك أنّ التطورات المهمة في الشكل الأدبي تنتج عن تغيرات مهمة في الأيديولوجيا، وتجسد طرائق جديدة في إدراك الواقع الاجتماعي.” ، ولكننا لم ندرك معنى التجاوز الذي تنشده قصيدة النثر، واعتصم بعضنا بهوية تمثل أصحابها، وإن كنا نعي الحقيقة – منذ البداية – ما تناحرت الذوات ولا اختلفت الرؤى حول أيّ تجلٍّ شعري تنتجه الذات الإنسانية، تلبية لتطلعاتها، وانسجاما مع سياقاتها الحضارية الجديدة.
قصيدة النثر: وحدة النوع وتجليات النظائر:
ربما تتفكك إشكالية قصيدة النثر إذا اعتمدنا على “وحدة النوع الأدبي”، فالأخير يحمل سمات/مكونات بنيوية تضمن انتساب كل نص أدبيٍّ لنوعه وفق هذه المكونات البنيوية التي ينشأ النص على قاعدتها، فكل نص شعري يتكون من مكونين: بنيوي (شعري)، وجمالي (أسلوبي)، فالأخير متغير يختلف من نص لنص، بينما الأول ثابت لا يتغير، فالمكونات البنيوية قارة في بنية النص، وهي التي من خلالها يتحدد النوع الأدبيِّ، “أما المكون الثاني للنوع النووي فتحدده – على نحو عام- المكونات البنيوية التي دل عليها وجودها المتحقق في آلاف التجليات المختلفة لنوع ما، وهي مكونات بنيوية تقاطعت فيها هذه التجليات المختلفة المنتمية إلى شعريات ثقافية عديدة(…) وعندما تدخل عناصر جمالية جديدة من خارج عناصر هذا المتكافئ “Isomer”، فإننا نطلق على هذه الحالة اسم النظير “Isotope”، وعدد النظائر في كل نوع هو عدد لا نهائي، ولا يمكن حصره. وتشكل هذه النظائر “الأيسوتوب”، بسبب التعود الطويل على وجودها، ممارسة واستقبالا، شبكة من الأعراف الفنية والتقاليد الجمالية التي تؤدي إلى الخلط بين البنيوي والجمالي.” ، إذن، يتوجب على المتلقي – بطريقة أو بأخرى – أن يبحث عن المكونات البنيوية التي تنسب النص إلى نوعه الأدبي، وأن يفرق بين المكونين: البنيوي – الجمالي، وقد أسس علاء عبدالهادي لنموذج النوع النووي تطبيقا على المسرح في كتابه ” مقدمة إلى نموذج النوع النووي”، بينما أسس محمود الضبع لنموذج النوع النووي مطبقا ذلك على قصيدة النثر بعزل مكوناتها البنيوية عن الأخرى الجمالية، فيقول: ” وقد رأينا كيف أنّ السمات التي التصقت بالشعر عبر مراحله وعصوره جميعها من وزن وقافية وخلافه ليست سماتا أصيلة فارقة لتميز العمل الشعري عما سواه من الأنواع الأدبيّة، لأنها تتحقق فيه وفي غيره، أو على الأقل تسقط عنه عبر التاريخ، ويبقى النوع هو النوع.” ، إذن، يؤكد الضبع في تأسيسه للنوع النووي لقصيدة النثر أنّ هناك سمات أسلوبية نتوهم أنها من مكونات النوع، ولكنها مجرد نظائر/ عناصر جمالية ليس من شأنها أن تلحق النص بنوعه الأدبيّ كالمكونات البنيوية، إذ الأخيرة ثابتة/ قارة من خلالها تتم عملية التجنيس الأنواعي، بينما الأولى، تجليات جمالية متغيرة تختلف من ثقافة إلى أخرى ومن نص إلى نص آخر.
بناء على هذه المكونات البنيوية – التي تحتاج إلى فعل التلقي – نستطيع أن نميز قصيدة النثر الحقيقية التي نتغياها، من تلك الشوائب التي علقت بقصيدة النثر، وليست منها في شيء، فقد اختلط الأمر على كثيرين، واستعصت عليهم عملية القبض على حقيقة قصيدة النثر، نظرا، لغياب المكونات الجمالية التي توهمها بعضنا ميزانا نفرق به بين الشعر واللاشعر، فعندما استعاضت قصيدة النثر بالإيقاع الداخلي عن الوزن والقافية استدخل على الشعر ما ليس منه عبر ما اصطلحنا عليه بقصيدة النثر، ولذا، يقول سامي مهدي: “قصيدة النثر حائط صغير يغري بتسلُّقه كلّ ذي رجلين.”، وهنا تكمن إشكالية قصيدة النثر بعد أن تحللت من الوزن والقافية وتغيرت أنماط التخييل فيها، وتحولت من شعر يرتكز على الصورة وفضاءاتها إلى شعر يعتمد على السرد التعبيري الذي لا يقصد منه الحكاية بل التعبير المجازي بالسرد، حيث يتحول الأخير إلى تقنية تؤسس لجمال شعري مغاير، كالذي نلحظه في قصيدة “صلاة” للشاعر أحمد سلامة الرسيدي، والتي يقول فيها:
في الليالي الطويلة حين يرقد الناس والعصافير، ويصبح رأسي بحجم
غرفتين كبيرتين، مفتوحتين على شارعٍ عموميّ، أقول بعشم صديقين
قديمين: “يا قلبي، يا قطعة الفحم النابضة، لا تقف شاهدًا ضدي”
في الصباحات، قبل أن تصحو الغرانيق بجناحين بيضاوين وشهيةٍ
مفتوحة، أقول: “يا قلبي، يا بقايا الرز في طبقٍ أبيض،
أيها الدودة الكبيرة التي تحفِر صدري، لا تقف شاهدًا ضدي”
حين أمرّ في الشارع الهادئ خلف كنيسة سان چوزيف،
خائفًا من المنعطف القادم، مكرّرًا آلاف الخطوات القديمة،
والوجوه التي رافقتني وحفظتها جيدًا شبحيّةً تمر أمامي،
أقول: “يا قلبي، يا تاج الشوك المُورِق، أيها الصليب المعلق
بين أجنحة الحمام، لا تقف شاهدًا ضدي”
عند كل صلاةٍ وخلف كل خطيئة، في العتمة وفي النور،
في حضن حبيبتي أو ساحة المعركة، أقول: “يا قلبي، أيها اللحم السميك
الدافئ، أيها الغشاء الرقيق، أيها الماء البارد والجمرة المتقدة،
آهٍ لا تقف شاهدًا ضدي، ليس الآن، ليس أبدًا، ليس أنت”
توسَّل الشاعر بالسرد تقنية يتأسس عليها النص الشعري “صلاة”، ولكنه السرد الذي لا يعمد إلى حكاية في الواقع بعينها، وليس له مرجع سوى الذات الشاعرة، التي تحول السرد من خلال البنية الجمالية للنص إلى سرد تعبيري يحمل انفعال الذات.
بناء على وحدة النوع النووي، كيف لنا أن ننسب هذا النص للشعر؟ ولا أقول قصيدة النثر. استدعى هذا النص مكونات سردية/ حكائية: الزمان، المكان، الحوار، فعل الحكي المضمر في بنية النص. إذا طرحنا هذه المكونات السردية – بوصفها نظائر جمالية – خارج النص تتجلى لنا المكونات البنيوية (الشعرية) التي من خلالها ينتسب النص لنوعه الشعري، فعند طرح النظائر/التجليات السردية (الجمالية) – إجرائيا – خارج النص تتمظهر لنا اللغة الشعرية المحضة، بعد أنْ هشَّم الشعر هذه المكونات السردية، وهيمن بسلطته على النص؛ فالزمن الذي ابتدر به الشاعر نص “صلاة” هو زمن شعري (نفسي): “في الليالي الطويلة حين يرقد الناس والعصافير، ويصبح رأسي بحجم غرفتين كبيرتين، مفتوحتين على شارعٍ عموميّ” فالليالي الطوال ليست مفتتحا لزمني حكائي/سردي تننبني عليه حكاية مقصودة لذاتها. حتى المكان/ الأماكن التي ارتكز عليها النص ليست مقصودة لذاتها، فكل مكان – في النص – يحمل دلالة نفسية تتموسق مع الشعوريات الداخلية للذات: الشارع/ كنيسة سانت جوزيف/أجنحة الحمام/حضن حبيبتي/ساحة المعركة/خلف كل خطيئة. تتوزع الأماكن في نص “صلاة” بين ما هو حقيقي له نظير في الواقع: الشارع/ كنيسة سانت جوزيف/ ساحة المعركة. وأماكن أخرى شعرية تحمل دلالات نفسية تم تجسيدها عن تطريق التصوير/الصورة الشعرية: أجنحة الحمام/ حضن حبيبتي/ خلف كل خطيئة. إذن، هذه الأماكن – في الحيز النصي – لا تصلح أن تكون مسرحا لحدث حقيقي- متخيل، فالزمان والمكان – بوصفيهما تقنيات سردية – وقعا تحت سلطة الشعر، وتم تطويعهما لخدمة النص. إذن، بعد هذا الفصل الإجرائي وعملية التحليل، لا يجوز لنا نسبة النص إلى السرد الشعري، بل هو الشعر ذاته الذي استدخل إلى عالمه تقنيات السرد التي انبنت عليها جماليات قصيدة النثر الحديثة، “فالسرد هو صورة لتفعيل حركة الزمان والمكان في ارتباطهما بالذوات والفضاءات والأشياء.” فهذه الحركية المفرطة في نص “صلاة” كان سببها استدخال السرد على بنية النص، حيث تحول الحوار المضمر (الصامت) في عوالم الذات إلى حركة عن طريق تشغيل تقنيات السرد الكتابية.
جماليات قصيدة النثر:
إنْ لم تحمل قصيدة النثر جماليات مغايرة تنماز بها عن غيرها، من الأشكال الشعرية الأخرى، فقدت بريقها، وأصبحت عبئاً على الأدب. انمازت قصيدة النثر بخصائص أسلوبية وموضوعية انفردت بها عما سواها من الأشكال الأدبية/الشعرية الأخرى، وأصبحت تلك الخصائص حكرا على قصيدة النثر لا يزاحمها فيها شكل شعري آخر، ولذا، استقرت قصيدة النثر – بتشكلاتها المختلفة – على المسرح الأدبي، وأصبحت فضاءً شعريا مغايرا، ليس هذا فحسب، ولكنها خلقت لنفسها نمطا تواصليا جماليا خاصا، مركوزا في بنية التلقي بعد أن مارس عليها الأخير عنفه حين ظهورها. ونعرض لهذه الجماليات على هذا النحو:
1- التجريد اللغوي وواقعية المتخيل:
إنّ اللغة التي تعتمد عليها قصيدة النثر لا تنشغل بالمعاني قدر انشغالها بالشعوريات الإنسانية، فهي لغة تجريدية، تصنع عالمها الجمالي وأفقها التواصلي من خلال ارتكازها على عالم الشعوريات/ الأحاسيس الإنسانية، فاللغة الشعرية، إما أن تستغرق في عالم المعاني فتخفت الأحاسيس، ويتخافي الجانب الوجداني فيها، وهذا يدل على طغيان عوالم التخييل على النص الشعري. أما قصيدة النثر فتعتمل لغة خاصة، تنقل إحساس الذات بالواقع وما ينتاب الذات الإنسانية من انكسارات، ولذلك، – تستطيع قصيدة النثر – مع مستوى الترميز الذي يختلج بنيتها أحيانا – أن تصنع لنفسها نسقا تواصليا خاصا، تتبدى من خلاله جماليات النص والشعوريات الوجدانية في آن، ومهما توغلت قصيدة النثر في رمزيتها وفضائها الشعري، يظل الجانب الوجداني ملمحا واضحا، وسمتا أصيلا فيها، ومن عجب، أن لغة قصيدة النثر سهلة التناول/ التلقي مع استغوارها في فضاء التخييل، وقد وجدنا هذا السمت الأسلوبي في نماذج كثيرة في قصيدة النثر، كـ “عشاقٌ على قدر ما يُزهر الليل” للشاعر هاني عويد:
المنفيون..
الذينَ بلا مساحةٍ
يطردُهم خيالُهم للجحيم،
أو إلى أقرب حائطٍ لليأس.
لا يتسع النهارُ سوىَ لاستهلاكهم الدقيق..
نقودُهم أحيانًا لا تكفي مقعدًا في الباص
الأسفلتُ يقظٌ لسكناتهم، وحركاتهم،
ومرارةِ حلقهم
يقظٌ، وساخنٌ..
يقطعونَ العمرَ بنفس الوتيرة،
ينفضونَ أحلامَهم كلَّ صباح
كامرأةٍ من شرفتها تَطيح بالكسلِ النائمِ فوقَ الملاءات.
لا تظنُّ أنهم يكرهونهَا
يُحبونهَا ببراعة نفسِهم الغريقة..
ولكنَّ طاقة الاحتمالات حرقتْ أعصابَهم
كسيجارةٍ ماتتْ من الوهج.
عُشاقٌ على قدر مَا يُزهر الليل
يَأنسونَ لشوارع المدينة..
قبل أن يحذفوا منهَا الحدائق،
وأعشاشَ العصافير
وترتفعُ الأرصفةُ والأسوارُ،
والأبراجُ المقبيَّةُ على الفزع!
طبيعيون مثلي ومثلك..
لا يذهبون إلى السينما أيام الخميس،
لا يشتبكون في معارك بعيدة عن رواتبهم،
وقضايا مرفوعة أمام الله،
والحياة.
قسرًا..
تجرُّهم الظروفُ لغابتِها الملتفّة
ينسجونَ وهمَهم،
وينسجمونَ معه..
فيمَا ضميرُ الغائبِ يقول:
مَنْ نزع الرحمةَ مِن الفراغ؟
آليُّونَ..
فلا تستغرب إذا لَم يلتفت لكَ أحدٌ
وهو عائدٌ من حربهِ الداخليةِ..
السِّهامُ المصوَّبة تحتاجُ لسوبر مان،
والدروعُ غيرُ كافية.
أسمِّيهم المنفيينَ..
لكونهم علقوا في ترسٍ لا يتوقف.”
تكمن عبقرية اللغة في النص السابق، حيث استطاع الشاعر أن يصنع فضاءه التخييلي/الجمالي دون أن تتورط لغة النص في ذلك؛ لأن فعل الحكي المضمر في بنية النص حدّ من جموح/ طغيان عوالم التخييل على لغة القصيدة، فاحتفظت الأخيرة لنفسها بمستوى أدائيٍّ خاص، وجعلها قريبة من لغة الحياة اليومية؛ بغية ألا تنفصل عن الواقع الذي تعانيه الذات الإنسانية.
2- هيمنة الذات وتغييب الموضوع:
تهيمن ذات الشاعر في قصيدة النثر على النص بصورته الكلية، وهيمنة الذات تعلي من قدر اللغة الشعرية المعبرة عن وعي الذات وسؤالها للوجود، وهذا من شأنه، أن يغيب الموضوع في بنية النص، كما تنفصل اللغة الشعرية عن سياقات موضوعها، فتصبح لغة النص صوت شاعرها، فــ “مع حركة الحداثة الشعرية صار الشعر صوت قائله، أي صوتا داخليا لا خارجيا تفرضه القبيلة أو السلطان أو المناسبات القومية أو الاجتماعية(…) ويبدو أن غياب الموضوع هو أحد المبادئ أو الطرائق الفنية التي ينتجها شعر الحداثة؛ يقول مالارميه: تسمية الموضوع تحطيم ثلاثة أرباع الاستمتاع بالقصيدة.” ، فقصيدة النثر التي انبنت – في أساسها – على الرفض والتمرد تلتحم بالذات الإنسانية، وتنفصل عن الواقع انفصالا يضمن للذات الإنسانية استقلاليتها، وهذا من شأنه أن يعلي من قدر اللغة الشعرية،، فتنفتح القصيدة على مسارات متعددة من التأويل، ففي نص “أدخن عقائدي” للشاعرة لبني حمادة يتخافى الموضوع النصي وتتمظهر الذات بشعورياتها مهيمنة على النص، وقد تبدّى هذا الأمر من خلال الفعل المضارع -الذي يستبطن (أنا) الذات- فقد احتل الفعل المضارع مساحة كبيرة من الحيز النصي، فتقول: أدخن، أنتظر، أتجاهل، أتابع، أتناول، أمارس، أحب، ألد، أصرخ، أزرع، أحفر، أعرف، أهرب. فالذات التي تعاني وحدتها في الواقع، تمارس حياتها مع انفصالها عن واقعها، ولكنها تحاول أن تفرد لنفسها مساحة خاصة في هذا العالم، فهي: تصاحب الجثث منتهية الصلاحية، تتابع الرسوم المتحركة، تتناول عقاقيرها بأدب وانتظام، تصرخ قدر المباح، تلد قططا أليفة بلا عيون، تزرع صبارا على جانبي على الطريق. ينفتح النص هنا على مسارات متعددة من التأـويل بعد أن غيب الموضوع وتلاشى في اللغة الشعرية التي تحمل معاناة الذات وانكساراتها، فكما حدث انفصال بين الذات والموضوع في العالم الخارجي، انفصلت اللغة عن الموضوع/الواقع في النص، ولكن الذات التي لم تجد لها مساحة في العالم، أوجدت لنفسها عالما معادلا في النص عن طريق اشتغال الفعل المضارع، الذي يستبطن (أنا) الذات في تركيبه اللغوي، وهذا يتجلى من خلال مطالعة النص وتحليله:
أدخن عقائدي
أنتظر النهاية بهدوء عجيب
اعتادت خطاي ثقل الفساد الناشع من
أنهار العطش
ألفتُ رائحة الفورمالين التي تعبئ الأجواء
صاحبت الجثث منتهية الصلاحية
جثث النساء إلى حفلات السمر
جثث الرجال للأسرة الباردة
والأطفال إلى كورال الميادين
أتجاهل الإشارات المختبئة في رأس العالم عمدًا
خوفا من أن تمسني لعنة باريدوليا
وكخيط أبيض تعثر بين خيوط رمادية باهتة
أتابع الرسوم المتحركة كل نشرة أخبار
أتناول عقاقيري بأدب
أدخن عقائدي المسرطنة بحميمية
أمارس العادات حسب التوقيت العالمي المشرع
أنثر دهشتي بعيون بليدة
وأصرخ قدر المباح
يمكنني مؤقتًا أن أكون طيعة
أحب مرات
ألد قططا أليفة بلا عيون
حمائم تصلح للحشو
أزرع الصبار على جانبي الطريق إلى هناك
وأحفر خنادق تتسع للمصابين بالحمى
الليل
الخيال
التجربة…
كلها ثقوب ضيقة..
احتمالات لا تفي بالغرض
أعرف هذا جيدا
يمكنني فعل ذلك…
كتابة سيناريوهات لألف قيامة
وتحقيق أعلى نسبة مبيعات كل مرة
يمكنني التعايش بود مصطنع
يليق باعوجاج الحياة
أهرب من اتساع سؤال قديم
ليتلقفني قادم عتيم
ويربت على رأسي جواب أبله
يمكنني ألا أحدث جلبة
ألا أفتش عن كائنات أكثر دهاء…
تدور حول الحقيقة
وتؤمن بتوازي العوالم
يمكنني ألا أعاقب أحدا هنا
ألا أنتحر
يمكنني أن أنتظر..
هكذا بكل رشاقة ونضج..!”
3- التبئير المشهدي وأنسنة الأشياء:
عندما تنطوي الذات الإنسانية وتنفصل عن العالم، يتسع الأخير أمامها، وتجد الذات براحا للتأمل، وعمق الرؤية، وفلسفة الأشياء واستنطاقها، ويتحول العالم بأشيائه إلى مرايا تتجلى عليها بواطن الذات الإنسانية. إنّ الشعور بالوحدة – في عالمنا – يدفع الإنسان – لا سيما المبدع – إلى أنسنة الأشياء من حوله، ليكون فعل (الأَنْسَنَةِ) تعويضا عن الوحدة التي تكابدها الذات، ولذا، يعمد الشاعر/المبدع إلى عملية التبئير المشهدي، حيث يسلط الضوء على مشهد حياتي بعينه، ويستنطق من خلاله العالم وأشياءه. فأحيانا تصبح هذه الأشياء مرايا نستنطق من خلالها الذات الإنسانية، وأحيانا تؤنسن هذه الأشياء لتكون تعويضا عن الفقد الذي تعانيه الذات الإنسانية في العالم. كثير من شعراء قصيدة النثر يجربون في هذا المضمار، ولكن تخدعهم بنية السرد فتتحول القصيدة إلى حكاية مباشرة لا تحمل جماليات قصيدة النثر، وتبتعد عن الشعر بقدر اقترابها من الحكاية، بينما شعراء آخرون، لا يتورطون مع الحكاية، ويظل الشعر مهيمنا بلغته وأسلوبه، فتتحول الحكاية/ السرد إلى مجرد تقنية جمالية، فتخلص القصيدة إلى الشعر وحده مستغرقة في فضائه الجمالي، كما في نص “إبرة” للشاعر عبدالمنعم شتيوي:
كنت إبرةً
أحتسي الخيوطَ بشغفٍ مدببٍ
آمُرُ أنسجةَ العاطفةِ بالالتئامِ
فتنصاعُ كقطٍ أليفٍ
لا مفرَ من الأملِ
الألم
لا التزاماتٍ عليّ
سوى اختراقِ ما يقعُ تحت طائلتي بحبٍ
ألتوي
أستقيمُ
أنغرزُ
أهربُ ضاحكةً
وأعودُ أدراجي أرتدي ابتساماتِ البشرِ
كنت صديقةٌ حميمةٌ
لأصابعِ جدةٍ سبعينيةٍ
نتجاذبُ أطرافَ التفاؤلِ والعملِ
أقفُ علي أطرافِ أصابعي مشدوهةً
حينما تمشطُ شعرَ كراتِ الخيطِ
وتتركُ الألوانَ تنسابُ من شرائطِهن
لتوزعَ البسماتِ فوق غيماتِ المعاطفِ
علبةُ خردواتٍ تتنفسُ أناملُها
وحين ماتت
انقطعَ النفسُ
تيتمت كراتُ الخيطِ
وأصيبَ جسدي بالصدأ.”
4- جماليات التناص في قصيدة النثر:
خروج قصيدة النثر عن قيود الوزن والقافية أتاح لها الفرصة أن تخلق فضاءات جمالية، ربما لا تسمح بها قيود الوزن والقافية في نمط/ شكل شعري آخر، وهذا ما مكَّن قصيدة النثر من خلق مفارقات بلاغية ، أظنها، لا تنوجد إلا في قصيدة النثر دون غيرها، لا سيما اعتمادها على إيقاعها الداخلي الذي يجعل هذه المفارقات البلاغية متسقة مع بنية الإيقاع النصي، فلا تنعزل بلاغة النص وجمالياته عن الإيقاع الداخلي، الذي يجعل من قصيدة النثر جملة شعرية واحدة، حيث تندغم بلاغة النص مع بنية الإيقاع – الذي شكلته التجربة – ويشكلان نسقا جماليا يخص قصيدة النثر دون غيرها. إن التقنيات الفنية التي تعتمدها القصيدة الموزونة بنمطيها: العمودي- التفعيلة، لها سقف محدد وأطر معينة، لا يستطيع الشاعر خرقها أو تجاوزها، فهو مرتهن بالمسافة الزمنية التي يفرضها عليه القالب العروضي، ولكن هذه التقنيات تجد براحا ومتسعا في قصيدة النثر، التي تخلق إيقاعها وفق تجربتها الخاصة، فالتناص – بوسمه تقنية فنية – تتبّدى جمالياته في قصيدة النثر أكثر من غيرها، فالشاعر يستطيع أن يستلهم النص الأول، ويستدخله في بنيته النصية ثم يوظفه بما يتلاءم مع المرتكز الموضوعي للنص، وعندها، تحدث مفارقات بلاغية/جمالية تنتج عن احتكاك النصين بعيدا عن إكراهات الوزن والقافية، كما في نص “بندقية” للشاعر إبراهيم المصري:
ولئن بسطتَ يدَك لتقتلني
لن أنتظر، سأقطعُ يدَك
سأذبحكَ من الوريد إلى الوريد
سأشقُّ بطنكَ وأدلقه طعامًا
للوحشِ وآكلي الجيف
سأبصقُ على وجهكَ وقلبك
ولن أطلبَ لكَ الرحمةَ أبدًا
لقد تعلمتُ أخيرًا وجيدًا
… درسَ الغابة.”
إن قصيدة النثر ليست نوعا قائما بذاته، فهي نوع شعري ينتمي وفق مكوناته البنيوية للشعر، وهي تجلٍّ من تجليات النوع الشعري، يحمل في طياته صورة الذات الإنسانية وحضارتها الجديدة. قصيدة النثر طموح إنساني يرتكز على التمرد والرفض والانفصال، فهذا التجلي الشعري – المتجسد في قصيدة النثر – يحمل في أنساقه الجمالية صورة العالم الجديد، وحلم الذات الإنسانية واستقلالها، هذا الشكل بمثابة ثورة على التقاليد وسلطة التراث الذي وقع الإنسان في أسره ردحا طويلا من الزمن. قصيدة النثر نمط من أنماط التحقق الذاتي وحرية الإنسان.





